الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3555 ) مسألة ; قال : ( ومن أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق ، فرضي ، فقد برئ المحيل أبدا ) . من شرط صحة الحوالة شروط أربعة : أحدها ، تماثل الحقين ; لأنها تحويل للحق ونقل له ، فينقل على صفته ، ويعتبر تماثلهما في أمور ثلاثة : أحدها ، الجنس . فيحيل من عليه ذهب بذهب ، ومن عليه فضة بفضة .

                                                                                                                                            ولو أحال من عليه ذهب بفضة ، أو من عليه فضة بذهب ، لم يصح . الثاني ، الصفة . فلو أحال من عليه صحاح بمكسرة ، أو من عليه مصرية بأميرية ، لم يصح . الثالث ، الحلول والتأجيل . ويعتبر اتفاق أجل المؤجلين ، فإن كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا ، أو أجل أحدهما إلى شهر والآخر إلى شهرين ، لم تصح الحوالة . ولو كان الحقان حالين ، فشرط على المحتال أن يقبض حقه أو بعضه بعد شهر لم تصح الحوالة ; لأن الحال لا يتأجل ، ولأنه شرط ما لو كان ثابتا في نفس الأمر لم تصح الحوالة ; فكذلك إذا شرطه . وإذا اجتمعت هذه الأمور ، وصحت الحوالة ، وتراضيا بأن يدفع المحال عليه خيرا من حقه ، أو رضي المحتال بدون الصفة ، أو رضي من عليه المؤجل بتعجيله ، أو رضي من له الحال بإنظاره ، جاز ; لأن ذلك يجوز في القرض ، ففي الحوالة أولى .

                                                                                                                                            وإن مات المحيل ، أو المحال ، فالأجل بحاله . وإن مات المحال عليه ، ففي حلول الحق روايتان ، مضى ذكرهما . الشرط الثاني ، أن تكون على دين مستقر . ولا يعتبر أن يحيل بدين [ غير ] مستقر ، إلا أن السلم لا تصح الحوالة به ولا عليه ، لأن دين السلم ليس بمستقر لكونه بعرض الفسخ ، لانقطاع المسلم فيه .

                                                                                                                                            ولا تصح الحوالة [ ص: 337 ] به ; لأنها لم تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه ، والسلم لا يجوز أخذ العوض عنه ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { من أسلم في شيء ، فلا يصرفه إلى غيره } . ولا تصح الحوالة على المكاتب بمال الكتابة ; لأنه غير مستقر ، فإن له أن يمتنع من أدائه ، ويسقط بعجزه . وتصح الحوالة عليه بدين غير دين الكتابة ; لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات . وإن أحال المكاتب سيده بنجم قد حل عليه ، صح ، وبرئت ذمة المكاتب بالحوالة ، ويكون ذلك بمنزلة القبض .

                                                                                                                                            وإن أحالت المرأة على زوجها بصداقها قبل الدخول ، لم يصح ; لأنه غير مستقر . وإن أحالها الزوج به ، صح ; لأنه له تسليمه إليها ، وحوالته به تقوم مقام تسليمه . وإن أحالت به بعد الدخول ، صح ; لأنه مستقر . وإن أحال البائع بالثمن على المشتري في مدة الخيار ، لم يصح ، في قياس ما ذكرنا . وإن أحاله المشتري به ، صح ; لأنه بمنزلة الوفاء ، وله الوفاء قبل الاستقرار .

                                                                                                                                            وإن أحال البائع بالثمن على المشتري ، ثم ظهر على عيب ، لم يتبين أن الحوالة كانت باطلة ; لأن الثمن كان ثابتا مستقرا ، والبيع كان لازما ، وإنما ثبت الجواز عند العلم بالعيب بالنسبة إلى المشتري . ويحتمل أن تبطل الحوالة ; لأن سبب الجواز عيب المبيع ، وقد كان موجودا وقت الحوالة .

                                                                                                                                            وكل موضع أحال من عليه دين غير مستقر به ، ثم سقط الدين ، كالزوجة ينفسخ نكاحها بسبب من جهتها ، أو المشتري يفسخ البيع ويرد المبيع ، فإن كان ذلك قبل القبض من المحال عليه ، ففيه وجهان : أحدهما ، تبطل الحوالة ; لعدم الفائدة في بقائها ، ويرجع المحيل بدينه على المحال عليه .

                                                                                                                                            والثاني ، لا تبطل ; لأن الحق انتقل عن المحيل ، فلم يعد إليه ، وثبت للمحتال فلم يزل عنه ، ولأن الحوالة بمنزلة القبض ، فكأن المحيل أقبض المحتال دينه ، فيرجع عليه به ، ويأخذ المحتال من المحال عليه . وسواء تعذر القبض من المحال عليه أو لم يتعذر . وإن كان بعد القبض ، لم يبطل ، وجها واحدا ، ويرجع المحيل على المحتال به .

                                                                                                                                            ( 3556 ) فصل : وإن أحال من لا دين له عليه رجلا على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة ، بل هي وكالة تثبت فيها أحكامها ; لأن الحوالة مأخوذة من تحول الحق وانتقاله ، ولا حق هاهنا ينتقل ويتحول ، وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة ، لاشتراكهما في المعنى ; وهو استحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين ، كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه ، وتحول ذلك إلى الوكيل كتحوله إلى المحيل .

                                                                                                                                            وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه ، فليست حوالة أيضا . نص عليه أحمد . فلا يلزمه المحال عليه الأداء ، ولا المحتال قبول ذلك ; لأن الحوالة معاوضة ، ولا معاوضة هاهنا ، وإنما هو اقتراض . فإن قبض المحتال منه الدين ، رجع على المحيل ; لأنه قرض . وإن أبرأه ولم يقبض منه شيئا ، لم تصح البراءة ; لأنها براءة لمن لا دين عليه . وإن قبض منه الدين ، ثم وهبه إياه ، رجع المحال عليه على المحيل به ; لأنه قد غرم عنه ، وإنما عاد إليه المال بعقد مستأنف .

                                                                                                                                            ويحتمل أن لا يرجع عليه ، لكونه ما غرم عنه شيئا . وإن أحال من لا دين عليه فهي وكالة في اقتراض وليست حوالة ، لأن الحوالة إنما تكون بدين على دين ، ولم يوجد واحد منهما .

                                                                                                                                            ( 3557 ) فصل : الشرط الثالث ، أن تكون بمال معلوم ; لأنها إن كانت بيعا فلا تصح في مجهول ، وإن [ ص: 338 ] كانت تحول الحق فيعتبر فيها التسليم ، والجهالة تمنع منه ، فتصح بكل ما يثبت مثله في الذمة بالإتلاف من الأثمان والحبوب والأدهان ، ولا تصح فيما لا يصح السلم فيه ; لأنه لا يثبت في الذمة ، ومن شرط الحوالة تساوي الدينين ، فأما ما يثبت في الذمة سلما غير المثليات ، كالمذروع والمعدود ، ففي صحة الحوالة به وجهان : أحدهما : لا تصح ; لأن المثل فيه لا يتحرر ، ولهذا لا يضمنه بمثله في الإتلاف ، وهذا ظاهر مذهب الشافعي .

                                                                                                                                            والثاني : تصح . ذكره القاضي ; لأنه حق ثابت في الذمة ، فأشبه ماله مثل . ويحتمل أن يخرج هذان الوجهان على الخلاف فيما يقتضي به قرض هذه الأموال ، فإن كان عليه إبل من الدية وله على آخر مثلها في السن ، فقال القاضي : تصح ; لأنها تختص بأقل ما يقع عليه الاسم في السن والقيمة وسائر الصفات .

                                                                                                                                            وقال أبو الخطاب : لا تصح في أحد الوجهين ; لأنها مجهولة ، ولأن الإبل ليست من المثليات التي تضمن بمثلها في الإتلاف ، ولا تثبت في الذمة سلما . في رواية وإن كان عليه إبل من دية ، وله على آخر مثلها قرضا ، فأحاله عليه ، فإن قلنا : يرد في القرض قيمتها . لم تصح الحوالة ; لاختلاف الجنس . وإن قلنا : يرد مثلها . اقتضى قول القاضي صحة الحوالة ; لأنه أمكن استيفاء الحق على صفته من المحال عليه ، ولأن الخيرة في التسليم إلى من عليه الدين ، وقد رضي بتسليم ما له في ذمة المقترض .

                                                                                                                                            وإن كانت بالعكس ، فاحتال المقرض بإبل الدية ، لم تصح ; لأننا إن قلنا : تجب القيمة في القرض . فقد اختلف الجنس . وإن قلنا : يجب المثل . فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته وقيمته ، والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك .

                                                                                                                                            ( 3558 ) فصل : الشرط الرابع ، أن يحيل برضائه ; لأن الحق عليه ، فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين الذي على المحال عليه ، ولا خلاف في هذا فإذا اجتمعت شروط الحوالة وصحت ، برئت ذمة المحيل ، في قول عامة الفقهاء إلا ما يروى عن الحسن ، أنه كان لا يرى الحوالة براءة إلا أن يبرئه .

                                                                                                                                            وعن زفر أنه قال : لا تنقل الحق . وأجراها مجرى الضمان ، وليس بصحيح ; لأن الحوالة مشتقة من تحويل الحق ، بخلاف الضمان ، فإنه مشتق من ضم ذمة إلى ذمة . فعلق على كل واحد مقتضاه ، وما دل عليه لفظه . إذا ثبت أن الحق انتقل ، فمتى رضي بها المحتال ، ولم يشترط اليسار ، لم يعد الحق إلى المحيل أبدا ، سواء أمكن استيفاء الحق ، أو تعذر لمطل أو فلس أو موت أو غير ذلك .

                                                                                                                                            هذا ظاهر كلام الخرقي ، وبه قال الليث ، والشافعي ، وأبو عبيد ، وابن المنذر . وعن أحمد ما يدل على أنه إذا كان المحال عليه مفلسا ، ولم يعلم المحتال بذلك ، فله الرجوع ، إلا أن يرضى بعد العلم . وبه قال جماعة من أصحابنا ، ونحوه قول مالك ; لأن الفلس عيب في المحال عليه ، فكان له الرجوع ، كما لو اشترى سلعة فوجدها معيبة ، ولأن المحيل غره ، فكان له الرجوع ، كما لو دلس المبيع .

                                                                                                                                            وقال شريح ، والشعبي ، والنخعي : متي أفلس أو مات ، رجع على صاحبه ، وقال أبو حنيفة : يرجع عليه في حالين ; إذا مات المحال عليه مفلسا ، وإذا جحده وحلف عليه عند الحاكم ، وقال أبو يوسف ومحمد : يرجع عليه في هاتين الحالتين ، وإذا حجر عليه لفلس ; لأنه روي عن عثمان ، أنه سئل عن رجل أحيل بحقه ، فمات المحال عليه مفلسا فقال : يرجع بحقه ، لا توى على مال امرئ مسلم .

                                                                                                                                            ولأنه عقد معاوضة لم يسلم العوض فيه لأحد المتعاوضين ، فكان له الفسخ ، كما لو [ ص: 339 ] اعتاض بثوب فلم يسلم إليه . ولنا ، أن حزنا جد سعيد بن المسيب ، كان له على علي رضي الله عنه دين ، فأحاله به ، فمات المحال عليه ، فأخبره ، فقال : اخترت علينا ، أبعدك الله . فأبعده بمجرد احتياله ، ولم يخبره أن له الرجوع .

                                                                                                                                            ولأنها براءة من دين ليس فيها قبض ممن عليه ، ولا ممن يدفع عنه ، فلم يكن فيها رجوع ، كما لو أبرأه من الدين ، وحديث عثمان لم يصح ، يرويه خالد بن جعفر عن معاوية بن قرة عن عثمان ، ولم يصح سماعه منه ، وقد روي أنه قال : في حوالة أو كفالة . وهذا يوجب التوقف ، ولا يصح ، ولو صح كان قول علي مخالفا له . وقولهم : إنه معاوضة . لا يصح ; لأنه يفضي إلى بيع الدين ، بالدين ، وهو منهي عنه ، ويفارق المعاوضة بالثوب ; لأن في ذلك قبضا يقف استقرار العقد عليه ، وها هنا الحوالة بمنزلة القبض ، وإلا كان بيع دين بدين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية