الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        111 - الحديث الأول : عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه قال : قال " رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين } .

                                        التالي السابق


                                        الكلام عليه من وجوه :

                                        أحدها : في حكم الركعتين عند دخول المسجد . وجمهور العلماء على عدم الوجوب لهما . ثم اختلفوا . فظاهر مذهب مالك : أنهما [ ص: 290 ] من النوافل . وقيل : إنهما من السنن . وهذا على اصطلاح المالكية في الفرق بين النوافل والسنن والفضائل . ونقل عن بعض الناس : أنهما واجبتان تمسكا بالنهي عن الجلوس قبل الركوع . وعلى الرواية الأخرى - التي وردت بصيغة الأمر - يكون التمسك بصيغة الأمر . ولا شك أن ظاهر الأمر : الوجوب . وظاهر النهي : التحريم ومن أزالهما عن الظاهر فهو محتاج إلى الدليل . ولعلهم يفعلون في هذا ما فعلوا في مسألة الوتر ، حيث استدلوا على عدم الوجوب فيه بقوله صلى الله عليه وسلم { خمس صلوات كتبهن الله على العباد } وقول السائل { هل علي غيرهن ؟ قال : لا إلا أن تطوع } فحملوا لذلك صيغة الأمر على الندب ، لدلالة هذا الحديث على عدم وجوب غير الخمس ، إلا أن هذا يشكل عليهم بإيجابهم الصلاة على الميت ، تمسكا بصيغة الأمر .



                                        الوجه الثاني : إذا دخل المسجد في الأوقات المكروهة ، فهل يركع أم لا ؟ اختلفوا فيه . فمذهب مالك : أنه لا يركع . والمعروف من مذهب الشافعي وأصحابه أنه يركع . لأنها صلاة لها سبب . ولا يكره في هذه الأوقات من النوافل إلا ما لا سبب له . وحكي وجه آخر : أنه يكره . وطريقة أخرى : أن محل الخلاف إذا قصد الدخول في هذه الأوقات لأجل أن يصلي فيها . أما غير هذا الوجه : فلا . وأما ما حكاه القاضي عياض عن الشافعي في جواز صلاتها بعد العصر ، ما لم تصفر الشمس ، وبعد الصبح ما لم يسفر ، إذا هي عنده من النوافل التي لها سبب . وإنما يمنع في هذه الأوقات ما لا سبب له ، ويقصد ابتداء ، لقوله صلى الله عليه وسلم { لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها } انتهى كلامه . هذا لا نعرفه من نقل أصحاب الشافعي على هذه الصورة . وأقرب الأشياء إليه : ما حكيناه من هذه الطريقة ، إلا أنه ليس هو إياه بعينه . وهذا الخلاف في هذه المسألة ينبني على مسألة أصولية مشكلة ، وهو ما إذا تعارض نصان ، كل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر عام من وجه ، خاص من وجه . [ ص: 291 ] ولست أعني بالنصين ههنا ما لا يحتمل التأويل . وتحقيق ذلك أولا يتوقف على تصوير المسألة . فنقول : مدلول أحد النصين : إن لم يتناول مدلول الآخر ولا شيئا منه ، فهما متباينان ، كلفظة " المشركين " و " المؤمنين " مثلا ، وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر . فهما متساويان ، كلفظة " الإنسان " و " البشر " مثلا ، وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر ، ويتناول غيره . فالمتناول له ولغيره : عام من كل وجه بالنسبة إلى الآخر ، والآخر خاص من كل وجه . وإن كان مدلولهما يجتمع في صورة ، وينفرد كل واحد منهما بصورة أو صور . فكل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه . فإذا تقرر هذا ، فقوله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أحدكم المسجد " إلخ مع قوله { لا صلاة بعد الصبح } من هذا القبيل . فإنهما يجتمعان في صورة . وهو ما إذا دخل المسجد بعد الصبح ، أو العصر وينفردان أيضا ، بأن توجد الصلاة في هذا الوقت من غير دخول المسجد ، ودخول المسجد في غير ذلك الوقت . فإذا وقع مثل هذا فالإشكال قائم ، لأن أحد الخصمين لو قال : لا تكره الصلاة عند دخول المسجد في هذه الأوقات . لأن هذا الحديث دل على جوازها عند دخول المسجد - وهو خاص بالنسبة إلى الحديث الأول المانع من الصلاة بعد الصبح - فأخص قوله { لا صلاة بعد الصبح } بقوله " إذا دخل أحدكم المسجد " فلخصمه أن يقول قوله " إذا دخل أحدكم المسجد " عام بالنسبة إلى الأوقات . فالحاصل : أن قوله عليه السلام " إذا دخل أحدكم " خاص بالنسبة إلى هذه الصلاة - أعني الصلاة عند دخول المسجد - عام بالنسبة إلى هذه الأوقات . وقوله { لا صلاة بعد الصبح } خاص بالنسبة إلى هذا الوقت ، عام بالنسبة إلى الصلوات . فوقع الإشكال من ههنا . وذهب بعض المحققين في هذا إلى الوقف ، حتى يأتي ترجيح خارج بقرينة أو غيرها . فمن ادعى أحد هذين الحكمين أعني الجواز أو المنع - فعليه إبداء أمر زائد على مجرد الحديث . .



                                        الوجه الثالث : إذا دخل المسجد ، بعد أن صلى ركعتي الفجر في بيته ، فهل يركعهما في المسجد ؟ اختلف قول مالك فيه ، وظاهر الحديث . يقتضي الركوع . وقيل : إن الخلاف في هذا من جهة معارضة هذا الحديث للحديث الذي رووه من [ ص: 292 ] قوله عليه السلام { لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر } وهذا أضعف من المسألة السابقة . لأنه يحتاج في هذا إلى إثبات صحة هذا الحديث حتى يقع التعارض فإن الحديثين الأولين في المسألة الأولى صحيحان ، وبعد التجاوز عن هذه المطالبة وتقدير تسليم صحته : يعود الأمر إلى ما ذكرناه من تعارض أمرين ، يصير كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه . وقد ذكرناه .



                                        الوجه الرابع : إذا دخل مجتازا ، فهل يؤمر بالركوع ؟ خفف ذلك مالك وعندي : أن دلالة هذا الحديث لا تتناول هذه المسألة . فإنا إن نظرنا إلى صيغة النهي ، فالنهي يتناول جلوسا قبل الركوع . فإذا لم يحصل الجلوس أصلا لم يفعل المنهي . وإن نظرنا إلى صيغة الأمر ، فالأمر توجه بركوع قبل الجلوس . فإذا انتفيا معا : لم يخالف الأمر .



                                        الوجه الخامس : لفظة " المسجد " تتناول كل مسجد ، وقد أخرجوا عنه المسجد الحرام . وجعلوا تحيته الطواف . فإن كان في ذلك خلاف ، فلمخالفهم أن يستدل بهذا الحديث ، وإن لم يكن : فالسبب في ذلك النظر إلى المعنى . وهو أن المقصود : افتتاح الدخول في محل العبادة بعبادة ، وعبادة الطواف . تحصل هذا المقصود ، من أن غير هذا المسجد لا يشاركه فيها . فاجتمع في ذلك تحصيل المقصود من الاختصاص . وأيضا فقد يؤخذ ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجته ، حين دخل المسجد ، فابتدأ بالطواف على ما يقتضيه ظاهر الحديث . واستمر عليه العمل . وذلك أخص من هذا العموم . وأيضا فإذا اتفق أن طاف ومشى على السنة في تعقيب الطواف بركعتيه ، وجرينا على ظاهر اللفظ في الحديث ، فقد وفينا بمقتضاه .



                                        الوجه السادس : إذا صلى العيد في المسجد . فهل يصلي التحية عند الدخول فيه ؟ اختلف فيه . والظاهر في لفظ هذا الحديث : أنه يصلي . لكن جاء في الحديث . { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها } أعني صلاة العيد . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل العيد في المسجد . ولا نقل ذلك . فلا معارضة بين الحديثين ، إلا أن يقول قائل ، ويفهم فاهم : أن ترك الصلاة قبل العيد وبعدها من سنة صلاة العيد ، من حيث هي هي وليس لكونها واقعة في الصحراء أثر في ذلك الحكم . فحينئذ يقع [ ص: 293 ] التعارض ، غير أن ذلك يتوقف على أمر زائد ، وقرائن تشعر بذلك . فإن لم يوجد فالاتباع أولى استحبابا . أعني في ترك الركوع في الصحراء ، وفعله في المسجد للمسجد ، لا للعيد .



                                        الوجه السابع : من كثر تردده إلى المسجد ، وتكرر : هل يتكرر له الركوع مأمورا به ؟ قال بعضهم : لا . وقاسه على الحطابين والفكاهين المترددين إلى مكة في سقوط الإحرام عنهم إذا تكرر ترددهم . والحديث يقتضي تكرر الركوع بتكرر الدخول . وقول هذا القائل يتعلق بمسألة أصولية . وهو تخصيص العموم بالقياس ، وللأصوليين في ذلك أقوال متعددة .




                                        الخدمات العلمية