الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

في الصفة التي تقتضي صرفها إليهم

وأما صفاتهم التي يستوجبون بها الصدقة ويمنعون منها بأضدادها :

فأحدها : الفقر الذي هو ضد الغنى لقوله تعالى : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) .

واختلفوا في الغني الذي تجوز له الصدقة من الذي لا تجوز ، وما مقدار الغنى المحرم للصدقة :

فأما الغني الذي لا تجوز له الصدقة فإن الجمهور على أنه لا تجوز الصدقة للأغنياء بأجمعهم إلا للخمس الذين نص عليهم النبي - عليه الصلاة والسلام - في قوله : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله ، أو لعامل عليها ، أو لغارم ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني " . وروي عن ابن القاسم أنه لا يجوز أخذ الصدقة لغني أصلا مجاهدا كان أو عاملا ، والذين أجازوها للعامل وإن كان غنيا أجازوها للقضاة ومن في معناهم ممن المنفعة بهم عامة للمسلمين ، ومن لم يجز ذلك فقياس ذلك عنده هو أن لا تجوز لغني أصلا .

وسبب اختلافهم هو : هل العلة في إيجاب الصدقة للأصناف المذكورين هو الحاجة فقط ، أو الحاجة والمنفعة العامة ؟ فمن اعتبر ذلك بأهل الحاجة المنصوص عليهم في الآية قال : الحاجة فقط . ومن قال : الحاجة والمنفعة العامة توجب أخذ الصدقة اعتبر المنفعة للعامل والحاجة بسائر الأصناف المنصوص عليهم .

وأما حد الغنى الذي يمنع من الصدقة : فذهب الشافعي إلى أن المانع من الصدقة هو أقل ما ينطلق عليه الاسم . وذهب أبو حنيفة إلى أن الغني هو مالك النصاب لأنهم الذين سماهم النبي - عليه الصلاة والسلام - أغنياء لقوله في حديث معاذ له : " فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم " وإذا كان الأغنياء هم الذين هم أهل النصاب وجب أن يكون الفقراء ضدهم . وقال مالك : ليس في ذلك حد إنما هو راجع إلى الاجتهاد .

وسبب اختلافهم : هل الغنى المانع هو معنى شرعي أم معنى لغوي ؟ فمن قال : معنى شرعي قال : وجود النصاب هو الغنى ، ومن قال : معنى لغوي اعتبر في ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم ، فمن رأى أن أقل ما ينطلق عليه الاسم هو محدود في كل وقت وفي كل شخص جعل حده هذا ، ومن رأى أنه غير محدود وأن ذلك يختلف باختلاف الحالات والحاجات والأشخاص والأمكنة والأزمنة وغير ذلك قال : هو غير محدود ، وأن ذلك راجع إلى الاجتهاد . وقد روى أبو داود في هذا حديث الغني الذي يمنع الصدقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ملك خمسين درهما ، وفي أثر آخر أنه ملك أوقية وهي أربعون درهما ، وأحسب أن قوما قالوا بهذه الآثار في حد الغنى .

[ ص: 232 ] واختلفوا من هذا الباب في صفة الفقير والمسكين والفصل الذي بينهما ، فقال قوم : الفقير أحسن حالا من المسكين ، وبه قال البغداديون من أصحاب مالك . وقال آخرون : المسكين أحسن حالا من الفقير ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه ، وفي قوله الثاني : أنهما اسمان دالان على معنى واحد ، وإلى هذا ذهب ابن القاسم ، وهذا النظر هو لغوي إن لم تكن له دلالة شرعية ، والأشبه عند استقراء اللغة أن يكونا اسمين دالين على معنى واحد يختلف بالأقل والأكثر في كل واحد منهما ، لا أن هذا راتب من أحدهما على قدر غير القدر الذي الآخر راتب عليه .

واختلفوا في قوله تعالى : وفي الرقاب ) فقال مالك : هم العبيد يعتقهم الإمام ويكون ولاؤهم للمسلمين، وقال الشافعي وأبو حنيفة : هم المكاتبون .

وابن السبيل هو عندهم : المسافر في طاعة ينفد زاده فلا يجد ما ينفقه . وبعضهم يشترط فيه أن يكون ابن السبيل جار الصدقة .

وأما في سبيل الله : فقال مالك : سبيل الله مواضع الجهاد والرباط وبه قال أبو حنيفة . وقال غيره : الحجاج والعمار . وقال الشافعي : هو الغازي جار الصدقة ، وإنما اشترط جار الصدقة لأن ؛ عند أكثرهم أنه لا يجوز تنقيل الصدقة من بلد إلى بلد إلا من ضرورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية