الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ولملاحظة الناظم رحمه الله تعالى رواية { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله } بدأ منظومته بذلك فقال

بحمدك ذي الإكرام ما رمت أبتدي كثيرا كما ترضى بغير تحدد

( بحمدك ) أي بوصفك الجميل الاختياري على قصد التعظيم والتبجيل ، وهذا معنى قولهم : الحمد لغة : هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التعظيم والتبجيل . والحمد عرفا فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الحامد أو غيره .

وأما الشكر لغة فهو : الحمد العرفي ، وعرفا صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله . فبين الحمد اللغوي والعرفي عموم وخصوص من وجه ، فيجتمعان فيما إذا كان باللسان في مقابلة نعمة ، ويتفرد اللغوي فيما إذا كان باللسان لا في مقابلة نعمة ، وينفرد العرفي بصدقه بغير اللسان في مقابلة نعمه .

فمورد الحمد العرفي أعم وهو اللسان والأركان ، ومتعلقه أخص وهو كونه في مقابلة نعمة ، والحمد اللغوي عكسه ، والحمد اللغوي مع الشكر اللغوي كذلك ، إذ الشكر اللغوي هو الحمد العرفي كما علم .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه بالحمد لله والثناء عليه ، ولذا جعلت فاتحة الكتاب في أول المصحف لافتتاحها بالحمد لله وتضمنها الثناء عليه سبحانه وتعالى . ونقيض الحمد الذم ، ونقيض الشكر الكفر .

( ذي ) أي صاحب ( الإكرام ) فذي بدل من الكاف في بحمدك ، والإكرام مضاف إليه أي مكرم أنبيائه وأوليائه بلطفه ومنته . وفي القرآن { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وفي الحديث الشريف عن عائشة رضي الله عنها قالت { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته لم يقعد إلا مقدار ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام } رواه مسلم .

( ما ) موصول حرفي ( رمت ) من الروم وهو الطلب كالمرام ( أبتدي ) أي [ ص: 19 ] آتي في ابتداء كلامي ، أي روم ابتدائي كائن بحمدك ، أو موصول اسمي ، أي الذي رمت ابتداءه كائن بحمدك . فبحمدك متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وروم ابتدائي مبتدأ مؤخر ، يقال ابتدأ الشيء فعله ابتداء كأبداه وابتداه ، ( كثيرا ) صفة لمصدر محذوف ، أي أبتدي بحمدك حمدا كثيرا ( كما ) أي كالذي ( ترضاه ) يا ذا الجلال والإكرام ( بغير تحدد ) بل مطلق عن التحديد والتقييد ، لأن العبد ولو أفنى عمره في الثناء على ربه جل شأنه ما أدى عشر معشار ما له عليه سبحانه ، ولكنه جل شأنه لعظيم لطفه ورحمته يرضى من عباده باليسير مع الاعتراف بالعجز والتقصير .

( وفي ) السنن عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال : { صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت : الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فقال : من المتكلم في الصلاة ؟ فلم يجبه أحد ، ثم قالها الثانية : من المتكلم في الصلاة ؟ فقال رفاعة بن رافع : أنا يا رسول الله . قال : كيف قلت ؟ قال : قلت الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى . فقال : والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكا أيهم يصعد بها } قال الترمذي : حديث حسن .

وفي سنن أبي داود عن عامر بن ربيعة قال { عطس شاب من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فقال الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه حتى يرضى ربنا وبعد ما يرضى من أمر الدنيا والآخرة فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من القائل الكلمة ؟ فسكت الشاب ، ثم قال من القائل الكلمة ، فإنه لم يقل بأسا ؟ فقال يا رسول الله أنا قلتها لم أرد بها إلا خيرا .

قال : ما تناهت دون عرش الرحمن جل ذكره
} .

وفي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال { صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من القائل ؟ قال الرجل : أنا يا رسول الله وما أردت إلا خيرا ، فقال : لقد فتحت لها أبواب السماء فلم ينهها شيء دون العرش } .

[ ص: 20 ] فائدة ) : ذكر بعض الناس أن أفضل صيغ الحمد : الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ، ويكافئ مزيده ، ورفع ذلك للإمام المحقق شمس الدين ابن القيم طيب الله ثراه فأنكر على قائله غاية الإنكار بأن ذلك لم يرد في الصحاح ولا السنن ولا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة ولا له إسناد معروف ، وإنما يروى عن أبي نصر التمار عن سيدنا آدم أبي البشر عليه الصلاة والسلام - قال ولا يدري كم بين آدم وأبي نصر إلا الله تعالى . - قال أبو نصر : قال آدم يا رب شغلتني بكسب يدي فعلمني شيئا من مجامع الحمد والتسبيح ، فأوحى الله إليه يا آدم إذا أصبحت فقل ثلاثا وإذا أمسيت فقل ثلاثا : الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده فذلك مجامع الحمد والتسبيح .

قال ابن القيم : فهذا لو رواه أبو نصر التمار عن سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم لما قبلت روايته لانقطاع الحديث فيما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بروايته له عن آدم ؟ قال : وبنى على هذا بعض الناس مسألة فقهية فقال : لو حلف إنسان ليحمدن الله تعالى بمجامع الحمد وأجل المحامد فطريقه في بر يمينه أن يقول الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده .

قال : ومعنى يوافي نعمه أي يلاقيها فتحصل النعم معه . ويكافئ مهموز أي يساوي مزيد نعمه . والمعنى أنه يقوم بشكر ما زاد من النعم والإحسان ، ثم رد هذا بما يطول .

والحاصل أن العبد لا يحصي ثناء على ربه ولو اجتهد في الثناء طول عمره .

روى الإمام أحمد في الزهد عن الحسن قال : قال داود " إلهي لو أن لكل شعرة مني لسانين يسبحانك الليل والنهار والدهر كله ما قضيت حق نعمة واحدة " .

وروي فيه أيضا عن المغيرة بن عتبة قال : " لما أنزل الله على داود { اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور } قال يا رب كيف أطيق شكرك وأنت الذي تنعم علي ثم ترزقني على النعمة الشكر ثم تزيدني نعمة بعد نعمة ، فالنعمة منك يا رب ، فكيف أطيق شكرك ؟ قال الآن عرفتني يا داود " انتهى .

فلا يطمع العبد في أداء شكر أقل نعمة إلا بالاعتراف بالعجز .

التالي السابق


الخدمات العلمية