الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 358 ] كتاب الحجر

وأسبابه : الصغر والجنون والرق ، ولا يجوز تصرف المجنون والصبي الذي لا يعقل أصلا ، وتصرف الذي يعقل إن أجازه وليه ، أو كان أذن له يجوز ، والعبد كالصبي الذي يعقل; والصبي والمجنون لا يصح عقودهما وإقرارهما وطلاقهما وعتاقهما ، وإن أتلفا شيئا لزمهما ، وأقوال العبد نافذة في حق نفسه ، فإن أقر بمال لزمه بعد عتقه ، وإن أقر بحد أو قصاص أو طلاق لزمه في الحال ، وبلوغ الغلام بالاحتلام أو الإحبال أو الإنزال ، أو بلوغ ثماني عشرة سنة ( سم ) . والجارية بالاحتلام ، أو الحيض ، أو الحبل ، أو بلوغ سبع عشرة سنة ( سم ) ; وإذا راهقا وقالا بلغنا صدقا ، ولا يحجر على ( سم ) الحر العاقل البالغ وإن كان سفيها ينفق ماله فيما لا مصلحة له فيه . ثم إذا بلغ غير رشيد لا يسلم إليه ماله ، فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة سلم إليه ماله ، وإن لم يؤنس رشده ( سم ) وإن تصرف فيه قبل ذلك نفذ )

ولا يحجر على الفاسق ، ولا على المديون ، فإن طلب غرماؤه حبسه ، حبسه حتى يبيع ويوفي الدين ، فإن كان ماله دراهم أو دنانير والدين مثله قضاه القاضي بغير أمره ، وإن كان أحدهما دراهم ، والآخر دنانير أو بالعكس باعه القاضي في الدين ، ولا يبيع العروض ولا العقار ، وقالا : يبيع وعليه الفتوى ، وإن لم يظهر للمفلس مال فالحكم ما مر في أدب القاضي ، ولا يحول بينه وبين غرمائه بعد خروجه من الحبس يلازمونه ، ولا يمنعونه من التصرف والسفر ، ويأخذون فضل كسبه يقتسمونه بينهم بالحصص .

[ ص: 358 ]

التالي السابق


[ ص: 358 ] وهو في اللغة : مطلق المنع ، ومنه حجر الكعبة ؛ لأنه منع من الدخول فيها ، وسمي الحرام حجرا ؛ لأنه ممنوع من التصرف فيه .

وفي الشرع : المنع عن أشياء مخصوصة بأوصاف مخصوصة على ما يأتيك إن شاء الله تعالى .

( وأسبابه : الصغر والجنون والرق ) لأن الصغير والمجنون لا يهتديان إلى المصالح ولا يعرفانها فناسب الحجر عليهما ، والعبد تصرفه نافذ على مولاه فلا ينفذ إلا بإذنه .

قال : ( ولا يجوز تصرف المجنون والصبي الذي لا يعقل أصلا ) لعدم الأهلية .

( وتصرف الذي يعقل إن أجازه وليه أو كان أذن له يجوز ) لأن الظاهر أن الولي ما أجاز ذلك إلا لمصلحة راجحة نظرا له وإلا لما أجاز .

( والعبد ) مع مولاه . ( كالصبي الذي يعقل ) مع وليه ؛ لأن الحق للمولى فإذا أجازه جاز .

قال : ( والصبي والمجنون لا يصح عقودهما وإقرارهما وطلاقهما وعتاقهما ) قال - عليه الصلاة والسلام - : ( كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه " والعتق تمحض ضررا ؛ ولأنه تبرع [ ص: 359 ] وليسا من أهله ، وكذلك الإقرار لما فيه من الضرر ، وكذلك سائر العقود لرجحان جانب الضرر نظرا إلى سفههما وقلة مبالاتهما وعدم قصدهما المصالح .

قال : ( وإن أتلفا شيئا لزمهما ) إحياء لحق المتلف عليه ، والضمان يجب بغير قصد كجناية النائم والحائط المائل ؛ ولأن الإتلاف موجود حسا وهو سبب الضمان ، فلا يرد إلا في الحدود والقصاص ، فيجعل عدم القصد شبهة ، وينقلب القتل في العمد إلى الدية على ما يعرف في بابه إن شاء الله تعالى .

قال : ( وأقوال العبد نافذة في حق نفسه ) لأهليته .

( فإن أقر بمال لزمه بعد عتقه ) لعجزه في الحال وصار كالمعسر .

( وإن أقر بحد أو قصاص أو طلاق لزمه في الحال ) لأنه في حق الدم مبق على أصل الحرية ، ولهذا لا ينفذ إقرار الدعوى عليه بذلك ولا يستباح بإباحته . وأما الطلاق فلقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا يملك العبد إلا الطلاق " ولأنه أهل ولا ضرر فيه على المولى فيقع .

قال : ( وبلوغ الغلام بالاحتلام أو الإحبال ، أو الإنزال ، أو بلوغ ثماني عشرة سنة . والجارية بالاحتلام ، أو الحيض ، أو الحبل ، أو بلوغ سبع عشرة سنة ) لأن حقيقة البلوغ بالاحتلام والإنزال . قال - عليه الصلاة والسلام - : " خذ من كل حالم وحالمة دينارا " أي بالغ وبالغة ، والحبل والإحبال لا يكون إلا به ، والحيض علامة البلوغ أيضا ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " لا صلاة لحائض إلا بخمار " أي بالغ; وأما البلوغ بالسن فالمذكور مذهب أبي حنيفة ، وقالا : بلوغهما بتمام خمس عشرة سنة لأنه المعتاد الغالب .

[ ص: 360 ] وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : " عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني ، وعرضت عليه في السنة الثانية فأجازني " وله قوله تعالى : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ) . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : ثماني عشرة سنة ، وهي أقل ما قيل فيه ، فأخذنا به احتياطا ، هذا أشد الصبي ، فأما أشد الرجل فأربعون ، قال الله تعالى : ( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ) والأنثى أسرع بلوغا فنقصناها سنة; فأما الحديث فالنبي - عليه الصلاة والسلام - كان يجيز غير البالغ ، فإنه روي " أن رجلا عرض على النبي - عليه الصلاة والسلام - ابنه فرده ، فقال : يا رسول الله أترد ابني وتجيز رافعا وابني يصرع رافعا ؟ فأمرهما فاصطرعا فصرعه فأجازه " . وأدنى مدة يصدق الغلام فيها على البلوغ اثنتا عشرة سنة ، والجارية تسع سنين ، وقيل غير ذلك ، وهذا هو المختار .

( وإذا راهقا وقالا بلغنا صدقا ) لأن ذلك لا يعرف إلا من جهتهما ، فيصدقان فيه إذا احتمل الصدق .

قال : ( ولا يحجر على الحر العاقل البالغ ، وإن كان سفيها ينفق ماله فيما لا مصلحة له فيه ) وقالا : نحجر عليه ويمنع من التصرف في ماله نظرا له ، لأنا حجرنا على الصبي لاحتمال التبذير ، فلأن نحجر على السفيه مع تيقنه كان أولى ، ولهذا يمنع عنه ماله ولا فائدة فيه بدون الحجر ؛ لأنه يمكنه التبذير بما يعقده من البياعات الظاهرة الخسران ، وقد روي " أنه - عليه الصلاة والسلام - باع على معاذ ماله وقضى ديونه " وباع عمر - رضي الله عنه - مال أسيفع جهينة لسفهه .

[ ص: 361 ] ولأبي حنيفة ما روي : أن حبان بن منقذ كان يغبن في البياعات فطلب أولياؤه من النبي - عليه الصلاة والسلام - الحجر عليه ، فقال له : " إذا ابتعت فقل لا خلابة وفي الخيار ثلاثة أيام " ولم يحجر عليه ؛ ولأنه مخاطب فلا يحجر عليه كالرشيد ؛ ولأنه لا يدفع الضرر عنه بالحجر فإنه يقدر على إتلاف أمواله بتزويج الأربع وتطليقهن قبل الدخول وبعده في كل يوم ووقت ، ولا معنى للحجر عليه لدفع الضرر عنه ، ولا يندفع ؛ ولأن الحجر عليه إهدار لآدميته وإلحاق له بالبهائم ، وضرره بذلك أعظم من ضرره بالتبذير وإضاعة المال ، وهذا مما يعرفه ذوو العقول والروس الأبية ، ولا يجوز تحمل الضرر الأعلى لدفع الضرر الأدنى حتى لو كان في الحجر عليه دفع الضرر العام جاز كالمفتي الماجن ، والطبيب الجاهل ، والمكاري المفلس لعموم الضرر من الأول في الأديان ، ومن الثاني في الأبدان ، ومن الثالث في الأموال .

وأما حديث معاذ قلنا : إنما باع ماله برضاه ؛ لأن معاذا لم يكن سفيها ، وكيف يظن به ذلك وقد اختاره - صلى الله عليه وسلم - للقضاء وفصل الحكم ، وكذلك بيع عمر رضي الله عنه ، وقيل كان يبيع الدراهم بالدنانير وأنه جائز ، والحجر عليه أبلغ عقوبة من منع المال فلا يقاس عليه ، ومنع المال عنه مفيد ؛ لأن غالب السفه يكون في الهبات والنفقات فيما لا مصلحة فيها ، وذلك إنما يكون باليد; وإذا حجر عليه القاضي ورفع إلى قاض آخر فأبطله جاز ؛ لأن القضاء الأول مختلف فيه ولا قضاء في مختلف فيه ، فلو أمضاه الثاني ثم رفع إلى ثالث لا ينقضه ؛ لأن الثاني قضى في مختلف فيه فلا ينقض ، ثم عند أبي يوسف : إن كان مبذرا استحق الحجر فينفذ تصرفه ما لم يحجر عليه القاضي ، فإذا صلح لا ينطلق إلا بإطلاقه . وقال محمد : تبذيره يحجره وإصلاحه يطلقه نظرا إلى الموجب وزواله . ولأبي يوسف : أنه فصل مجتهد فيه فلا بد من القضاء ليترجح به .

( ثم ) عند أبي حنيفة . ( إذا بلغ غير رشيد لا يسلم إليه ماله ) لعدم شرطه ، وهو إيناس الرشد بالنص .

( فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة سلم إليه ماله ، وإن لم يؤنس رشده ، وإن تصرف فيه قبل ذلك [ ص: 362 ] نفذ ) وقالا : لا يدفع إليه ماله حتى يؤنس رشده بالنص ، ولا يجوز تصرفه فيه لأن علة المنع السفه ، فيبقى ببقائه . ولأبي حنيفة قوله تعالى : ( ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ) وهذا إشارة إلى أنه لا يمنع عنه إذا كبر ، وقدره أبو حنيفة بهذه المدة ، لأن الغالب إيناس الرشد فيها ، ألا ترى أنه يصلح أن يكون جدا .

وعن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : ينتهي لب الرجل إلى خمس وعشرين سنة ، وفسر الأشد ذلك في قوله تعالى : ( حتى يبلغ أشده ) وتصرفه قبل ذلك نافذ ، لأن المنع عنه للتأديب لا للحجر ، فلهذا نفذ تصرفه فيه .

ثم نفرع المسائل على قولهما فنقول : إذا حجر القاضي عليه صار في حكم الصبي ، إلا في أشياء فإنها تصح منه كالعاقل ، وهي : النكاح ، والطلاق ، والعتاق ، الاستيلاد ، والتدبير ، والوصية مثل وصايا الناس ، والإقرار بالحدود والقصاص ؛ لأنه من أهل التصرفات لكونه مخاطبا .

أما النكاح فهو من الحوائج الأصلية ، ويلزم بمثل مهر المثل لأنه لا غبن فيه ، ويبطل ما زاد عليه لأنه تصرف في المال مال وصار كالمريض المديون ، وإن كانت المرأة سفيهة فزوجت نفسها من كفء بأقل من مهر المثل جاز ، فإن كان أقل بما لا يتغابن فيه الناس ولم يدخل بها يقال للزوج : إما أن تتم لها أو تفارقها ؛ لأن رضاها بالنقصان لم يصح ، ويخير الزوج لأنه ما رضي بالزيادة ، وإن دخل بها لم يخير ووجب مهر المثل فلا فائدة في التخيير .

وأما الطلاق فلقوله - عليه الصلاة والسلام - : " كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه ؛ ولأن كل من ملك النكاح وقع طلاقه ، والعتق لوجود الأهلية ، ويسعى العبد في قيمته لمكان الحجر عن التبرعات بالمال ، إلا أن العتق لا يقبل الفسخ فقلنا بنفاذه ، ووجوب السعاية نظرا للجانبين . وعن محمد أنه لا يسعى .

وأما التدبير فلأنه يوجب حق العتق ، أو هو عتق من وجه ، فاعتبر بحقيقة العتق ، إلا أنه لا [ ص: 363 ] يسعى إلا بعد الموت ، فإذا مات ولم يؤنس رشده سعى في قيمته مدبرا كأنه أعتقه بعد التدبير .

وأما الاستيلاد فإن وطئها فولدت وادعاه ثبت نسبه لحاجته إلى بقاء النسل فلا تسعى إذا مات ، وكذلك إن أقر أنها أم ولده ومعها ولد ، وإن لم يكن معها ولد سعت في قيمتها بعد الموت ؛ لأنه متهم في ذلك فصار كالعتق .

وأما الوصية فالقياس أن لا تصح لأنها تبرع وهبة ، لكنا استحسنا ذلك إذا كانت مثل وصايا الناس ؛ لأنها قربة يتقرب بها إلى الله تعالى وهو محتاج إليها سيما في هذه الحالة .

وأما الإقرار بالحدود والقصاص ؛ فلأن الحجر عن التصرف في المال لا غير وهو عاقل بالغ فيصح إقراره فيما لا حجر عليه فيه ، ويلزمه حقوق الله تعالى من الزكاة والكفارات والحج لأنه مخاطب ، ولا حجر عن حقوق الله تعالى ، فتخرج عنه الزكاة بمحضر من القاضي أو أمينه احترازا من أن يصرفها في غير مصرفها .

وأما الكفارات فما للصوم فيه مدخل فيكفره بالصوم لا غير كابن السبيل المنقطع عن ماله; ولو أعتق عن ظهاره نفذ العتق وسعى في قيمته ، ولا يجزيه عن الظهار ؛ لأنه عتق ببدل كالمريض المديون إذا أعتق عن ظهاره ثم مات يسعى العبد للغرماء ولا يجزيه ، وكذا سائر الكفارات ; ولو كفر بالصوم ثم صلح قبل تمامه فعليه أن يكفر لزوال العجز .

وأما الحج فإن القاضي يسلم النفقة إلى ثقة في الحاج ينفقها عليه ، ولا يمنع من عمرة واحدة لوجوبها عند بعض العلماء ، ولا من القران لأنه أفضل وأثوب ؛ ولأنه لا يمنع من كل واحدة منهما على الانفراد ، فكذا على الاجتماع وبل أولى ؛ لأنه أفضل ، وله أن يسوق البدنة لمكان الاختلاف ، فإن عمر - رضي الله عنه - فسر الهدي بالبدنة ، ويلزمه حقوق العباد إذا تحققت أسبابها عملا بالسبب ، وكذلك النفقة على زوجته وولده وذوي أرحامه ؛ لأن السفه لا يبطل حقوق العباد ؛ ولأن نفقة الزوجة والأولاد من الحوائج الأصلية .

قال : ( ولا يحجر على الفاسق ) أما عنده فظاهر ، وأما عندهما إن كان مصلحا لماله ؛ لقوله تعالى : ( فإن آنستم منهم رشدا ) الآية ، وقد أونس منه نوع رشد وهو إصلاح المال فيتناوله النص ؛ ولأن الحجر للفساد في المال لا في الدين; ألا ترى أنه لا يحجر على الذمي والكفر أعظم من الفسق .

[ ص: 364 ] . . . . . . . . . . . . . قال : ( ولا ) يحجر . ( على المديون ) لما تقدم في الحجر على السفيه .

( فإن طلب غرماؤه حبسه حبسه حتى يبيع ويوفي الدين ) على الوجه الذي بيناه في أدب القاضي .

( فإن كان ماله دراهم أو دنانير والدين مثله قضاه القاضي بغير أمره ) لأن رب الدين له أخذه بغير أمره ، فالقاضي يعينه عليه .

( وإن كان أحدهما دراهم والآخر دنانير أو بالعكس باعه القاضي في الدين ) والقياس أنه لا يبيعه كالعروض ؛ لأنه نوع حجر . وجه الاستحسان أنهما كجنس واحد نظرا إلى الثمنية والمالية وعدم التعيين ، بخلاف العروض ؛ لأنها مباينة للديون من كل وجه ، والغرض يتعلق بعين العروض دون الأثمان فافترقا .

( ولا يبيع العروض ولا العقار ) ؛ لأنه حجر عليه وهو تجارة لا عن تراض .

( وقالا : يبيع وعليه الفتوى ) وقال أبو يوسف ومحمد : إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر القاضي عليه ومنعه من التصرفات والإقرار حتى لا يضر بالغرماء نظرا لهم ؛ لأنه ربما ألجأ ماله فيفوت حقهم; ولا يمنع من البيع بمثل الثمن ؛ لأنه لا يبطل حق الغرماء ، ويبيع ماله إن امتنع المديون من بيعه وقسمه بين الغرماء بالحصص ؛ لأن إبقاء الدين مستحق عليه ، فيستحق عليه البيع لإيفائه ، فإذا امتنع باع القاضي عليه نيابة كالجب والعنة ، ولأبي حنيفة ما مر; وجوابهما أن التلجئة متوهمة فلا يبتنى عليها حكم متيقن وقضاء الدين مستحق عليه ، لكن لا نسلم تعيين البيع له ، بخلاف الجب والعنة ، وإنما يحبس ليوفي دينه بأي طريق شاء ، ثم التفريع على أصلهما أنه يباع في الدين النقود ، ثم العروض ، ثم العقار لما فيه من المسارعة إلى قضاء الدين ومراعاة المديون ، ويترك له ثياب بدنه دست أو دستان ، وإن أقر في حال الحجر بمال لزمه بعد قضاء الديون ؛ لأن هذا المال تعلق به حق الأولين ؛ ولأنه لو صح في الحال لما كان في الحجر فائدة حتى لو استفاد مالا بعد الحجر نفذ إقراره فيه لأنه لم يتعلق به حقهم ، ولو استهلك مالا لزمه في الحال ؛ لأنه مشاهد لا راد له ، وينفق من ماله عليه وعلى زوجته وأولاده الصغار وذوي أرحامه ، [ ص: 365 ] لأنها من الحوائج الأصلية وأنها مقدمة على حقهم ، ولو تزوج امرأة فهي في مهر مثلها أسوة بالغرماء .

قال : ( وإن لم يظهر للمفلس مال ، فالحكم ما مر في أدب القاضي ) إلى أن قال خلى سبيله .

قال : ( ولا يحول بينه وبين غرمائه بعد خروجه من الحبس يلازمونه ولا يمنعونه من التصرف والسفر ، ويأخذون فضل كسبه يقتسمونه بينهم بالحصص ) قال - عليه الصلاة والسلام - : " لصاحب الحق اليد واللسان " أي اليد بالملازمة ، واللسان بالاقتضاء . وقال أبو يوسف ومحمد : إذا فلسه القاضي حال بينه وبين الغرماء ، إلا أن يقيموا البينة أنه قد حصل له مال ، وهذا بناء على صحة القضاء بالإفلاس فيصح عندهما فيستحق الإنظار ، وعند أبي حنيفة لا يصح لأن الإفلاس لا يتحقق ، فإن المال غاد ورائح ، ولأن الشهادة شهادة على العدم حقيقة فلا تقبل ؛ ولأن الشهود لا يتحققون باطن أحوال الناس وأمورهم ، فربما له مال لا يطلع عليه أحد قد أخفاه خوفا من الظلمة واللصوص وهو يظهر الفقر والعسرة ، فإذا لازموه فربما أضجروه فأعطاهم ، والملازمة أن يدور معه حيث دار ، ويجلس على بابه إذا دخل بيته ، وإن كان المديون امرأة لا يلازمها حذارا من الفتنة ويبعث امرأة أمينة تلازمها ، وبينة اليسار مقدمة على بينة الإعسار ؛ لأنها مثبتة ؛ إذ الأصل الإعسار .




الخدمات العلمية