الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق السابع والأربعون بين قاعدة المأمور به يصح مع التخيير وقاعدة المنهي عنه لا يصح مع التخيير ) وسر الفرق بين هاتين القاعدتين أن المأمور به مع التخيير كخصال الكفارة يكون الأمر فيه متعلقا بمفهوم أحدها الذي هو قدر مشترك بينها لصدقه على كل واحد منها فيكون المشترك متعلق الأمر ولا تخيير فيه والخصوصيات هي متعلق التخيير [ ص: 5 ] ولا وجوب فيها فمفهوم أحدها الذي هو قدر مشترك بينها لا يجوز تركه ألبتة ؛ لأن تركه بترك الجميع وهو خلاف الإجماع والخصوصيات متعلق التخيير ولا وجوب فيها ؛ لأنه لا يجب عليه عين العتق ولا عين الكسوة ولا عين الإطعام بل له ترك كل واحد من هذه الخصوصيات بفعل الآخر ويخرج عن العهدة بفعل المشترك في أيها شاء فإن أعتق حصل مفهوم أحدها الذي هو قدر مشترك بينها ، وكذلك إن كسا أو أطعم وأما النهي عن المشترك الذي هو مفهوم أحدها فالقاعدة تقتضي أن النهي متى تعلق بمشترك حرمت أفراده كلها فإذا حرم الله تعالى مفهوم الخنزير حرم كل خنزير أو مفهوم الخمر حرم كل خمر والسبب في ذلك أنه لو دخل فرد في الوجود لدخل في ضمنه المشترك فيلزم المحذور وكذلك يلزم من تحريم المشترك تحريم جميع الأفراد [ ص: 6 ] ولا يلزم من إيجاب المشترك إيجاب كل فرد بسبب أن المطلوب هو تحصيل تلك الماهية المشتركة وإذا حصل فرد منها حصلت في ضمنه واستغني عن غيره فلذلك لا يلزم من إيجاب المشترك إيجاب أفراده كلها فصح التخيير مع الأمر بالمشترك ولم يصح التخيير مع النهي عن المشترك فهذا هو سر الفرق ، فإن قلت : قد وقع النهي مع التخيير في الأختين فإن الله تعالى حرم عليه إحداهما لا بعينها ولا نعني بتحريم المشترك إلا ذلك وحرم الأم وابنتها من غير تعيين وأوجب إحدى الخصال في الكفارة وإذا وجبت واحدة لا بعينها حرمت واحدة لا بعينها فهذه صور كلها تدل على الجمع بين النهي وبين التخيير

قلت هذا محال عقلا ومن المحال عقلا أن يفعل الإنسان فردا من جنس أو نوع أو كلي مشترك من حيث الجملة ولا يفعل ذلك المشترك المنهي عنه ؛ لأن الجزئي فيه الكلي بالضرورة وفاعل الأخص فاعل الأعم فلا سبيل إلى الخروج عن العهدة في النهي إلا بترك كل فرد ، والتخيير مع النهي عن المشترك محال عقلا ، وأما ما ذكرتموه من الصور فوهم أما الأختان والأم وابنتها فلأن ذلك التحريم إنما تعلق بالمجموع عينا لا بالمشترك بين الأفراد ولما كان المطلوب أن لا تدخل ماهية المجموع الوجود والقاعدة العقلية أن عدم الماهية يتحقق بأي جزء كان من أجزائها لا بعينه فلا جرم أي أخت تركها خرج عن عهدة النهي عن المجموع [ ص: 7 ] لا لأنه نهي عن المشترك بل لأن الخروج عن عهدة المجموع يكفي فيه فرد من أفراد ذلك المجموع فهذا هو السبب لا لأن التحريم تعلق بواحدة لا بعينها بل تعلق بالمجموع فيخرج عن العهدة بواحدة لا بعينها فتأمل هذا الفرق فخلافه محال عقلا والشرع لا يرد بخلاف العقل ولا بالمستحيلات .

وكذلك نقول في خصال الكفارة لما أوجب الله تعالى المشترك حرم ترك الجميع ؛ لأنه يستلزم ترك المشترك فالمحرم ترك الجميع لا واحدة بعينها من الخصال فلا نجد نهيا على هذه الصورة إلا وهو متعلق بالمجموع لا بالمشترك فتأمل ذلك فلذلك صح التخيير في المأمور به ولم يصح في المنهي عنه وإنما يقع في الخروج عن عهدته لا في أصل النهي فتأمل ذلك [ ص: 8 ] مع أن الشيخ سيف الدين في الأحكام له الموضوع في أصول الفقه حكى عن أصحابنا صحة النهي مع التخيير كالأمر وحكى عن المعتزلة منعه والحق مع المعتزلة في هذه المسألة دون أصحابنا إلا أن يريدوا التخيير في الخروج عن العهدة كما تقدم فلا يبقى خلاف بين الفريقين .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 2 - 4 ] قال ( الفرق السابع والأربعون بين قاعدة المأمور به يصح مع التخيير وقاعدة المنهي عنه لا يصح مع التخيير ، وسر الفرق بين هاتين القاعدتين أن المأمور به مع التخيير كخصال الكفارة يكون الأمر فيه متعلقا بمفهوم أحدها الذي هو قدر مشترك بينها لصدقه على كل واحد منها ) قلت : قوله : إن الأمر في خصال الكفارة متعلق بأحدها - صحيح ، وقوله : الذي هو قدر مشترك بينها - ليس بصحيح فإنه ليس مفهوم أحد الأمور إلا واحد منها مبهما غير معين لا الحقيقة المشترك فيها ، ولو تعلق الوجوب بالحقيقة من حيث هي تلك الحقيقة للزم شمول الوجوب لكل شخص مما فيه تلك الحقيقة وليس الأمر كذلك ، وقوله : لصدقه على كل واحد منها ، قلت : لا يلزم من صدقه على كل واحد منها أن يراد به الحقيقة المشترك فيها .

قال ( فيكون المشترك متعلق الأمر ولا تخيير فيه ) قلت قد تبين أن متعلق الأمر ليس المشترك قال ( والخصوصيات هي متعلق التخيير [ ص: 5 ] ولا وجوب فيها ) قلت ذلك صحيح إن أراد من حيث تعين كل واحد منها وإن أراد أنها متعلق التخيير من حيث دخولها تحت المشترك فلا وذلك أنه لا يخلو أن تعتبر الحقيقة الشاملة لأنواع الكفارة وشبهها من حيث تلك الحقيقة أولا فإن اعتبرت من حيث هي تلك الحقيقة فلا تعلق للوجوب بها وإن لم تعتبر من حيث هي تلك الحقيقة فلا يخلو أن تعتبر الأنواع من حيث هي تلك الأنواع أولا ، فإن اعتبرت من حيث هي تلك الأنواع فلا تعلق للوجوب بها ، وإن لم تعتبر من حيث هي تلك الأنواع بل من حيث كل واحد منها قسط من تلك الحقيقة فلا يخلو أن تعتبر من حيث مجموعها أولا فإن اعتبرت من حيث مجموعها فلا تعلق للوجوب بها وإن لم تعتبر من حيث مجموعها بل من حيث آحادها فلا يخلو أن تعتبر من حيث تعينها أولا فإن اعتبرت من حيث تعينها فلا تعلق للوجوب بها وإن لم تعتبر من حيث تعينها لكن اعتبرت من حيث إبهامها فهي متعلق الوجوب من هذا الوجه لا غير .

قال ( فمفهوم أحدها الذي هو قدر مشترك بينها لا يجوز تركه ألبتة لأن تركه بترك الجميع وهو خلاف الإجماع إلى قوله بل له ترك كل واحد من هذه الخصوصيات بفعل الآخر ) قلت : ما قاله هنا صحيح غير قوله فمفهوم أحدها الذي هو مشترك فإن مفهوم أحدها ليس المشترك بل واحد غير معين مما في المشترك .

قال ( ويخرج عن العهدة بفعل المشترك في أيها شاء ) قلت : هذا صحيح .

قال ( فإن أعتق حصل مفهوم أحدها الذي هو قدر مشترك بينها ، وكذلك إن كسا أو أطعم ) قلت : ليس أحدها هو القدر المشترك بل مبهم غير معين مما فيه المشترك .

قال ( وأما النهي عن المشترك الذي هو مفهوم أحدها ) قلت : قد تقدم مرارا أن مفهوم أحدها ليس المشترك .

قال ( فالقاعدة تقتضي أن النهي متى تعلق بمشترك حرمت أفراده كلها ولذلك يلزم من تحريم المشترك تحريم جميع الأفراد ) قلت ذلك صحيح [ ص: 6 ] قال : ( ولا يلزم من إيجاب المشترك إيجاب كل فرد بسبب أن المطلوب هو تحصيل تلك الماهية المشتركة إلى قوله فهذا هو سر الفرق ) قلت ما قاله هنا غير مسلم ولا صحيح بل يلزم من إيجاب المشترك إيجاب كل فرد مما فيه المشترك إذا كان المقصود تحصيل تلك الماهية المشتركة وإنما لا يلزم إيجاب كل فرد مما فيه المشترك إذا كان المقصود تحصيل شيء مما فيه المشترك .

قال ( فإن قلت إلى قوله فهذه صور كلها تدل على الجمع بين النهي وبين التخيير ) . قلت : ما أورد عليه من السؤال وارد .

قال ( قلت : هذا محال عقلا ومن المحال عقلا أن يفعل الإنسان فردا من جنس أو نوع أو كلي مشترك من حيث الجملة ولا يفعل ذلك المشترك إلى قوله والتخيير مع النهي عن المشترك محال عقلا ) قلت : إن أراد بقوله " ولا يفعل ذلك المشترك " الحقيقة من حيث هي تلك الحقيقة فليس بصحيح فكيف ومن قاعدة من يثبت ذلك أنه لا وجود له في الأعيان وإن أراد بقوله لا يفعل ذلك المشترك أن لا يفعل شيئا مما فيه الحقيقة فقوله صحيح ولا يتناول محل النزاع .

قال ( وأما ما ذكرتموه من الصور فوهم ) أما الأختان والأم وابنتها فلأن ذلك التحريم إنما تعلق بالمجموع عينا لا بالمشترك بين الأفراد ولما كان المطلوب أن لا تدخل ماهية المجموع الوجود والقاعدة العقلية أن عدم الماهية يتحقق بأي جزء كان من أجزائها لا بعينه فلا جرم أي أخت تركها خرج عن عهدة النهي عن المجموع [ ص: 7 ] قلت : ما قاله هنا ليس بصحيح فإنه لا يخلو أن يريد بالنهي عن المجموع النهي عن الجمع أو يريد بذلك النهي عن الجملة فإن أراد الثاني فقوله ليس بصحيح فإنه يلزم من النهي عن الجملة النهي عن آحادها ، وإن أراد الأول وهو النهي عن الجمع فإنه يلزم منه النهي عن كل واحد مبهم وهو قول خصمه فقد لزمه ما أنكر .

قال ( لا ؛ لأنه نهي عن المشترك ) قلت : لو كان نهيا عن المشترك لزم منه النهي عن كل واحد .

قال ( بل ؛ لأن الخروج عن عهدة المجموع يكفي فيه فرد من أفراد ذلك المجموع ) قلت : إنما يكفي ذلك إذا كان المراد بالمجموع الجمع لا إذا كان المراد بالمجموع الجملة .

قال ( فهذا هو السبب لا لأن التحريم تعلق بواحدة لا بعينها بل تعلق بالمجموع ويخرج عن العهدة بواحدة لا بعينها ) قلت : قد سبق أنه لا يخرج عن العهدة بواحدة لا بعينها إلا إذا كان المراد تحريم الجمع لا إذا كان المراد بالمجموع الجملة .

قال ( فتأمل الفرق فخلافه محال عقلا ) قلت : ما اختاره هو المحال عقلا وما خالفه هو الجائز عقلا .

قال ( والشرع لا يرد بخلاف العقل ولا بالمستحيلات ) قلت : ذلك صحيح ولا يلزم منه مقصوده .

قال ( وكذلك نقول في خصال الكفارة لما أوجب الله تعالى المشترك حرم ترك الجميع ؛ لأنه يستلزم ترك المشترك ) قلت : لو أوجب الله تعالى المشترك لما جاز ترك شيء مما فيه المشترك .

قال ( فالمحرم ترك الجميع لا واحدة بعينها من الخصال ) قلت : إذا كان المحرم ترك الجميع لزم منه تحريم ترك واحدة لا بعينها .

قال ( فلا تجد شيئا على هذه الصورة إلا وهو متعلق بالمجموع لا بالمشترك ) قلت : قد سبق أنه إذا كان متعلقا بالمجموع أي بالجملة فإن كان الوجوب فلا بد من فعل كل واحد من آحادها وإن كان التحريم فلا بد من ترك كل واحد من آحادها .

قال ( فتأمل ذلك فلذلك صح التخيير في المأمور به ولم يصح في المنهي عنه وإنما يقع في الخروج عن عهدته لا في أصل النهي ) قلت : قد تأملت ذلك وصح ذلك التخيير في النهي كما صح في الأمر ووقع في الخروج عن العهدة في أصل النهي .

قال ( فتأمل ذلك [ ص: 8 ] مع أن الشيخ سيف الدين في الأحكام له في أصول الفقه يحكي عن أصحابنا صحة النهي مع التخيير كالأمر وحكى عن المعتزلة منعه ) قلت : ما حكاه سيف الدين صحيح وقول الأصحاب صحيح وقول المعتزلة باطل .

قال ( والحق مع المعتزلة في هذه المسألة إلى آخر ما قاله في ذلك ) قلت : قد سبق أن الأمر بعكس ما قال وأن الصواب مع الأصحاب .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق السابع والأربعون بين قاعدة المأمور به يصح مع التخيير وقاعدة المنهي عنه لا يصح مع التخيير ) على ما زعم الأصل أنه فرق بينهما المعتزلة دون الأصحاب وأن مذهب المعتزلة هو الحق وبين سره بما قال ابن الشاط أنه هو المحال عقلا وإن ما حكاه عن المعتزلة باطل والصحيح ما حكاه سيف الدين عن الأصحاب فانظرهما والصواب عدم الفرق بينهما أصلا لا عند المعتزلة ولا عند الأصحاب .

أما المعتزلة فإنهم وإن اختلفوا في أن الأمر أو النهي بواحد مبهم من أشياء معينة هل يوجب أو يحرم الكل فيثاب بفعل الكل أو تركه ثواب فعل واجبات وترك محرمات ويعاقب بترك الكل أو فعله عقاب ترك واجبات وفعل محرمات ويسقط فعل الكل الواجب أو تركه بفعل أو ترك واحد منهما أو الواجب في ذلك أو المحرم في ذلك واحد منهما معين عند الله تعالى ويسقط طلب الفعل أو الترك في الواجب أو المحرم بفعله أو فعل غيره منها أو بتركه أو ترك غيره منها أو الواجب أو المحرم في ذلك ما يختاره المكلف للفعل أو للترك منها بأن يفعله أو يتركه دون غيره وإن اختلف باختلاف اختيار المكلفين إلا أنهم اتفقوا على نفي إيجاب أو تحريم واحد لا بعينه لما قالوا من أن تحريم الشيء أو إيجابه لما في فعله أو تركه من المفسدة التي يدركها الفعل وإنما يدركها في المعين وأما الأصحاب فإنهم اتفقوا على أن الأمر أو النهي بواحد مبهم من أشياء معينة يوجب أو يحرم واحدا منها لا بعينه وهو القدر المشترك بينهما في ضمن أي معين منها ؛ لأنه المأمور به أو [ ص: 6 ] المنهي عنه وتعرف المسألة على جميع الأقوال بالواجب المخير والمحرم المخير لتخيير المكلف في الخروج عن عهدة الواجب أو المحرم بأي من الأشياء يفعله أو يتركه وإن لم يكن من حيث خصومه واجبا أو محرما عند الأصحاب بل واحد لا بعينه هذا خلاصة ما في جمع الجوامع مع شرح المحلى ومفاد ذلك أن الخلاف بين قول الأصحاب وبين القول الأول من أقوال المعتزلة المذكورة معنوي وعليه جماعة من الأصوليين كالآمدي وابن الحاجب والعضد قال السعد وهو مذهب بعض المعتزلة فيثاب ويعاقب على كل واحد ولو أتى بواحد سقط عنه الباقي بناء على أن الواجب قد يسقط بدون الأداء . ا هـ .

وذلك ؛ لأن الأمر تعلق بكل منها بخصوصه على وجه الاكتفاء بواحد منها قلنا : إن سلم ذلك لا يلزم منه وجوب الكل المرتب عليه ما ذكر وذهب الإمام الرازي وإمام الحرمين وجماعة إلى أنه لفظي بناء على تفسير أبي الحسين للقول الأول من أقوال المعتزلة المذكورة بأنه لا يجوز الإخلال بجميعها ولا يجب الإتيان به وللمكلف أن يختار أياما كان فهو بعينه مذهب أهل السنة والخلف لفظي ؛ لأنهم إنما قالوا بوجوب الكل بهذا المعنى فرارا من القول بوجوب واحد مبهم ؛ لأن العقل لا يدرك فيه مصلحة بناء على عقيدتهم من التحسين والتقبيح وأن العقل يدرك الأحكام قبل الشرع ، وإلى هذا يشير العلامة أبو إسحاق في الموافقات حيث قال وكل مسألة في أصول الفقه ينبني عليها فقه إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير والمحرم المخير ، فإن كل فرقة موافقة للأخرى في نفس العمل وإنما اختلفوا في الاعتقاد بناء على أصل محرر في علم الكلام وفي أصول الفقه له تقرير أيضا وهو هل الوجوب أو التحريم أو غيرهما راجعة إلى صفات الأعيان أو إلى خطاب الشارع . ا هـ .

المراد قال الشربيني وأشار المحلي بقوله وهو القدر المشترك بينها إلى الإبهام في الواجب أي والمحرم وبقوله في ضمن أي معين إلى التعيين في المخير فيه ثم إن القدر المشترك بينها أعني ذلك المفهوم من حيث تعين المشترك فيه معين فالواجب معين فاندفع القول بأنه كلف بغير معين وأما خصوصية كل واحد فهو مخير فيه لا واجب فلا يلزم فيه التكليف بغير معين هذا هو الحق في الحل الذي بينه العضد بما توضيحه أن الذي [ ص: 7 ] وجب وهو الواحد المبهم أعني هذا المفهوم الكلي لم يخير فيه ؛ إذ لا يجوز تركه ألبتة والتخيير إنما هو في كل واحد من المعينات وإن كان كل واحد منها يتأدى به الواجب لتضمن كل واحد منها الواجب الذي هو مفهوم أحدها مبهما فليس معنى الواجب المخير أنه خير في نفس ذلك الواجب كما يتبادر إلى الفهم من هذه العبارة بل معناه الواجب الذي خير في أفراده وتعدد ما صدق عليه أحدها إذا تعلق به الوجوب والتخيير يأبى كون متعلق الوجوب والتخيير واحدا كما لو حرم واحدا من الأمرين وأوجب واحدا فإن معناه أيهما فعلت حرم الآخر وأيهما تركت وجب الآخر والتخيير بين واجب أو غير واجب بهذا المعنى جائز وإنما الممتنع التخيير بين واجب بعينه وغير واجب بعينه كالصلاة وأكل الخبز ا هـ كلام الشربيني .

وكذلك يمتنع التخيير بين أفراد المشترك لا فرق بين كونه المأمور به أو المنهي عنه كمفهوم الخنزير أو مفهوم الخمر وكمفهوم صوم رمضان خلافا للأصل ؛ لأنه كما يلزم من تحريم المشترك تحريم جميع أفراده ككل خنزير وكل خمر كذلك يلزم من إيجاب المشترك إيجاب جميع أفراده ككل صوم رمضان بعام من الأعوام ، قال ابن الشاط وإذا كان المقصود تحصيل تلك الماهية المشتركة لزم من إيجاب المشترك إيجاب كل فرد مما فيه المشترك وإنما لا يلزم إيجاب كل فرد مما فيه المشترك إذا كان المقصود تحصيل شيء مما فيه المشترك ا هـ . أي كإيجاب واحد مبهم من خصال كفارة اليمين فإن في آيتها الأمر بذلك تقديرا أي معنى ؛ إذ هي خبر بمعنى الأمر لما علمت من أن كل فرد مما فيه المشترك هو متعلق التخيير فلا يتعلق به الإيجاب بل إنما يتعلق الإيجاب بواحد مبهم منها وهو المفهوم الكلي المشترك بينها وإن كان كل واحد منها يتأدى به الواجب من حيث إنه يتضمن الواجب الذي هو مفهوم أحدها مبهما ، فكون المقصود تحصيل شيء مما فيه المشترك إنما هو من حيث إنه لا يتأدى الواجب إلا به لا من حيث إنه هو نفس الواجب لوجهين :

الأول : أنه كيف يكون هو نفس الواجب وهو متعلق التخيير .

الثاني : أنه لو كان هو نفس الواجب لكان هو بعينه مذهب بعض المعتزلة من أن الواجب في ذلك ما يختاره المكلف للفعل من أي واحد منها بأن يفعله دون غيره وإن اختلف باختلاف اختيار المكلفين للاتفاق على [ ص: 8 ] الخروج عن عهدة الواجب بأي منها يفعل فيرد عليه حينئذ قول المحلي أن الخروج به عن عهدة الواجب لكونه أحدها لا لخصوصه أي كونه مختار المكلف للقطع باستواء المكلفين في الواجب عليهم انتهى على أن القول بمراعاة الخصوصية نظر التأدي الواجب وهو المشترك بها المبني عليه الخلاف بين أهل السنة في أن محل ثواب الواجب الذي هو المشترك بينها هل هو الأعلى أو الأول أو الأحد ومحل العقاب هل هو الأدنى أو الأحد ؟ خلاف التحقيق والتحقيق المأخوذ من أن الواجب لا يختلف باختلاف المكلفين أن محل ثواب الواجب والعقاب أحدها من حيث إنه أحدها ولا نظر إلى خصوصية ما وقع لأنه حتى بعد الوقوع لم يزل من حيث تلك الخصوصية مخيرا وإلا لاختلف الواجب باختلاف المكلفين ولا قائل به على الأصح الذي التفريع عليه وكذا يقال في كل من الزائد على من يتأدى به الواجب منها أنه يثاب عليه ثواب المندوب من حيث إنه أحدها لا من حيث خصوصه ؛ لأن الكلام في مقتضى الأمر بواحد مبهم ومقتضاه الثواب على القدر المشترك .

وأما خصيصية المتعلق وما فيه من الزيادة فيثاب عليها من حيث دخولها في الأمر بفعل الخير ثواب المندوب كما في المحلي والشربيني وكما لا يلزم إيجاب كل فرد مما فيه المشترك إذا كان المقصود تحصيل شيء مما فيه المشترك بناء على القول بمراعاة الخصوصية نظرا لتأدي الواجب وهو المشترك بها أو تحصيل المشترك الذي هو أحدها من حيث إنه أحدها بناء على التحقيق كذلك لا يلزم تحريم كل فرد مما فيه المشترك كما في نحو لا تتناول السمك أو اللبن أو البيض إذا كان المقصود ترك شيء مما فيه المشترك بناء على القول بمراعاة الخصوصية نظرا لتأدي ترك المحرم وهو المشترك بها أو ترك المشترك الذي هو أحدها من حيث إنه أحدها في ضمن أي معين منها بناء على التحقيق فعلى المكلف تركه في أي معين منها ، وله فعله في غيره إذ لا مانع من فعل الغير ؛ لأن المحرم واحد فتحريم واحد لا بعينه ليس من باب عموم السلب بل من باب سلب العموم فيتحقق في واحد فليس النهي كالنفي ويقاس على التحريم الكراهة إلا في العقاب كما في المحلي والشربيني .

وبالجملة فلا فرق بين كون الأمر بواحد مبهم من أشياء معينة يوجب واحدا منها لا بعينه عند الأصحاب ولا يوجبه عند المعتزلة بل إنما يوجب الكل ويسقط بواحد أو واحدا منها معينا عند الله أو ما يختاره المكلف للفعل على الخلاف المتقدم وبين كون النهي بواحد مبهم من أشياء معينة يحرم واحدا منها لا بعينه عند الأصحاب ولا يحرمه عند المعتزلة بل إنما يحرم الكل ويسقط بترك واحد [ ص: 9 ] أو واحدا منها معينا عند الله أو ما يختاره المكلف للترك على الخلاف المتقدم نعم فرق بعض المعتزلة بينهما بأن اللغة لم ترد بصيغة من النهي عن واحد مبهم من أشياء معينة كما وردت بالأمر بواحد مبهم من أشياء معينة . قال وقوله تعالى { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } نهي عن طاعتهما إجماعا أي وليس نهيا عن طاعة واحد مبهم منهما حتى يقال : إنه صيغة من النهي عن واحد مبهم من أشياء معينة وردت بها اللغة لكن رد المحلي هذا الجواب بما حاصله أن هذه الصيغة يفهم منها النهي عن واحد مبهم فهي طريق لذلك ولا ينافي ذلك صرفها عن ظاهرها بالإجماع فقد ثبت ورود اللغة بذلك الطريق غاية الأمر أنه منع من حملها على معناها الأصلي مانع فافهم هكذا ينبغي تحقيق هذا المقام وإن أردت زيادة توضيحه فعليك بشرح المحلي على جمع الجوامع وحواشيه والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية