الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 58 ] كتاب الأيمان [ ص: 59 ] قال : ( الأيمان على ثلاثة أضرب ) اليمين الغموس [ ص: 60 ] ويمين منعقدة ، ويمين لغو . ( فالغموس هو الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه ، فهذه اليمين يأثم فيها صاحبها ) لقوله صلى الله عليه وسلم { من حلف كاذبا أدخله الله النار } ( ولا كفارة فيها إلا التوبة والاستغفار ) وقال الشافعي رحمة الله تعالى عليه : فيها الكفارة لأنها شرعت لرفع ذنب هتك حرمة اسم الله تعالى ، وقد تحقق بالاستشهاد بالله كاذبا فأشبه المعقودة . ولنا أنها كبيرة محضة ، [ ص: 61 ] والكفارة عبادة تتأدى بالصوم ، ويشترط فيها النية فلا تناط بها ، بخلاف المعقودة لأنها مباحة ، ولو كان فيها ذنب فهو متأخر متعلق باختيار مبتدإ ، وما في الغموس ملازم فيمتنع الإلحاق .

التالي السابق


كتاب الأيمان اشترك كل من اليمين والعتاق والطلاق والنكاح في أن الهزل والإكراه لا يؤثر فيه ، إلا أنه قدم على الكل النكاح ; لأنه أقرب إلى العبادات كما تقدم ، والطلاق رفعه بعد تحققه فإيلاؤه إياه أوجه . واختص الإعتاق عن الأيمان بزيادة مناسبة بالطلاق من جهة مشاركته إياه في تمام معناه الذي هو الإسقاط ، وفي لازمه الشرعي الذي هو السراية [ ص: 59 ] فقدمه على اليمين .

ولفظ اليمين مشترك بين الجارحة والقسم والقوة لغة ، والأولان ظاهران . وشاهد القوة قوله تعالى { لأخذنا منه باليمين } وقول الشماخ وقيل الحطيئة :

رأيت عرابة الأوسي يسمو إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين

أي بالقوة ، ثم قولهم إنما سمي القسم يمينا لوجهين : أحدهما أن اليمين هو القوة والحالف يتقوى بالإقسام على الحمل أو المنع . والثاني أنهم كانوا يتماسكون بأيمانهم عند القسم فسميت بذلك . يفيد أنه لفظ منقول ومفهومه اللغوي جملة أولى إنشائية صريحة الجزأين يؤكد بها جملة بعدها خبرية ، وترك لفظ أولى يصيره غير مانع لدخول نحو زيد قائم زيد قائم وهو على عكسه ، فإن الأولى هي المؤكدة بالثانية من التوكيد اللفظي وجملة أعم من الفعلية كحلفت بالله لأفعلن أو أحلف والاسمية مقدمة الخبر كعلي عهد الله أو مؤخرته نحو لعمرك لأفعلن ، وهو مثال أيضا لغير المصرح بجزأيها ومنه والله وتالله ، فإن الحرف جعل عوضا عن الفعل .

وأسماء هذا المعنى التوكيدي ستة : الحلف ، والقسم والعهد ، والميثاق والإيلاء ، واليمين . وخرج بإنشائية نحو تعليق الطلاق والعتاق . فإن الأولى ليست إنشاء فليست التعاليق أيمانا لغة ، وأما مفهومه الاصطلاحي فجملة أولى إنشائية مقسم فيها باسم الله تعالى أو صفته ومؤكد بها مضمون ثانية في نفس السامع ظاهرا وتحمل المتكلم على تحقيق معناها فدخلت بقيد ظاهر الغموس أو التزام مكروه كفر أو زوال ملك على تقدير ; ليمنع عنه أو محبوب ; ليحمل عليه فدخلت التعليقات مثل إن فعل فهو يهودي وإن دخلت فأنت طالق بضم التاء لمنع نفسه وبكسرها لمنعها وإن بشرتني فأنت حر .

وسببها الغائي تارة إيقاع صدقه في نفس السامع وتارة حمل نفسه أو غيره على الفعل أو الترك ، فبين المفهوم اللغوي والشرعي عموم من وجه لتصادقهما في اليمين بالله ، وانفراد اللغوي في الحلف بغيره مما يعظم ، وانفراد الاصطلاحي في التعليقات . ثم قيل : يكره الحلف بالطلاق والعتاق لقوله صلى الله عليه وسلم { من كان حالفا فليحلف بالله } الحديث . والأكثر على أنه لا يكره ; لأنه لمنع نفسه أو غيره ، ومحمل الحديث غير التعليق مما هو بحرف القسم ، وركنها اللفظ الخاص ، وأما شرطها فالعقل والبلوغ ، وحكمها الذي يلزم بوجودها وجوب البر فيما إذا عقدت على طاعة أو ترك معصية فيثبت وجوبان لأمرين الفعل والبر ، ووجوب الحنث في الحلف على ضدهما أو ندبه فيما إذا كان عدم المحلوف عليه جائزا وسيأتي .

وإذا حنث فيما يجوز فيه الحنث أو يحرم لزمته الكفارة . ( قوله : اليمين على ثلاثة أضرب : يمين الغموس ) [ ص: 60 ] والأصح من النسخ اليمين الغموس على الوصف لا الإضافة أو يمين غموس . وأما يمين الغموس فإضافة الموصوف إلى صفته وهي ممنوعة ، وما قيل هو كعلم الطب رد بأنه إضافة الجنس إلى نوعه ; لأن الطب نوع لا وصف للمضاف ومثل صلاة الأولى مقصور على السماع ، وسميت غموسا لغمسها صاحبها في الإثم ثم في النار فعول بمعنى فاعلة بصيغة المبالغة . ( قوله : فالغموس هو الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب به ) وليس هذا بقيد بل الحلف على الحال أيضا كذلك كوالله ما لهذا علي دين وهو يعلم خلافه ، والحديث المذكور غريب بهذا اللفظ ومعناه ثابت بلا شبهة .

وأقرب الألفاظ إليه ما في صحيح ابن حبان من حديث أبي أمامة قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم حرم الله عليه الجنة وأدخله النار } وفي الصحيحين { لقي الله وهو عليه غضبان } وفي سنن أبي داود من حديث عمران بن حصين قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين مصبورة كاذبا فليتبوأ مقعده من النار } والمراد بالمصبورة الملزمة بالقضاء والحكم : أي المحبوس عليها ; لأنها مصبور عليها . ( قوله : ولا كفارة فيها إلا التوبة والاستغفار ) وهو قول أكثر العلماء منهم مالك وأحمد رضي الله عنهما ( وقال الشافعي رحمه الله : فيها الكفارة ; لأنها شرعت ) في الأصل وهي المعقودة ( لرفع ذنب هتك حرمة اسم الله تعالى وقد تحقق ) في الغموس فيتعدى إليه وجوبها . ( ولنا أنها كبيرة محضة ) لما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه { قال الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل [ ص: 61 ] النفس ، واليمين الغموس } ( والكفارة عبادة حتى تتأدى بالصوم ، ويشترط فيها النية فلا تناط بها ) أي بما هو كبيرة ( بخلاف المعقودة ; لأنها مباحة ولو كان فيها ذنب ) بأن يحنث في موضع وجوب البر على ما ذكرنا من التفصيل ( فهو متأخر متعلق باختيار مبتدإ ) غير مقارن متعمد بنفس اليمين كما في الغموس فامتنع الإلحاق .

وحاصل هذا إبداء وصف في الأصل وهو كونه مباحا وادعاء كونه جزء المؤثر ; لكونه غير مناسب للحكم وقد نقض بالظهار . ويجاب بأن الموجب فيه العود لا نفس الظهار ، قال تعالى : { ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } وهو مباح لكونه إمساكا بالمعروف وبالإفطار في رمضان ولو بخمر أو زنا . وأجيب : الكفارة باعتبار الفطر العمد المشتهى ، ويجب الحد باعتبار أنهما في أنفسهما كبيرة . ولخصه آخر بأن ذلك حرام في نفسه وحرام لغيره وهو الصوم فوجب الحد بالأول والكفارة بالثاني . ونقض أيضا بقتل المحرم صيدا عمدا . وأجيب بأن عين الفعل ليس حراما ; حتى لو فعله في غير الإحرام والحرم لم يحرم وإنما حرم بإحرامه وبالحرم لا بنفسه ، وصحح شارح الإيراد ومنع نفي كون المعصية سببا للكفارة وجعل المذكور من الأجوبة خبطا ولم يبين موضع الفساد فيها ، وهو واضح ; لأن كلامهم هذا يقتضي تقييد قولهم المعصية لا تصلح سببا للكفارة ; لكونها عبادة بما إذا كان حراما لعينه .

ومرجعه إلى التحسين والتقبيح في الفعل لذاته ، وهو منتف عند الأشعرية وهو قليل جدا كأنه لا يزيد على الكفر والظلم ، وكون اليمين الغموس منه قد يمنع ; لأن اليمين في نفسه مباح أو عبادة إذ هو ذكر الله تعالى على وجه التعظيم ، وهذا لا يسقط من قلب المؤمن الحالف غموسا ، وإلا كانت كفرا ، وإنما روج به باطله فقبحها ليس [ ص: 62 ] إلا بعدم مطابقة المحلوف عليه أو لقصده ذلك ، وذلك خارج عن اليمين موجب لحرمتها فكان من قبيل ما حرم لغيره على أن كون حرمة السبب تمنع مناسبتها للعبادة لا يفصل بين كون الحرمة لعينه أو لغيره ، ولو قيل لا يلزم من شرعية الكفارة جابرة أو ساترة في ذنب أخف شرعيتها كذلك في ذنب أعظم كان أوجه .

وللشافعي أيضا الغموس مكسوبة بالقلب . والمكسوبة يؤاخذ بها لقوله تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } وبين سبحانه وتعالى المراد بالمؤاخذة بقوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } فبين أن المراد بها الكفارة . والجواب أن المؤاخذة مطلقا في الآخرة فهي المراد بالمؤاخذة في المكسوبة ، والمراد بها في المعقودة الكفارة كما ذكرنا ، قالوا : الغموس داخلة في المعقودة فتجب الكفارة بها بالنص من غير حاجة إلى زيادة تكلف الجواب مع أنها معقودة ; لأنها ربط في الشرع للاسم العظيم بمعنى على وجه حمله عليه في المستقبل أو منعه منه ، فإذا حنث انحلت لارتفاع المانع والحامل أو لتوكيد صدقه الظاهر ، فإذا طابق الخبر بر وانحلت ، ولا شك أن بالحنث تنحل اليمين والغموس قارنها ما يحلها وهو ما لو طرأ عليها رفعها وحلها فلم تنعقد ; لأنه إذا قارنها منع انعقادها كالردة والرضاع في النكاح ، بخلاف مس السماء ونحوه فإنه لم يقارنها ; لأنها عقدت على أمر في المستقبل فما يحلها هو انعدامه في المستقبل لا في الحال .

وعلى هذا قيل الغموس ليست بيمين حقيقة ; لأن اليمين الشرعية تعقد للبر وهو غير ممكن فيها ، وما قطع بانتفاء فائدته شرعا يقطع بانتفائه شرعا ، وتسميتها يمينا مجاز بعلاقة الصورة كالفرس للصورة المنقوشة أو هو من الحقيقة اللغوية . وعلى أحدهما يحمل قوله عليه الصلاة والسلام { واليمين الفاجرة } ونحوه على ما ذكرناه . واعلم أن المعقودة عند الشافعي ليست سوى المكسوبة بالقلب ، وكون الغموس قارنها الحنث لا ينفي الانعقاد عنده ، وكونها لا تسمى يمينا ; لأنها لم تنعقد للبر بعيد إذ لا شك في تسميتها يمينا لغة وعرفا وشرعا بحيث لا تقبل التشكيك ، فليس الوجه إلا ما قدمنا من أن شرعية الكفارة لرفع ذنب أصغر لا يستلزم شرعها لرفع أكبر ، وإذا أدخلها في مسمى المنعقدة وجعل المنعقدة تنقسم إلى غموس وغيرها عسر النظر معه إلا أن يكون لغة أو سمع .

وقد روى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد صرح بجودته ابن عبد الهادي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مطول قال فيه { خمس ليس لهن كفارة : الشرك بالله عز وجل وقتل النفس بغير حق ، وبهت مؤمن ، والفرار من الزحف ، واليمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق } انتهى . وكل من قال لا كفارة في الغموس لم يفصل بين اليمين المصبورة على مال كاذبا وغيرها ، وصابرة بمعنى مصبورة كعيشة راضية ، وتقدم أن المصبورة المقضي بها ; لأنها مصبور عليها : أي محبوس ، والصبر حبس النفس على المكروه ، ومنه قتله صبرا إذا لم يكن في حال تصرفه ودفعه مختارا عن نفسه .




الخدمات العلمية