الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 350 ] باب التكبير

يتعلق بهذا الباب ستة مباحث :

المبحث الأول في سبب وروده .

" الثاني في حكمه .

" الثالث في بيان من ورد عنه .

" الرابع في صيغته .

" الخامس في موضع ابتدائه وانتهائه .

" السادس في بيان أوجهه .

(المبحث الأول في سبب وروده)

ذهب جمهور العلماء إلى أن سبب وروده أن الوحي تأخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المشركون : زورا وكذبا . إن محمدا قد ودعه ربه وقلاه وأبغضه فنزل تكذيبا لهم ، وردا لمفترياتهم قوله تعالى : والضحى * والليل إذا سجى إلى آخر السورة ، فلما فرغ جبريل من قراءة هذه السورة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " الله أكبر" ; شكرا لله تعالى على ما أولاه من نزول الوحي عليه بعد انقطاعه ، ومن الرد على إفك الكافرين ومزاعمهم ، وفرحا وسرورا بالنعم التي عددها الله تعالى عليه في هذه السورة خصوصا هذا الوعد الكريم الذي تضمنه قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى .

ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يكبر إذا بلغ والضحى مع خاتمة كل سورة حتى يختم تعظيما لله تعالى واستصحابا للشكر ، وابتهاجا بختم القرآن العظيم .

(المبحث الثاني في حكمه )

أجمع الذين ذهبوا إلى إثبات التكبير على أنه ليس بقرآن ، وإنما هو ذكر ندب إليه الشارع عند ختم بعض سور القرآن كما ندب إلى التعوذ عند البدء بالقراءة ، ونظرا للإجماع على أنه ليس بقرآن لم يكتب في مصحف ما من المصاحف العثمانية لا في المكي ولا في غيره .

وحكمه : أنه سنة ثابتة مأثورة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سبق في المبحث الأول من سبب وروده ; ولقول البزي قال لي الإمام الشافعي : إن تركت التكبير فقد تركت سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال أبو الفتح فارس بن أحمد : إن التكبير سنة [ ص: 351 ]

مأثورة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعين . وروي عن البزي أنه قال : سمعت عكرمة بن سليمان يقول : قرأت على إسماعيل بن عبد الله المكي . فلما بلغت والضحى قال لي : كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم ، فإني قرأت على عبد الله بن كثير فلما بلغت والضحى قال لي كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم وأخبره أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك وأخبره أن النبي -صلى الله عليه وسلم - أمره بذلك رواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد .

وقد اتفق الحفاظ على أن حديث التكبير لم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا البزي وأما غيره فرواه موقوفا على ابن عباس ومجاهد ، وهذا الحكم عام داخل الصلاة وخارجها .

قال الأهوازي : والتكبير عند أهل مكة سنة مأثورة يستعملونه في قراءتهم ودروسهم وصلاتهم .

وروى السخاوي عن أبي محمد الحسن بن محمد القرشي بن عبد الله القرشي أنه صلى بالناس التراويح خلف المقام بالمسجد الحرام فلما كانت ليلة الختم كبر من خاتمة والضحى إلى آخر القرآن في الصلاة، فلما سلم إذا بالإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي قد صلى وراءه . قال : فلما أبصرني الإمام الشافعي قال لي : أحسنت أصبت السنة، والأحسن أن يكون التكبير في الصلاة سرا مطلقا سواء أكانت الصلاة سرية أم جهرية ، والله تعالى أعلم .

(المبحث الثالث في بيان من ورد عنه التكبير)

قال صاحب الغيث نقلا عن صاحب النشر : اعلم أن التكبير صح عند أهل مكة قرائهم وعلمائهم وأئمتهم ومن روي عنهم صحة استفاضت واشتهرت وذاعت وانتشرت حتى بلغت حد التواتر ، ا هـ . قال صاحب الغيث : وصح أيضا عند غيرهم إلا أن اشتهاره عنهم أكثر لمداومتهم على العمل عليه بخلاف غيرهم من أئمة الأمصار ، ثم قال وأجمع أهل الأداء على الأخذ به للبزي . واختلفوا في الأخذ به لقنبل فالجمهور من المغاربة على تركه له كسائر القراء وهو الذي في التيسير وغيره وأخذ له جمهور العراقيين وبعض المغاربة بالتكبير وأخذ له بعضهم بالوجهين التكبير وتركه والوجهان في الشاطبية . وروي التكبير أيضا عن غير البزي وقنبل من القراء ولكن المأخوذ به من طريق التيسير والشاطبية اختصاصه بالبزي وقنبل بخلاف عنه ، ا هـ . باختصار وبعض تصرف .

(المبحث الرابع في صيغته )

ذهب الجمهور إلى أن صيغته : " الله أكبر " من غير زيادة تهليل قبله ولا تحميد بعده ، وذلك لكل من البزي وقنبل على القول بثبوت التكبير له، وروى بعض العلماء عنهما زيادة [ ص: 352 ]

التهليل قبل التكبير فتقول : " لا إله إلا الله والله أكبر " وزاد بعضهم لهما التحميد بعد التكبير فتقول : " لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد " إلا أن التهليل قبله والتحميد بعده لم يثبتا عن البزي وقنبل من طريق التيسير والشاطبية بل ثبتا عنهما من طرق أخرى . ولكن جرى عمل الشيوخ قديما وحديثا على الأخذ بكل ما صح في التكبير وإن لم يكن من طريق الكتاب المقروء به ، لأن المقام مقام إسهاب وإطناب للتلذذ بذكر الله عند ختم كتابه . وينبغي أن تعلم أن التحميد لقنبل ليس من طريق التيسير والشاطبية ولا من طريق النشر أيضا ، فالأولى الاقتصار له إذا قرئ له بالتكبير على التكبير وحده أو عليه مع التهليل ، وأن تعلم أيضا أنه لا تحميد لأحد بين الليل والضحى ، والله تعالى أعلم .

(المبحث الخامس في موضع ابتدائه وانتهائه)

اختلف العلماء في موضع ابتداء التكبير وانتهائه ، فذهب فريق إلى أن ابتداءه من أول سورة والضحى ، وانتهاءه أول سورة الناس ، وذهب فريق آخر إلى أن ابتداءه من آخر والضحى وانتهاءه آخر الناس ، ومنشأ هذا الخلاف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ عليه جبريل سورة والضحى كبر عقب فراغ جبريل من قراءة هذه السورة ثم قرأها هو ، فهل كان تكبيره - صلى الله عليه وسلم - لقراءته هو أو لختم قراءة جبريل ؟ ذهب فريق إلى الأول وهو أن تكبيره - صلى الله عليه وسلم - كان لقراءة نفسه وهذا الفريق هو الذي يرى أن ابتداء التكبير أول سورة والضحى وانتهاءه أول سورة الناس . وذهب فريق إلى الثاني وهو أن تكبيره - صلى الله عليه وسلم -كان لختم قراءة جبريل وهذا الفريق هو الذي يرى أن ابتداءه آخر والضحى وانتهاءه آخر الناس . ومن هنا تعلم أن الخلاف في ابتداء التكبير وانتهائه مبني على الخلاف في تكبير النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كان لبدء قراءته أم لختم قراءة جبريل ؟ فمن ذهب إلى أن تكبيره - صلى الله عليه وسلم - لبدء قراءته يرى أن ابتداء التكبير أول والضحى وانتهاءه أول الناس ، ومن ذهب إلى أن تكبيره لختم قراءة جبريل يرى أن ابتداءه آخر والضحى وانتهاءه آخر الناس . هذا ولم يذهب أحد إلى أن ابتداء التكبير من آخر الليل . وأما قول الشاطبي : وبعض له من آخر الليل وصلا فالمراد به أول والضحى كما بينه شراح كلامه .

(المبحث السادس في بيان أوجهه)

وهي ثمانية أوجه بين كل سورتين من سور الختم يمتنع منها وجه واحد " وسيأتي بيانه " وتجوز السبعة الباقية ، وتنقسم هذه الأوجه السبعة ثلاثة أقسام . اثنان منها على تقدير أن يكون التكبير لأول السورة ، واثنان على تقدير أن يكون لآخرها ، وثلاثة تحتمل التقديرين .

فأما الوجهان المبنيان على تقدير أن يكون التكبير لأول السورة . [ ص: 353 ]

فأولهما : قطع التكبير عن آخر السورة ووصله بالبسملة مع الوقف عليها ثم الابتداء بأول السورة التالية .

وثانيهما : قطعه عن آخر السورة ووصله بالبسملة مع وصل البسملة بأول السورة التالية وهذان الوجهان ممنوعان بين الناس والفاتحة .

وأما الوجهان المبنيان على تقدير أن يكون التكبير لآخر السورة :

فأولهما : وصل آخر السورة بالتكبير مع الوقف عليه ثم الإتيان بالبسملة مع الوقف عليها ثم الابتداء بأول السورة .

وثانيهما : وصل آخر السورة بالتكبير مع الوقف عليه ثم الإتيان بالبسملة مع وصلها أول السورة . وهذان الوجهان ممنوعان بين الليل والضحى .

وأما الثلاثة المحتملة :

فأولها : قطع الجميع ، أعني الوقف على آخر السورة ، وعلى التكبير ، وعلى البسملة ثم الإتيان بأول السورة التالية .

وثانيها : الوقف على آخر السورة وعلى التكبير ووصل البسملة بأول التالية .

وثالثها : وصل الجميع أعني وصل آخر السورة بالتكبير مع وصل التكبير بالبسملة ومع وصل البسملة بأول السورة التالية .

وإنما سميت هذه الأوجه الثلاثة محتملة لاحتمالها حصول التكبير لأول السورة وآخرها .

وأما الوجه الثامن الممنوع فهو وصل التكبير بآخر السورة موصولا بالبسملة مع الوقف عليها وإنما منع هذا الوجه لأن البسملة ليست لأواخر السور بل لأوائلها فلا يجوز اتصالها بالأواخر وانفصالها عن الأوائل .

وهذه الأوجه السبعة المذكورة جائزة بين كل سورتين من سور الختم أي بين والضحى و ألم نشرح ، وبين ألم نشرح والتين وهكذا إلى الفلق والناس ، وأما بين الليل والضحى فيجوز خمسة أوجه فقط ويمتنع الوجهان اللذان لآخر السورة إذ لا قائل بأن ابتداء التكبير من آخر الليل كما سبق .

وأما بين الناس والحمد فيجوز خمسة أوجه فقط ويمتنع الوجهان اللذان لأول السورة إذ لا قائل بأن انتهاء التكبير أول الفاتحة . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية