الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3970 ) مسألة قال : ( وإن كان الغاصب باعها ، فوطئها المشتري ، وأولدها ، وهو لا يعلم ، ردت الجارية إلى سيدها ، ومهر مثلها ، وفدى أولاده بمثلهم ، وهم أحرار ، ورجع بذلك كله على الغاصب ) وجملة ذلك ، أن الغاصب إذا باع الجارية ، فبيعه فاسد ; لأنه يبيع مال غيره بغير إذنه . وفيه رواية أخرى ، أنه يصح ، ويقف على إجازة المالك .

                                                                                                                                            وقد ذكرنا ذلك في البيع . وفيه رواية ثالثة ، أن البيع يصح ، وينفذ ، لأن الغصب في الظاهر تتطاول مدته ، فلو لم يصح تصرف الغاصب ، أفضى إلى الضرر بالمالك والمشتري ; لأن المالك لا يملك ثمنها ، والمشتري لا يملكها . والتفريع على الرواية الأولى ، والحكم في وطء المشتري كالحكم في وطء الغاصب ، إلا أن المشتري إذا ادعى الجهالة ، قبل منه ، بخلاف الغاصب ، فإنه لا يقبل منه إلا بشرط ذكرناه . ويجب رد الجارية إلى سيدها ، وللمالك مطالبة أيهما شاء بردها ; لأن الغاصب أخذها بغير حق ، وقد قال النبي : صلى الله عليه وسلم { على اليد ما أخذت حتى ترده } .

                                                                                                                                            والمشتري أخذ مال غيره بغير حق أيضا ، فيدخل في عموم الخبر ، ولأن مال غيره في يده . وهذا لا خلاف فيه بحمد الله تعالى . ويلزم المشتري المهر ; لأنه وطئ جارية غيره بغير نكاح ، وعليه أرش البكارة ، ونقص الولادة . وإن ولدت منه ، فالولد حر ; لاعتقاده أنه يطأ مملوكته ، فمنع ذلك انخلاق الولد رقيقا ، ويلحقه نسبه ، وعليه فداؤهم ; لأنه فوت رقهم على سيدهم باعتقاده حل الوطء .

                                                                                                                                            وهذا الصحيح في المذهب ، وعليه الأصحاب . وقد نقل ابن منصور ، عن أحمد أن المشتري لا يلزمه فداء أولاده ، وليس [ ص: 157 ] للسيد بدلهم ; لأنهم كانوا في حال العلوق أحرارا ، ولم يكن لهم قيمة حينئذ . قال الخلال أحسبه قولا لأبي عبد الله أول ، والذي أذهب إليه أنه يفديهم . وقد نقله ابن منصور أيضا ، وجعفر بن محمد ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ويفديهم ببدلهم يوم الوضع . وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجب يوم المطالبة ; لأن ولد المغصوبة لا يضمنه عنده إلا بالمنع ، وقبل المطالبة لم يحصل منع فلم يجب ، وقد ذكرنا فيما مضى ، أنه يحدث مضمونا ، فيقوم يوم وضعه ; لأنه أول حال أمكن تقويمه . واختلف أصحابنا فيما يفديهم به ، فنقل الخرقي هاهنا أنه يفديهم بمثلهم . والظاهر أنه أراد بمثلهم في السن ، والصفات ، والجنس ، والذكورية والأنوثية ، وقد نص عليه أحمد وقال أبو بكر عبد العزيز : يفديهم بمثلهم في القيمة . وعن أحمد رواية ثالثة ، أنه يفديهم بقيمتهم . وهو قول أبي حنيفة والشافعي وهو أصح إن شاء الله تعالى ; لأن الحيوان ليس بمثلي ، فيضمن بقيمته كسائر المتقومات ، ولأنه لو أتلفه ضمنه بقيمته . وقد ذكرنا وجه هذه الأقوال في غير هذا الموضع . وقول الخرقي : " رجع بذلك كله على الغاصب " . يعني بالمهر ، وما فدى به الأولاد ; لأن المشتري دخل على أن يسلم له الأولاد ، وأن يتمكن من الوطء بغير عوض ، فإذا لم يسلم له ذلك ، فقد غره البائع ، فرجع به عليه .

                                                                                                                                            فأما الجارية إذا ردها لم يرجع ببدلها ; لأنها ملك المغصوب منه رجعت إليه ، لكنه يرجع على الغاصب بالثمن الذي أخذه منه . وإن كانت قد أقامت عنده مدة لمثلها أجر في تلك المدة ، فعليه أجرها . وإن اغتصبها بكرا ، فعليه أرش بكارتها . وإن نقصتها الولادة أو غيرها ، فعليه أرش نقصها . وإن تلفت في يده ، فعليه قيمتها . وكل ضمان يجب على المشتري ، فللمغصوب منه أن يرجع به على من شاء منهما ; لأن يد الغاصب سبب يد المشتري .

                                                                                                                                            وما وجب على الغاصب ، من أجر المدة التي كانت في يده ، أو نقص حدث عنده ، فإنه يرجع به على الغاصب وحده ; لأن ذلك كان قبل يد المشتري . فإذا طالب المالك المشتري بما وجب في يده ، وأخذه منه ، فأراد المشتري الرجوع به على الغاصب ، نظرت ; فإن كان المشتري حين الشراء علم أنها مغصوبة ، لم يرجع بشيء ; لأن موجب الضمان وجد في يده من غير تغرير ، وإن لم يعلم ، فذلك على ثلاثة أضرب ; ضرب لا يرجع به ، وهو قيمتها إن تلفت في يده ، وأرش بكارتها ، وبدل جزء من أجزائها ; لأنه دخل مع البائع على أنه يكون ضامنا لذلك بالثمن ، فإذا ضمنه لم يرجع به .

                                                                                                                                            وضرب يرجع به ، وهو بدل الولد إذا ولدت منه ; لأنه دخل معه في العقد على أن لا يكون الولد مضمونا عليه ، ولم يحصل من جهته إتلاف ، وإنما الشرع أتلفه بحكم بيع الغاصب منه ، وكذلك نقص الولادة . وضرب اختلف فيه ، وهو مهر مثلها وأجر نفعها ، فهل يرجع به على الغاصب ؟ فيه روايتان ; إحداهما ، يرجع به .

                                                                                                                                            وهو قول الخرقي لأنه دخل في العقد على أن يتلفه بغير عوض ، فإذا غرم عوضه رجع به ، كبدل الولد ، ونقص الولادة . وهذا أحد قولي الشافعي . والثانية ، لا يرجع به ، وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه غرم ما استوفى بدله ، فلا يرجع به ، كقيمة الجارية ، وبدل أجزائها . وهذا القول الثاني للشافعي وإن رجع بذلك كله على الغاصب فكل ما لو رجع به على المشتري لا يرجع به على الغاصب ، إذا رجع به على الغاصب رجع به الغاصب على المشتري .

                                                                                                                                            وكل ما لو رجع به على المشتري رجع به المشتري على الغاصب إذا غرمه الغاصب ، لم يرجع به على المشتري . ومتى ردها [ ص: 158 ] حاملا فماتت من الوضع ، فإنها مضمونة على الواطئ ; لأن التلف بسبب من جهته .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية