الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3851 ) مسألة ; قال : ( ومن أقر بشيء ، واستثنى منه الكثير ، وهو أكثر من النصف ، أخذ بالكل ، وكان استثناؤه باطلا ) . لا يختلف المذهب أنه لا يجوز استثناء ما زاد على النصف . ويحكى ذلك عن ابن درستويه النحوي .

                                                                                                                                            وقال [ ص: 103 ] أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأصحابهم : يصح ما لم يستثن الكل ، فلو قال : له علي مائة إلا تسعة وتسعين . لم يلزمه إلا واحد ، بدليل قوله تعالى : { فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } .

                                                                                                                                            وقوله تعالى { : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } . فاستثنى في موضع الغاوين من العباد ، وفي موضع العباد من الغاوين ، وأيهما كان الأكثر فقد دل على استثناء الأكثر . وأنشدوا :

                                                                                                                                            أدوا التي نقصت تسعين من مائة ثم ابعثوا حكما بالحق قواما

                                                                                                                                            فاستثني تسعين من مائة ; لأنه في معنى الاستثناء . ومشبه به ، ولأنه استثنى البعض ، فجاز ، كاستثناء الأقل ، ولأنه رفع بعض ما تناوله اللفظ ، فجاز في الأكثر ، كالتخصيص والبدل .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه لم يرد في لسان العرب الاستثناء إلا في الأقل ، وقد أنكروا استثناء الأكثر ، فقال أبو إسحاق الزجاج : لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير ، ولو قال قائل : مائة إلا تسعة وتسعين . لم يكن متكلما بالعربية ، وكان عيا من الكلام ولكنة .

                                                                                                                                            وقال القتيبي : يقال : صمت الشهر إلا يوما . ولا يقال : صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يوما . ويقال : لقيت القوم جميعهم إلا واحدا أو اثنين . ولا يجوز أن يقول : لقيت القوم إلا أكثرهم . وإذا لم يكن صحيحا في الكلام ، لم يرتفع به ما أقر به ، كاستثناء الكل . وكما لو قال : له علي عشرة ، بل خمسة . فأما ما احتجوا به من التنزيل ، فإنه في الآية الأولى استثنى المخلصين من بني آدم ، وهم الأقل ، كما قال تعالى { : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } .

                                                                                                                                            وفي الأخرى استثنى الغاوين من العباد وهم الأقل ، فإن الملائكة من العباد ، وهم غير غاوين ، قال الله تعالى { : بل عباد مكرمون } . وقيل : الاستثناء في هذه الآية منقطع بمعنى الاستدراك ، فيكون قوله { : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } مبقى على عمومه ، لم يستثن منه شيء ، ثم استأنف { : إلا من اتبعك من الغاوين } . أي لكن من اتبعك من الغاوين فإنهم غووا باتباعك .

                                                                                                                                            وقد دل على صحة هذا قوله في الآية الأخرى لأتباعه { : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } . وعلى هذا لا يكون لهم فيها حجة . وأما البيت فقال ابن فضال النحوي : هو بيت مصنوع ، لم يثبت عن العرب . على أن هذا ليس باستثناء ، فإن الاستثناء له كلمات مخصوصة ليس هاهنا شيء منها ، والقياس لا يجوز في اللغة : ثم نعارضه بأنه استثنى أكثر من النصف ، فلم يجز ، كاستثناء الكل .

                                                                                                                                            والفرق بين استثناء الأكثر والأقل ، أن العرب استعملته في الأقل وحسنته ، ونفته في الأكثر وقبحته ، فلم يجز قياس ما قبحوه على ما جوزوه وحسنوه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية