الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 13 ] القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم

قال أبو جعفر : إن سألنا سائل فقال : إنك ذكرت أنه غير جائز أن يخاطب الله تعالى ذكره أحدا من خلقه إلا بما يفهمه ، وأن يرسل إليه رسالة إلا باللسان الذي يفقهه . . . . .

1 - فما أنت قائل فيما حدثكم به محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عن أبي موسى : ( يؤتكم كفلين من رحمته ) [ سورة الحديد : 28 ] ، قال : الكفلان : ضعفان من الأجر ، بلسان الحبشة .

2 - وفيما حدثكم به ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( إن ناشئة الليل ) [ سورة المزمل : 6 ] قال : بلسان الحبشة إذا قام الرجل من الليل قالوا : نشأ .

3 - وفيما حدثكم به ابن حميد قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة : ( يا جبال أوبي معه ) قال : سبحي ، بلسان الحبشة ؟

قال أبو جعفر : وكل ما قلنا في هذا الكتاب "حدثكم " فقد حدثونا به . [ ص: 14 ]

4 - وفيما حدثكم به محمد بن خالد بن خداش الأزدي ، قال : حدثنا سلم بن قتيبة ، قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل عن قوله : ( فرت من قسورة ) [ سورة المدثر : 51 ] قال : هو بالعربية الأسد ، وبالفارسية شار ، وبالنبطية أريا ، وبالحبشية قسورة .

5 - وفيما حدثكم به ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : قالت قريش : لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : ( لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ) [ سورة فصلت : 44 ] فأنزل الله بعد هذه الآية في القرآن بكل لسان فيه . ( حجارة من سجيل ) [ سورة هود : 82 ، وسورة الحجر : 74 ] قال : فارسية أعربت سنك وكل .

6 - وفيما حدثكم به محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : في القرآن من كل لسان .

وفيما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكرها الكتاب ، مما يدل على أن فيه من غير لسان العرب ؟

قيل له : إن الذي قالوه من ذلك غير خارج من معنى ما قلنا - من أجل أنهم لم يقولوا : هذه الأحرف وما أشبهها لم تكن للعرب كلاما ، ولا كان ذاك [ ص: 15 ] لها منطقا قبل نزول القرآن ، ولا كانت بها العرب عارفة قبل مجيء الفرقان - فيكون ذلك قولا لقولنا خلافا . وإنما قال بعضهم : حرف كذا بلسان الحبشة معناه كذا ، وحرف كذا بلسان العجم معناه كذا . ولم نستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنى واحد ، فكيف بجنسين منها ؟ كما وجدنا اتفاق كثير منه فيما قد علمناه من الألسن المختلفة ، وذلك كالدرهم والدينار والدواة والقلم والقرطاس ، وغير ذلك - مما يتعب إحصاؤه ويمل تعداده ، كرهنا إطالة الكتاب بذكره - مما اتفقت فيه الفارسية والعربية باللفظ والمعنى . ولعل ذلك كذلك في سائر الألسن التي نجهل منطقها ولا نعرف كلامها .

فلو أن قائلا قال - فيما ذكرنا من الأشياء التي عددنا وأخبرنا اتفاقه في اللفظ والمعنى بالفارسية والعربية ، وما أشبه ذلك مما سكتنا عن ذكره - : ذلك كله فارسي لا عربي ، أو ذلك كله عربي لا فارسي ، أو قال : بعضه عربي وبعضه فارسي ، أو قال : كان مخرج أصله من عند العرب فوقع إلى العجم فنطقوا به ، أو قال : كان مخرج أصله من عند الفرس فوقع إلى العرب فأعربته - كان مستجهلا ، لأن العرب ليست بأولى أن تكون كان مخرج أصل ذلك منها إلى العجم ، ولا العجم أحق أن تكون كان مخرج أصل ذلك منها إلى العرب ، إذ كان استعمال ذلك بلفظ واحد ومعنى واحد موجودا في الجنسين .

وإذ كان ذلك موجودا على ما وصفنا في الجنسين ، فليس أحد الجنسين أولى بأن يكون أصل ذلك كان من عنده من الجنس الآخر . والمدعي أن مخرج أصل ذلك إنما كان من أحد الجنسين إلى الآخر ، مدع أمرا لا يوصل إلى حقيقة صحته إلا بخبر يوجب العلم ، ويزيل الشك ، ويقطع العذر صحته . [ ص: 16 ]

بل الصواب في ذلك عندنا : أن يسمى : عربيا أعجميا ، أو حبشيا عربيا ، إذ كانت الأمتان له مستعملتين - في بيانها ومنطقها - استعمال سائر منطقها وبيانها . فليس غير ذلك من كلام كل أمة منهما ، بأولى أن يكون إليها منسوبا - منه .

فكذلك سبيل كل كلمة واسم اتفقت ألفاظ أجناس أمم فيها وفي معناها ، ووجد ذلك مستعملا في كل جنس منها استعمال سائر منطقهم ، فسبيل إضافته إلى كل جنس منها ، سبيل ما وصفنا - من الدرهم والدينار والدواة والقلم ، التي اتفقت ألسن الفرس والعرب فيها بالألفاظ الواحدة والمعنى الواحد ، في أنه مستحق إضافته إلى كل جنس من تلك الأجناس - اجتماع واقتران .

وذلك هو معنى من روينا عنه القول في الأحرف التي مضت في صدر هذا الباب ، من نسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الحبشة ، ونسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الفرس ، ونسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الروم . لأن من نسب شيئا من ذلك إلى ما نسبه إليه ، لم ينف - بنسبته إياه إلى ما نسبه إليه - أن يكون عربيا ، ولا من قال منهم : هو عربي ، نفى ذلك أن يكون مستحقا النسبة إلى من هو من كلامه من سائر أجناس الأمم غيرها . وإنما يكون الإثبات دليلا على النفي ، فيما لا يجوز اجتماعه من المعاني ، كقول القائل : فلان قائم ، فيكون بذلك من قوله دالا على أنه غير قاعد ، ونحو ذلك مما يمتنع اجتماعه لتنافيهما . فأما ما جاز اجتماعه فهو خارج من هذا المعنى . وذلك كقول القائل فلان قائم مكلم فلانا ، فليس في تثبيت القيام له ما دل على نفي كلام آخر ، [ ص: 17 ] لجواز اجتماع ذلك في حال واحد من شخص واحد . فقائل ذلك صادق إذا كان صاحبه على ما وصفه به .

فكذلك ما قلنا - في الأحرف التي ذكرنا وما أشبهها - غير مستحيل أن يكون عربيا بعضها أعجميا ، وحبشيا بعضها عربيا ، إذ كان موجودا استعمال ذلك في كلتا الأمتين . فناسب ما نسب من ذلك إلى إحدى الأمتين أو كلتيهما محق غير مبطل .

فإن ظن ذو غباء أن اجتماع ذلك في الكلام مستحيل - كما هو مستحيل في أنساب بني آدم - فقد ظن جهلا . وذلك أن أنساب بني آدم محصورة على أحد الطرفين دون الآخر ، لقول الله تعالى ذكره : ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) [ سورة الأحزاب : 5 ] . وليس ذلك كذلك في المنطق والبيان ، لأن المنطق إنما هو منسوب إلى من كان به معروفا استعماله . فلو عرف استعمال بعض الكلام في أجناس من الأمم - جنسين أو أكثر - بلفظ واحد ومعنى واحد ، كان ذلك منسوبا إلى كل جنس من تلك الأجناس ، لا يستحق جنس منها أن يكون به أولى من سائر الأجناس غيره . كما لو أن أرضا بين سهل وجبل ، لها هواء السهل وهواء الجبل ، أو بين بر وبحر ، لها هواء البر وهواء البحر - لم يمتنع ذو عقل صحيح أن يصفها بأنها سهلية جبلية . أو بأنها برية بحرية ، إذ لم تكن نسبتها إلى إحدى صفتيها نافية حقها من النسبة إلى الأخرى . ولو أفرد لها مفرد إحدى صفتيها ولم يسلبها صفتها الأخرى ، كان صادقا محقا .

وكذلك القول في الأحرف التي تقدم ذكرناها في أول هذا الباب .

وهذا المعنى الذي قلناه في ذلك ، هو معنى قول من قال : في القرآن من كل لسان - عندنا بمعنى ، والله أعلم : أن فيه من كل لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرها من الأمم التي تنطق به ، نظير ما وصفنا من القول فيما مضى . [ ص: 18 ]

وذلك أنه غير جائز أن يتوهم على ذي فطرة صحيحة ، مقر بكتاب الله ، ممن قد قرأ القرآن وعرف حدود الله - أن يعتقد أن بعض القرآن فارسي لا عربي ، وبعضه نبطي لا عربي ، وبعضه رومي لا عربي ، وبعضه حبشي لا عربي ، بعدما أخبر الله تعالى ذكره عنه أنه جعله قرآنا عربيا . لأن ذلك إن كان كذلك ، فليس قول القائل : القرآن حبشي أو فارسي ، ولا نسبة من نسبه إلى بعض ألسن الأمم التي بعضه بلسانه دون العرب - بأولى بالتطويل من قول القائل : هو عربي . ولا قول القائل : هو عربي بأولى بالصحة والصواب من [ ص: 19 ] قول ناسبه إلى بعض الأجناس التي ذكرنا . إذ كان الذي بلسان غير العرب من سائر ألسن أجناس الأمم فيه ، نظير الذي فيه من لسان العرب .

وإذا كان ذلك كذلك ، فبين إذا خطأ من زعم أن القائل من السلف : في القرآن من كل لسان ، إنما عني بقيله ذلك ، أن فيه من البيان ما ليس بعربي ، ولا جائز نسبته إلى لسان العرب .

ويقال لمن أبى ما قلنا - ممن زعم أن الأحرف التي قدمنا ذكرها في أول الباب وما أشبهها ، إنما هي كلام أجناس من الأمم سوى العرب ، وقعت إلى العرب فعربته - : ما برهانك على صحة ما قلت في ذلك ، من الوجه الذي يجب التسليم له ، فقد علمت من خالفك في ذلك ، فقال فيه خلاف قولك ؟ وما الفرق بينك وبين من عارضك في ذلك فقال : هذه الأحرف ، وما أشبهها من الأحرف غيرها ، أصلها عربي ، غير أنها وقعت إلى سائر أجناس الأمم غيرها فنطقت كل أمة منها ببعض ذلك بألسنتها - من الوجه الذي يجب التسليم له ؟

فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله .

فإن اعتل في ذلك بأقوال السلف التي قد ذكرنا بعضها وما أشبهها ، طولب [ ص: 20 ] - مطالبتنا من تأول عليهم في ذلك تأويله - بالذي قد تقدم بيانه . وقيل له : ما أنكرت أن يكون من نسب شيئا من ذلك منهم إلى من نسبه من أجناس الأمم سوى العرب ، إنما نسبه إلى إحدى نسبتيه التي هو لها مستحق ، من غير نفي منه عنه النسبة الأخرى ؟ ثم يقال له : أرأيت من قال لأرض سهلية جبلية : هي سهلية ، ولم ينكر أن تكون جبلية ، أو قال : هي جبلية ، ولم يدفع أن تكون سهلية ، أناف عنها أن تكون لها الصفة الأخرى بقيله ذلك ؟

فإن قال : نعم! كابر عقله . وإن قال : لا قيل له : فما أنكرت أن يكون قول من قال في سجيل : هي فارسية ، وفي القسطاس : هي رومية - نظير ذلك ؟ وسأل الفرق بين ذلك ، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله .

التالي السابق


الخدمات العلمية