الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
النوع الموفي أربعين

معرفة التابعين

هذا ومعرفة الصحابة أصل أصيل يرجع إليه في معرفة المرسل والمسند . قال الخطيب الحافظ : التابعي من صحب الصحابي .

قلت : ومطلقه مخصوص بالتابع بإحسان ، ويقال للواحد منهم: تابع وتابعي . وكلام الحاكم أبي عبد الله وغيره مشعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه، وإن لم توجد الصحبة العرفية ، والاكتفاء في هذا بمجرد اللقاء والرؤية أقرب منه في الصحابي، نظرا إلى مقتضى اللفظين فيهما .

[ ص: 944 ]

التالي السابق


[ ص: 944 ] النوع الموفي أربعين

معرفة التابعين.

154 - قوله: (قال الخطيب الحافظ : "التابعي من صحب الصحابي" .

قلت : ومطلقه مخصوص بالتابع بإحسان ، ويقال للواحد منهم: تابع وتابعي . وكلام الحاكم أبي عبد الله وغيره مشعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه، وإن لم توجد الصحبة العرفية ، والاكتفاء في هذا بمجرد اللقاء والرؤية أقرب منه في الصحابي؛ نظرا إلى مقتضى اللفظين فيهما ) انتهى.

[ ص: 945 ] وفيه أمور:

أحدها: أن تقديم المصنف كلام الخطيب في حد التابعي على كلام الحاكم وغيره، وتصديره به كلامه، ربما يوهم ترجيحه على القول الذي بعده، وليس كذلك، بل الراجح الذي عليه العمل قول الحاكم وغيره في الاكتفاء بمجرد الرؤية دون اشتراط الصحبة، وعليه يدل عمل أئمة الحديث: مسلم بن الحجاج، وأبي حاتم بن حبان، وأبي عبد الله الحاكم، وعبد الغني بن سعيد، وغيرهم.

وقد ذكر مسلم بن الحجاج في كتاب (الطبقات) سليمان بن مهران الأعمش في طبقة التابعين، وكذلك ذكره ابن حبان فيهم، وقال: "إنما أخرجناه في هذه الطبقة؛ لأن له لقيا وحفظا، رأى أنس بن مالك وإن لم يصح له سماع المسند عن أنس" وقال علي بن المديني: "لم يسمع الأعمش من أنس، [ ص: 946 ] إنما رآه رؤية بمكة يصلي خلف المقام".

فأما طرق الأعمش عن أنس فإنما يرويها عن يزيد الرقاشي، عن أنس.

وقال يحيى بن معين: "كل ما روى الأعمش عن أنس فهو مرسل" وقد أنكر على أحمد بن عبد الجبار العطاردي حديثا عن فضيل، عن الأعمش، قال: "رأيت أنسا بال فغسل ذكره غسلا شديدا، ثم توضأ ومسح على خفيه، فصلى [ ص: 947 ] بنا، وحدثنا في بيته". وقال الترمذي: "لم يسمع من أحد من الصحابة".

وأما رواية الأعمش عن عبد الله بن أبي أوفى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخوارج كلاب النار" فهو مرسل، فقد قال أبو حاتم الرازي: "إنه لم يسمع من ابن أبي أوفى" وهذا الحديث وإن رواه إسحاق الأزرق عنه هكذا كما رواه ابن ماجه في سننه فقد رواه عبيد الله بن نمير، عن الأعمش، عن الحسين بن واقد، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس للأعمش رواية عن أحد من الصحابة في شيء من الكتب الستة، إلا هذا الحديث الواحد عند ابن ماجه.

وكذلك عد عبد الغني بن سعيد الأزدي الأعمش في التابعين في جزء له جمع فيه من روى من التابعين عن عمرو بن شعيب.

[ ص: 948 ] وكذلك عد فيهم أيضا يحيى بن أبي كثير؛ لكونه لقي أنسا، وقد قال أبو حاتم الرازي: إنه لم يدرك أحدا من الصحابة إلا أنس بن مالك، فإنه رآه رؤية ولم يسمع منه، وكذا قال البخاري وأبو زرعة، قال أبو زرعة: "وحديثه عن أنس مرسل".

قلت: في صحيح مسلم روايته عن أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة لحديث إسلامه، ولكن مسلما قرن رواية يحيى بن أبي كثير مع رواية شداد أبي عمار، [ ص: 949 ] وكان اعتماد مسلم على رواية شداد فقط؛ فإنه قال فيه: "قال عكرمة: ولقي شداد أبا أمامة" فذكره وسكت عن رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي أمامة، وهي بصيغة العنعنة. والله أعلم.

وذكر عبد الغني بن سعيد أيضا جرير بن حازم في التابعين؛ لكونه رأى أنسا. وقد روى عن جرير أنه قال: "مات أنس ولي خمس سنين".

وذكر عبد الغني بن سعيد أيضا موسى بن أبي عائشة في التابعين؛ لكونه [ ص: 950 ] لقي عمرو بن حريث.

وقال الحاكم أبو عبد الله في (علوم الحديث) في النوع الرابع عشر: "هم طبقات خمس عشرة طبقة، آخرهم من لقي أنس بن مالك من أهل البصرة، ومن لقي عبد الله بن أبي أوفى من أهل الكوفة، ومن لقي السائب بن يزيد من أهل المدينة" إلى آخر كلامه.

ففي كلام هؤلاء الأئمة الاكتفاء في التابعي بمجرد رؤية الصحابي ولقيه له دون اشتراط الصحبة.

إلا أن ابن حبان يشترط في ذلك أن تكون رؤيته له في سن من يحفظ عنه (فإن كان صغيرا لم يحفظ عنه) فلا عبرة برؤيته، كخلف بن خليفة، فإنه عده في أتباع التابعين وإن كان رأى عمرو بن حريث؛ لكونه كان صغيرا.

وقد روى الترمذي في (الشمائل) عن علي بن حجر، عن خلف بن خليفة [ ص: 951 ] قال: "رأيت عمرو بن حريث صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام صغير" وهذا إسناد صحيح، وما اختاره ابن حبان له وجه تقدم مثله في الرؤية المقتضية للصحبة هل يشترط فيها التمييز أم لا؟

الأمر الثاني: أن الخطيب وإن كان قال في كتاب (الكفاية) ما حكاه عنه المصنف من أن التابعي من صحب الصحابي - فإنه عد منصور بن المعتمر من التابعين في جزء له جمع فيه رواية الستة من التابعين بعضهم عن بعض، وذلك في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي من رواية منصور بن [ ص: 952 ] المعتمر، عن هلال بن يساف، عن ربيع بن خثيم، عن عمرو بن ميمون، عن [ ص: 953 ] عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن امرأة من الأنصار، عن أبي أيوب مرفوعا "قل هو الله أحد ثلث القرآن" قال الخطيب: "منصور بن المعتمر له رؤية من الصحابة ابن أبي أوفى" قلت: "وإنما له رؤية فقط دون الصحبة والسماع".

وقد ذكره مسلم وابن حبان وغيرهما في طبقة أتباع التابعين، ولم أر من عده في طبقة التابعين.

وقال النووي في (شرح مسلم): "ليس بتابعي، ولكنه من أتباع التابعين" فقد عده الخطيب في التابعين وإن لم يعرف له صحبة لابن أبي أوفى، فيحمل قوله في الكفاية: "من صحب الصحابي" على أن المراد اللقي؛ جمعا بين كلاميه. والله أعلم.

[ ص: 954 ] الأمر الثالث: أن تعقب المصنف لكلام الخطيب بقوله: "قلت: ومطلقه مخصوص بالتابعي بإحسان" فيه نظر من حيث إنه إن أراد بالإحسان أن لا يرتكب أمرا يخرجه عن الإسلام فهو كذلك، وأهل الحديث وإن أطلقوا أن التابعي من لقي أحدا من الصحابة فمرادهم مع الإسلام، إلا أن الإحسان أمر زائد على الإيمان والإسلام، كما فسره به النبي صلى الله عليه وسلم في سؤال جبريل له في الحديث المتفق عليه. وإن أراد المصنف بالإحسان الكمال في الإسلام أو العدالة فلم أر من اشترط ذلك في حد التابعي، بل من صنف في الطبقات أدخل فيهم الثقات وغيرهم. والله أعلم.




الخدمات العلمية