الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( فصل : فرائض الوضوء غسل ما بين الأذنين ، ومنابت شعر الرأس المعتاد ، والذقن [ ص: 180 ] وظاهر اللحية )

                                                                                                                            ش أي هذا فصل أذكر فيه فرائض الوضوء وسننه وفضائله ; لأنه لما انقضى كلامه على وسائل الطهارة الثلاث التي هي بيان الماء الذي تحصل به الطهارة ، وبيان الأشياء الطاهرة والنجسة ، وبيان حكم إزالة النجاسة ، وكيفية إزالتها وما يعفى عنه منها أتبع ذلك بالكلام على مقاصد الطهارة وهي الوضوء ، ونواقضه ، والغسل ، ونواقضه وما هو بدل عنهما وهو التيمم أو عن بعض الأعضاء وهو مسح الخف والجبيرة ، وإنما كانت تلك الفصول الثلاثة وسائل ; لأن بمعرفتها يتوصل إلى معرفة صحة الطهارة من الحدث والخبث ، ووسيلة الشيء ما يوصل إليه وبدأ من المقاصد بالوضوء لتكرره ; لأنه مطلوب لكل صلاة إما وجوبا أو ندبا .

                                                                                                                            والفرائض جمع فريضة وهي الأمر الذي يثاب على فعله ويترتب العقاب على تركه ، ويقال فيه أيضا : فرض ويجمع على فروض ، ويطلق الفرض شرعا على معنى آخر وهو ما تتوقف عليه صحة العبادة وجواز الإتيان بها كوضوء النافلة ، وهو بهذا المعنى أعم من الأول ، ويشاركه الأول في أنه يأثم بفعل العبادة بدونه ، وينفرد عنه بأنه لا يأثم بتركه مع ترك العبادة المتوقفة عليه .

                                                                                                                            والوضوء بضم الواو اسم للفعل ، وبفتحها اسم للماء ، وحكي عن الخليل الفتح فيهما وعن غيره الضم فيهما وهذا ضعيف والأول هو المعروف في اللغة . حكى اللغات الثلاث النووي في شرح المهذب وهو مشتق من الوضاءة بالمد وبالضاد المعجمة وهي النظافة والحسن ، ويطلق الوضوء في اللغة على غسل عضو فما فوقه ومنه حديث أبي داود والترمذي { بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده } وهو حديث ضعيف ، والمراد به غسل اليد ومحمله عندنا ما إذا أصابها أذى من عرق ونحوه ، ومنه الحديث الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم ويصحح البصر ذكره صاحب الجمع وذكره في الإحياء ولم يذكر قوله : ويصحح البصر . وأما في الشرع فهو غسل أعضاء مخصوصة على وجه مخصوص . فوائد : ( الأولى ) اختلف متى فرضت الطهارة للصلاة ؟ فقال الجمهور : من أول الأمر حين فرضت الصلاة وأن جبريل نزل صبيحة الإسراء فهمز النبي صلى الله عليه وسلم بعقبه فتوضأ وعلمه الوضوء وقال ابن الجهم : كانت في أول الإسلام سنة ثم فرضت في آية التيمم . نقله الأبي في شرح مسلم عن القاضي عياض وكلام القاضي أتم فلينظر .

                                                                                                                            قال ابن حجر في أول كتاب الوضوء : جزم ابن حزم بأن الوضوء لم يشرع إلا بالمدينة ثم رد ذلك عليه .

                                                                                                                            ( الثانية ) ذكر السهيلي في الروض الأنف في غزوة السويق في شرح قوله : وكان أبو سفيان نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا ما نصه فيه أن الغسل من الجنابة كان معمولا به في الجاهلية من بقايا دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما بقي فيهم الحج والنكاح ، ولذلك سموها جنابة ، وقالوا : رجل جنب لمجانبتهم البيت الحرام في تلك الحال ولذلك عرفوا معنى هذه الكلمة في القرآن أعني قوله { وإن كنتم جنبا فاطهروا } ولم يحتاجوا إلى تفسيره بخلاف الوضوء فإنه لم يكن معروفا قبل الإسلام فلذلك لم يقل لهم : من كان محدثا فليتوضأ ، بل قال الله تعالى { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } الآية فبين الوضوء وأعضاءه وكيفيته وسببه ولم يحتج إلى ذلك في الجنابة انتهى .

                                                                                                                            ( الثالثة ) قال في الإكمال : قال غير واحد من أهل العلم : إن الغرة والتحجيل مما اختصت به هذه الأمة ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم { لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غرا محجلين } يدل على ذلك . وقال الأصيلي وغيره : هذا الحديث يدل على أن الوضوء مما اختصت به هذه الأمة ، وعارضه غيره بقوله صلى الله عليه وسلم { هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي } والأمة مختصة بالغرة والتحجيل لا بالوضوء ( وأجيب ) بأنه حديث ضعيف أو أنه اختصت به الأنبياء دون أممها إلا أمة [ ص: 181 ] محمد صلى الله عليه وسلم انتهى . وانظر كلام ابن حجر في أول كتاب الطهارة . ( قلت ) : وقال في الإكمال في كتاب البر والصلة في حديث جريج وفي البخاري فتوضأ وصلى فيتجه حجة على أن الوضوء كان في غير هذه الأمة ، وفيه رد على من زعم أنه مختص بها وتصحيح لتأويل اختصاصها بالغرة والتحجيل انتهى بالمعنى ، فتحصل منها أن هذه الأمة مختصة بالغرة والتحجيل ، واختلف في اختصاصها به والصحيح عدم اختصاصها .

                                                                                                                            والسيما بكسر السين والمد والقصر : العلامة ويأتي الكلام على الغرة والتحجيل في آخر الفصل إن شاء الله تعالى ، وذكر النووي أن قول الأصيلي قال به جماعة من أهل العلم والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ( الرابعة ) الوضوء في الشرع على أربعة أقسام فرض ، ومستحب ، ومباح ، وممنوع . ( فالوضوء الفرض ) لكل عبادة لا يصح فعلها إلا بطهارة كالصلاة والطواف فرضهما ونفلهما ولمس المصحف ، وقيل : إن الوضوء للنفل منهما ومس المصحف سنة نظرا إلى أنه لا يأثم بتركه ، ورد ذلك بالاتفاق على أن تعمد فعل شيء من ذلك دون طهارة معصية وأنه لا تنعقد تلك النافلة ولا يلزم قضاؤها بل عد الشيخ سعد الدين فيما يكفر به فعل الصلاة بغير طهارة ، ( والمستحب ) الوضوء المجدد لكل صلاة إذا كان قد فعلت به عبادة ، وقيل : إنه سنة ووضوء الإمام لخطبتي الجمعة ، وقيل : فريضة والوضوء للأذان والإقامة وللنوم ولو كان جنبا ، وقيل : إن وضوء الجنب للنوم سنة ولقراءة القرآن ظاهرا ، ولقراءة الحديث ولاستماعهما ، وللدعاء ، والمناجاة ، وللذكر ، ولصاحب السلس ، ومنه المستحاضة عند كل صلاة إذا كان إتيان ذلك أكثر من انقطاعه أو تساويا كما سيأتي ، ولأعمال الحج والعمرة كلها ما عدا الطواف والصلاة فيجب لذلك كما تقدم .

                                                                                                                            ولا يستحب الوضوء للجنب إلا عند الأكل خلافا للقاضي عياض قال الباجي والمازري : ومحمل الحديث في أمر الجنب بالوضوء للأكل عندنا على غسل اليد وهل ذلك لأذى أصابها ؟ ( والمباح ) قال القاضي عياض في قواعده : هو الوضوء للدخول على الأمراء ولركوب البحر وشبهه من المخاوف ، وليكون الشخص على طهارة ولا يريد به صلاة يعني استباحة صلاة يريد أو غيرها مما يمنعه الحدث . ثم قال : وقد يقال في هذا كله : إنه من المستحبات . ( قلت ) وجزم ابن جزي في قوانينه باستحباب الوضوء لذلك وزاد ولقراءة العلم .

                                                                                                                            قال : والمباح الوضوء للتنظيف والتبرد وجزم المصنف في التوضيح باستحبابه لتعليم العلم وقال الشبيبي : من المباح الوضوء لتعلم العلم وتعليمه عند بعضهم انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) والظاهر في هذا كله الاستحباب ما عدا التنظيف والتبرد فإنه مباح ; لأن التنظيف وإن كان مطلوبا شرعا لم يطلب غسل أعضاء الوضوء بخصوصها له .

                                                                                                                            وحديث { بني الدين على النظافة } ذكره الغزالي في الإحياء وقال العراقي : لم أجده هكذا وفي الضعفاء لابن حبان من حديث عائشة { تنظفوا فإن الإسلام نظيف } وللطبراني سند ضعيف جدا { النظافة تدعو إلى الإيمان } انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وروى الترمذي في كتاب الاستئذان من سننه من حديث عامر بن سعد مرفوعا { إن الله تعالى طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة كريم يحب الكرم } الحديث . وقال حديث غريب وفيه خالد بن إياس وهو مضعف ( والوضوء الممنوع ) هو المحدد قبل أن تفعل به عبادة ، والوضوء لغير ما شرع له الوضوء أو أبيح . وجعل القاضي عياض وابن جزي والشبيبي الوضوء خمسة أقسام وزادوا الوضوء المسنون وعدوا فيه وضوء الجنب للنوم ، وزاد القاضي عياض فيه تجديد الوضوء لكل صلاة ، ووضوء النافلة ومس المصحف والمشهور في الأولين الاستحباب ، وفي وضوء النافلة ومس المصحف الفريضة بالمعنى الذي ذكرته فلذلك تركت هذا القسم . وقال في الإكمال : الوضوء لصلاة الفرض فريضة بلا خلاف [ ص: 182 ] وأما الوضوء لغير الفرض فذهب بعضهم إلى أنه كحكم ما يفعل به من فريضة أو سنة أو نافلة ، وذهب بعضهم إلى أنه فرض لكل عبادة لا تستباح إلا به ; لأنه إذا عزم على فعلها فالمجيء بها بغير طهارة معصية واستخفاف بالعبادة ، فيلزم المجيء بشروطها فرضا ، كما أنه إذا دخل في نافلة وجب عليه إتمامها . قال القباب : ولم يذكر اللخمي وابن يونس وابن رشد إلا القول الثاني ، قال : ويظهر لي أن القولين لم يختلفا في حكم من أحكام هذه العبادات ; لأن الكل متفقون على أن الصلاة بغير طهارة ممنوعة فرضا كانت أو نفلا ، والكل متفقون على أن الوضوء للنافلة ليس بمفروض على جميع الناس فعاد الخلاف إلى عبادة ، فمن لاحظ كون النافلة لو تركها لم يأثم وكذلك طهرها قال : إنه سنة ومن لاحظ كونه إذا تلبس بها بغير طهارة أثم قال : إنه فرض .

                                                                                                                            ( قلت ) وملخصه أنه يرجع إلى التفسيرين المتقدمين للفرض فمن نفاه أراد المعنى الأول ، ومن أثبته أراد المعنى الثاني والله تعالى أعلم وقال النووي أجمعت الأمة على حرمة الصلاة وسجود التلاوة والشكر وصلاة الجنازة بغير طهارة وما حكي عن الشعبي والطبري من تجويز صلاة الجنازة من غير طهارة باطل والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية