الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مطلب : في حسن الظن .

فهذا حال السلف رجاء بلا إهمال ، وخوف بلا قنوط . ولا بد من حسن الظن بالله تعالى فمن ثم قال الناظم ( ولاق ) أيها العبد المؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ( بحسن الظن ) بالله تعالى ربك ) جل شأنه وتعالى سلطانه ، فإنه عند ظن عبده به ، فإن لقيته وأنت حسن الظن به ( تسعد ) السعادة الأبدية ، وتسلم السلامة السرمدية . ومفهومه أنك إن لم تلاقيه بحسن الظن تشق شقاوة الأبد ، وتعطب عطبا ما عطبه غيرك أنت وأمثالك [ ص: 467 ] فقد قال عليه الصلاة والسلام { قال الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث ذكرني } الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة .

وأخرج أبو داود وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { من حسن الظن العبادة } ورواه الترمذي والحاكم بلفظ { إن حسن الظن بالله من حسن عبادة الله } . وأخرج مسلم وأبو داود وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه أنه { سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل } .

وأخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي عن { حيان أبي النضر قال خرجت عائدا ليزيد بن الأسود فلقيت واثلة بن الأسقع وهو يريد عيادته ، فدخلنا عليه ، فلما رأى واثلة بسط يده وجعل يشير إليه ، فأقبل واثلة حتى جلس فأخذ يزيد بكفي واثلة فجعلهما على وجهه ، فقال له واثلة كيف ظنك بالله ؟ قال ظني بالله والله حسن ، قال فأبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ، إن ظن خيرا فله وإن ظن شرا فله } .

وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال " والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله الظن إلا أعطاه ظنه وذلك بأن الخير في يده .

وروى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا { أمر الله عز وجل بعبد إلى النار ، فلما وقف على شفتها التفت فقال : أما والله يا رب إن كان ظني بك لحسن ، فقال الله عز وجل ردوه أنا عند حسن ظن عبدي بي } .

( تنبيهات ) :

( الأول ) : روى ابن أبي الدنيا عن علي بن بكار رحمه الله تعالى أنه سئل عن حسن الظن بالله تعالى قال : أن لا تجمعك والفجار دار واحدة .

ودعا رجل بعرفات فقال : لا تعذبنا بالنار بعد أن أسكنت توحيدك قلوبنا ، ثم بكى وقال ما إخالك تفعل بعفوك ، ثم بكى وقال ولئن عذبتنا بذنوبنا لتجمعن بيننا وبين أقوام طال ما عاديناهم فيك .

وقال سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام : اللهم لا تشمت من كان يشرك بك بمن كان لا يشرك بك .

[ ص: 468 ] وأخرج ابن أبي الدنيا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا تلا هذه الآية { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } قال : ونحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت أتراك تجمع بين أهل القسمين في دار واحدة . ثم بكى أبو حفص الصيرفي بكاء شديدا .

( الثاني ) : ظن كثير من الجهال أن حسن الظن بالله والاعتماد على سعة عفوه ورحمته مع تعطيل الأوامر والنواهي كاف ، وهذا خطأ قبيح وجهل فضيح ، فإن رجاءك لمرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق كما قاله معروف رحمه الله ورضي عنه . وقال بعض العلماء : من قطع عضوا منك في الدنيا بسرقة ربع دينار لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا . ولم يفرق كثير من الناس بين الرجاء والتمني . والفرق أن الرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ الوسع والطاقة في الإتيان بأسباب الظفر والفوز . والتمني حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه . قال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله } فطوى سبحانه بساط الرجاء إلا عن هؤلاء وأمثالهم .

قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه الروح الكبرى : الرجاء لعبد قد امتلأ قلبه من الإيمان بالله واليوم الآخر ، فمثل بين عينيه ما وعده الله من كرامته وجنته ، فامتد القلب مائلا إلى ذلك شوقا إليه وحرصا عليه ، فهو شبيه بالماد عنقه إلى مطلوب قد صار نصب عينيه . قال وعلامة الرجاء الصحيح أن الراجي لخوف فوت الجنة وذهاب حظه منها يترك ما يخاف أن يحول بينه وبين دخولها .

وأما الأماني فإنها رءوس أموال المفاليس ، أخرجوها في قالب الرجاء ، وتلك أمانيهم ، وهي تصدر من قلب تزاحمت عليه وساوس النفس فأظلم من دخانها ، فهو يستعمل قلبه في شهواتها ، وكلما فعل ذلك منته حسن العاقبة والنجاة ، وأحالته على العفو والمغفرة ، والفضل ، وأن الكريم لا يستوفي حقه ولا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة ويسمي ذلك رجاء ، وإنما هو وساوس وأماني باطلة تقذف بها النفس إلى القلب الجاهل فيستروح إليها قال تعالى { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا } فإذا قالت لك النفس أنا في مقام الرجاء فطالبها [ ص: 469 ] بالبرهان ، وقل هذه أمنية فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . فالكيس يعمل أعمال البر على الطمع والرجاء . والأحمق العاجز يعطل أعمال البر ويتكل على الأماني التي يسميها رجاء .

والحاصل أن حسن الظن والرجاء إن حمل على العمل وحث عليه وساق إليه فهو صحيح ونافع ، وهو من أجل المقامات ورءوس المعاملات وإن دعا إلى البطالة والتواني والانهماك في المعاصي والأماني والانكباب على الضلالة والأغاني فهو غرور ضار مهلك لصاحبه ، وقاطع له عن ربه ، وقامع لهمته عن حبه .

وحسن الظن هو الرجاء ، فمن كان رجاؤه حاديا له على الطاعة زاجرا له عن المعصية فهو رجاء صحيح ، ومن كانت بطالته رجاء ، ورجاؤه بطالة وتفريطا فهو المغرور ، والله ولي الأمور .

ولو أن رجلا له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه ، فأهملها بلا حرث ولم يبذرها وحسن ظنه بأنه يأتي من مغلها مثل ما أتى من حرث وبذر وسقى وتعاهد الأرض لعده الناس من أسفه السفهاء ، وكذا لو حسن ظنه وقوي رجاؤه أن يأتيه ولد من غير جماع ، أو يصير أعلم زمانه من غير طلب للعلم ، وبذل مجهوده في تحصيله وتقييد شوارده وتحقيق فوائده وأمثال ذلك ، وكذا من حسن ظنه ، وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، من غير عمل ولا طاعة ولا امتثال لما أمر تعالى به واجتناب ما نهى عنه ، فإنه يكون من أسفه السفهاء ويعد من أحمق الحمقاء .

ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئا استلزم رجاؤه أمورا :

أحدها محبة ما يرجوه .

الثاني خوفه من فواته .

الثالث سعيه في تحصيله بحسب الإمكان .

وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني ، والرجاء شيء والأماني شيء فكل راج خائف ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع مخافة الفوات كما ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم { من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل } وهو جل شأنه إنما جعل الرجاء لأهل الأعمال . فعلم أن الرجاء إنما ينفع إذا حث صاحبه على طاعة مولاه .

[ ص: 470 ] والمقصود أن من زعم أنه حسن ظنه بالله مع انهماكه في اللذات وانكبابه على المعاصي والشبهات وإعراضه عن الأوامر والطاعات فهو من الحمق على جانب عظيم ، وإنما الذي عليه أماني وغرور . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وقد ذكرت في كتابي البحور الزاخرة من ذلك طرفا صالحا فإن راجعته ظفرت بمرادك والله أعلم .

( الثالث ) : الفرق بين الرجاء والرغبة أن الرجاء طمع ، والرغبة طلب ، فهي ثمرة الرجاء . فإنه إذا رجا الشيء طلبه ، والرغبة من الرجا كالهرب من الخوف . فمن رجا شيئا طلبه ورغب فيه ، ومن خاف شيئا هرب منه . قال تعالى { يدعوننا رغبا ورهبا } والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية