الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( باب ما جاء في تواضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )

التواضع هو التذلل ، ويقال وضع الرجل يوضع صار وضيعا ووضع منه فلان أي : حط من درجته وضعضعه الدهر فتضعضع أي : خضع وذل كذا في الصحاح ، وقال الحافظ العسقلاني : التواضع بضم الضاد المعجمة مشتق من الضعة بكسر أوله ، وهي الهوان ، والمراد من التواضع إظهار النزل عن المرتبة يراد تعظيمه ، وقيل هو تعظيم من فوقه لفضله انتهى .

وقال بعض العارفين : اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع وهو التذلل والتخشع إلا إذا دام تجلي نور الشهود في قلبه ; لأنه حينئذ يذيب النفس ، ويصفها عن غش الكبر والعجب فتلين ، وتطمئن للحق والخلق بمحو آثارها وسكون وهجها ، ونسيان حقها ، والذهول عن النظر إلى قدرها ، ولما كان الحظ الأوفر من ذلك لنبينا - صلى الله عليه وسلم - كان أشد الناس تواضعا ، وحسبك شاهدا على ذلك أن الله خيره أن يكون نبيا ملكا أو يكون عبدا نبيا فاختار أن يكون عبدا نبيا ، ومن مثله لم يأكل متكئا بعد حتى فارق الدنيا ، وقال : أجلس كما يجلس العبد ، وآكل كما يأكل العبد ، ولم يقل لشيء فعله خادمه أنس أف قط ، وما ضرب أحدا من عبيده وإمائه وهذا أمر لا يتسع له الطور البشري لولا التأييد الإلهي ، وعن عائشة أنها سئلت كيف كان إذا خلا في بيته قالت : ألين الناس بساما ضحاكا لم ير قط مادا رجليه بين أصحابه ، وعنها ما كان أحد أحسن خلقا منه ما دعاه أحد من أصحابه إلا قال : لبيك ، وكان يركب الحمار ، ويردف خلفه ، وروى أبو داود ، وغيره أن قيس بن سعد صحبه راكبا حمار أبيه فقال : له اركب فأبى فقال له إما أن تركب ، وإما أن تنصرف ، وفي رواية قال : اركب أمامي فصاحب الدابة أولى بمقدمها ، وفي مختصر السيرة للمحب الطبري أنه - صلى الله عليه وسلم - ركب حمارا عريا إلى قباء ، ومعه أبو هريرة فقال : أحملك فقال : ما شئت يا رسول الله فقال : اركب فوثب ليركب فلم يقدر فاستمسك به - صلى الله عليه وسلم - فوقعا جميعا ثم ركب ، وقال : له مثل ذلك ففعل فوقعا جميعا ثم ركب ، وقال له مثل ذلك فقال لا والذي [ ص: 161 ] بعثك بالحق نبيا ما رميتك ثالثا ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فأمر أصحابه بإصلاح شاة فقال له رجل علي ذبحها ، وقال آخر : علي سلخها ، وقال آخر : علي طبخها فقال - صلى الله عليه وسلم - علي جمع الحطب فقالوا : يا رسول الله نكفيك العمل ، فقال : قد علمت أنكم تكفوني ، ولكن أكره أن أتميز عليكم ، وإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه انتهى .

وروى ابن عساكر القصة الأخيرة مختصرة ، وروى أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في الطواف فانقطع شسع نعله فقال بعض أصحابه : ناولني أصلحه فقال : هذه أثرة ، ولا أحب الأثرة .

وهي بفتحهما الاستئثار ، والانفراد بالشيء ، وفي الشفاء أنه - صلى الله عليه وسلم - لما خدم وفد النجاشي فقال له أصحابه نكفيك فقال : إنهم كانوا لأصحابنا مكافئين ، وأنا أحب أن أكرمهم ( حدثنا أحمد بن منيع ، وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي وغير واحد ) أي : كثير من مشايخي ( قالوا : أنبأنا ) وفي نسخة أخبرنا ( سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله عن عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ووقع في رواية البخاري عن ابن عباس أنه سمع عمر يقول على المنبر سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لا تطروني ) من الإطراء بمعنى مجاوزة الحد في المدح بالكذب ( كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ) وذلك أنهم أفرطوا في مدحه ، وجاوزوا في حده إلى أن جعلوه ولدا لله تعالى فمنعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصفوه بالباطل ، وفي العدول عن المسيح إلى ابن مريم تبعيد عن الألوهية ، والمعنى أنهم بالغوا في المدح بالكذب حتى جعلوا من حصل من جنس النساء الطوامث إلها ، وابن إله قال ابن الجوزي : ولا يلزم من النهي عن الشيء وقوعه ; لأنا لا نعلم أحدا ادعى في نبينا ما ادعته النصارى في عيسى ، وإنما سبب النهي فيما يظهر ما وقع في حديث معاذ بن جبل لما استأذن في السجود له على قصد التعظيم ، وإرادة التكريم ، فامتنع ونهاه ، وكأنه خشي أن يبالغ غيره بأخوف من ذلك فبادر إلى النهي تأكيدا للأمر فالمعنى لا تتجاوزوا الحد في مدحي بغير الواقع فيجركم ذلك إلى الكفر كما جر النصارى إليه لما تعدوا عن الحد في مدح عيسى عليه السلام بغير الواقع ، واتخذوه إلها كما حرفوا قوله تعالى في الإنجيل عيسى نبي ، وأنا ولدته فجعلوا الأول بتقديم الباء الموحدة ، وخففوا اللام في الثاني فلعنة الله عليهم ثم استأنف ، وقال : ( إنما أنا عبد الله ) وفي نسخة عبد الله ، وفي أخرى عبد كما أمره الله تعالى به في ضمن قوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي فإردافه النهي بهذا القول لإرادة أنه ليس لي صفة غير العبودية ، والرسالة ، وهذا غاية الكمال في مرتبة المخلوق ، فلا تقولوا في حقي شيئا ينافي هاتين الصفتين ، ولا تعتقدوا في شأني وصفا غيرهما ( فقولوا عبد الله ورسوله ) وفيه إيماء إلى قوله تعالى [ ص: 162 ] ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته وفيه إشعار بأن ما عدا نعت الألوهية ، ووصف الربوبية يجوز أن يطلق عليه عليه السلام ، وإلى هذه الزبدة أشار صاحب البردة بقوله : (

دع ما ادعته النصارى في نبيهم .

واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم

)

هذا وقوله إنما أنا عبد الله لقصر القلب أي : لست شيئا مما قالت النصارى أو القصر فيه إضافي ، فلا ينافي أن له أوصافا من الكمال غير العبودية ، والرسالة منها أنه سيد ولد آدم والله أعلم .

وما أحسن قول ابن الفارض (

أرى كل مدح في النبي مقصرا .

    وإن بالغ المثني عليه وأكثرا

) (

إذا الله أثنى بالذي هو أهله .

    عليه فما مقدار ما يمدح الورى

) ولقد أحسن من قال : من أرباب الحال : (

ما إن مدحت محمدا بمديحتي .

    بل إن مدحت مديحتي بمحمد

) أقول ويكفي في مدحه - صلى الله عليه وسلم - إجمالا أنه محمد يحمده الأولون والآخرون وأنه أحمد من حمد ، وأحمد من حمد وله المقام المحمود واللواء الممدود والحوض المورود ، والشفاعة العظمى في يوم مشهود .


آدم ومن دونه تحت لوائه     فلا يستغني أحد عن حمده وثنائه

، ثم هذا الحديث من باب تواضعه حيث اقتصر أمره على مجرد الرسالة والعبودية نظرا إلى كمال نعوت ربه من الألوهية والربوبية فهو ليس من قبيل التنزل عمن هو دونه بل من باب تعظيم من فوقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية