الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل منزلة الإخلاص

ومن منازل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) منزلة الإخلاص

قال الله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) . وقال : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص ) . وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه ) . وقال له : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) . وقال : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) . قال الفضيل بن عياض : هو أخلصه وأصوبه . قالوا : يا أبا علي ، ما أخلصه وأصوبه ؟ فقال : إن العمل إذا كان خالصا ، ولم يكن صوابا . لم يقبل . وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا : لم [ ص: 89 ] يقبل . حتى يكون خالصا صوابا ، والخالص : أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة . ثم قرأ قوله تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) . وقال تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ) . فإسلام الوجه : إخلاص القصد والعمل لله . والإحسان فيه : متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وسنته . وقال تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) . وهي الأعمال التي كانت على غير السنة . أو أريد بها غير وجه الله . قال النبي صلى الله عليه وسلم ل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : إنك لن تخلف ، فتعمل عملا تبتغي به وجه الله تعالى إلا ازددت به خيرا ، ودرجة ورفعة . وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين . فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ؛ أي لا يبقى فيه غل ، ولا يحمل [ ص: 90 ] الغل مع هذه الثلاثة . بل تنفي عنه غله . وتنقيه منه . وتخرجه عنه . فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل . وكذلك يغل على الغش . وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة . فهذه الثلاثة تملؤه غلا ودغلا . ودواء هذا الغل ، واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص والنصح ، ومتابعة السنة .

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل رياء ، ويقاتل شجاعة . ويقاتل حمية : أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .

وأخبر عن أول ثلاثة تسعر بهم النار : قارئ القرآن ، والمجاهد ، والمتصدق بماله ، الذين فعلوا ذلك ليقال : فلان قارئ ، فلان شجاع ، فلان متصدق ، ولم تكن أعمالهم خالصة لله .

وفي الحديث الصحيح الإلهي يقول الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك به . وأنا منه بريء .

وفي أثر آخر : يقول له يوم القيامة اذهب فخذ أجرك ممن عملت له . لا أجر لك عندنا .

[ ص: 91 ] وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ، ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم . وقال تعالى : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) .

وفي أثر مروي إلهي : الإخلاص سر من سري ، استودعته قلب من أحببته من عبادي .

وقد تنوعت عبارتهم في الإخلاص والصدق ، والقصد واحد .

فقيل : هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة .

وقيل : تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين .

وقيل : التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك . والصدق التنقي من مطالعة النفس . فالمخلص لا رياء له ، والصادق لا إعجاب له . ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ، ولا الصدق إلا بالإخلاص . ولا يتمان إلا بالصبر .

وقيل : من شهد في إخلاصه الإخلاص ، احتاج إخلاصه إلى إخلاص . فنقصان كل مخلص في إخلاصه : بقدر رؤية إخلاصه . فإذا سقط عن نفسه رؤية الإخلاص ، صار مخلصا مخلصا .

وقيل : الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن . والرياء : أن يكون ظاهره خيرا من باطنه . والصدق في الإخلاص : أن يكون باطنه أعمر من ظاهره .

[ ص: 92 ] وقيل : الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق . ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله .

ومن كلام الفضيل : ترك العمل من أجل الناس : رياء . والعمل من أجل الناس : شرك . والإخلاص : أن يعافيك الله منهما .

قال الجنيد : الإخلاص سر بين الله وبين العبد . لا يعلمه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده . ولا هوى فيميله .

وقيل لسهل : أي شيء أشد على النفس ؟ فقال : الإخلاص ؛ لأنه ليس لها فيه نصيب .

وقال بعضهم : الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهدا غير الله ، ولا مجازيا سواه .

وقال مكحول : ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه .

وقال يوسف بن الحسين : أعز شيء في الدنيا : الإخلاص . وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي . فكأنه ينبت على لون آخر .

وقال أبو سليمان الداراني : إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء .

[ ص: 93 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية