الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 365 ] ثم هنا مسائل : الأولى : الأمر المجرد عن قرينة يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء ، وبعض المتكلمين ; وعند بعض المعتزلة الندب حملا له على مطلق الرجحان ، ونفيا للعقاب بالاستصحاب ، وقيل : الإباحة لتيقنها .

                وقيل : الوقف لاحتماله كل ما استعمل فيه ولا مرجح .

                لنا : فليحذر الذين يخالفون عن أمره [ النور : 63 ] ، وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون [ المرسلات : 48 ] ، ذمهم وذم إبليس على مخالفة الأمر المجرد ، ودعوى قرينة الوجوب ، واقتضاء تلك اللغة له دون هذه غير مسموعة ; وإن السيد لا يلام على عقاب عبده على مخالفة مجرد أمره باتفاق العقلاء .

                التالي السابق


                " ثم هنا " ، أي : فيما يتعلق بالأمر " مسائل " :

                الأولى : الأمر المجرد عن قرينة يقتضي الوجوب " ، إلى آخره .

                اعلم أن الأمر إما أن يكون مقترنا أو مجردا ، فإن كان مقترنا بقرينة ، تدل على أن المراد به الوجوب ، أو الندب ، أو الإباحة ، حمل على ما دلت عليه القرينة ، وإن كان مجردا عن قرينة ; فهو يقتضي الوجوب عند أئمة الفقهاء الأربعة ، وبعض المتكلمين ، كأبي الحسين البصري والجبائي ، وعند بعض المعتزلة يقتضي الندب ، وهو قول أبي هاشم ، وجماعة من المتكلمين " حملا له " ، أي : للأمر " على مطلق الرجحان ، ونفيا للعقاب بالاستصحاب " ، هذا توجيه قول هؤلاء .

                [ ص: 366 ] وتقريره : أن الأمر ورد تارة للوجوب كما في المكتوبة ، وتارة للندب كما في صلاة الضحى ، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل ; فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب ، وهو مطلق رجحان الفعل .

                وأما العقاب على الترك ; فينتفي بالاستصحاب ، أي : استصحاب حال عدمه ، وهو كون الأصل براءة الذمة منه .

                هكذا وقع في " المختصر " ، والأولى أن من جعل الأمر للندب ، يجعل نفي العقاب على الترك ، مستفادا من لفظ الندب ; لأن حقيقته مركبة من رجحان الفعل ، وجواز الترك . وإذا جعل القدر المشترك بين الوجوب والندب ، كان نفي العقاب مستفادا من استصحاب الحال ، كما ذكرنا . وهذان مذهبان ، وتوجيههما ما ذكر ، إلا من جهة هذا الفرق .

                قوله : " وقيل : الإباحة " ، أي : وقيل : مقتضى الأمر المجرد الإباحة " لتيقنها " ، أي : أن الأمر قد استعمل في الوجوب ، والندب ، والإباحة ، وهي المتيقنة ; فليكن الأمر حقيقة فيها ، ويقف حمله على خصوصية الندب ، أو الوجوب على الدليل ; لأنهما مشكوك فيهما ; فلا يحمل عليهما بالشك ، ولأن جواز الإقدام هو القدر المشترك بين الثلاثة ; فليكن الأمر حقيقة فيه ، وهو الإباحة ، دفعا للمجاز والاشتراك .

                - قوله : " وقيل : الوقف " ، أي : وقيل : الأمر يقتضي الوقف ، أو حكمه الوقف ، " لاحتماله كل ما استعمل فيه من إباحة ، وندب ، ووجوب ، ولا مرجح " لبعضها على بعض ; فيجب الوقف على المرجح ، وهو مذهب الأشعري ، [ ص: 367 ] واختيار الآمدي هاهنا ، وفي كثير من المسائل ، وعمدته في ذلك بيان شبه المخالفين ، واتجاه القدح فيها ; فيجب التوقف على حجة القادح فيها .

                قلت : وهذه طريقة جيدة في المطالبة القطعية ، أما الظنية ; فيكفي فيها ظهور أحد الطرفين ، وإن توجه إليه قادح ما .

                هذه أربعة مذاهب في مقتضى الأمر : الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والوقف . وقد ذكر توجيه الثلاثة الأخيرة ، والكلام الآن في توجيه الأول وهو الوجوب .

                قوله : " لنا : فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلى آخره .

                أي : لنا على اقتضاء الأمر الوجوب وجوه :

                أحدها : قوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ النور : 63 ] ; فتوعد على مخالفة أمر الرسول بالعذاب ، والوعيد لا يكون إلا على ترك الواجب ; فدل على أن امتثال أمره واجب ، ولا يعني بأن الأمر يقتضي الوجوب إلا هذا .

                الوجه الثاني : قوله عز وجل عن الكفار : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين [ المرسلات : 48 ، 49 ] ، ولما أمر إبليس بالسجود ; فأبى ، قال له : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك إلى قوله : [ ص: 368 ] اخرج منها مذءوما مدحورا [ الأعراف : 12 - 18 ] ; فذم الكفار على ترك السجود عبادة ، وذم إبليس على ترك السجود لآدم تحية ، وذلك ذم على مخالفة الأمر المجرد ; فدل على أنه يقتضي الوجوب ، إذ قد سبق أن الواجب ما ذم تاركه شرعا .

                قوله : " ودعوى قرينة الوجوب ، واقتضاء تلك اللغة له ، دون هذه ، غير مسموعة " . هذا جواب عن سؤال ، يورده الخصم على الاستدلال ، بهذه الآيات ونحوها ، وتقريره من وجهين :

                أحدهما : أن الذم في الآيات المذكورة ليس على مخالفة الأمر المجرد ، بل اقترن بالأمر فيها قرينة أفادت الوجوب ، ولولا تلك القرينة ، لم يقتض الوجوب ، ولا الوعيد والذم على الترك .

                فتقدير الآية الأولى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره ، المفيد للوجوب ، بقرينة أو غيرها .

                وتقدير الثانية : وإذا قيل لهم اركعوا ، واستفادوا الوجوب بقرينة ، أو تصريح به .

                وذلك أمر إبليس بالسجود ، اقترن به قرينة أفادت الوجوب ; فكان ذمه على ترك الواجب ، لا على مطلق مخالفة الأمر .

                الوجه الثاني : مختص بقصة إبليس ، وهو أن الأمر في اللغة التي خاطب الله عز وجل بها الملائكة بالسجود كان يقتضي الوجوب ; فلذلك ذم [ ص: 369 ] على مخالفة الأمر ، بخلاف لغتنا هذه ، فإن الأمر لا يقتضي الوجوب .

                والجواب : أن هذه دعوى غير مسموعة ; لأنها مجردة عن حجة :

                أما الأول : وهو اقتران الأمر بما يفيد الوجوب ; فلأن الظاهر خلافه ، إذ الأصل عدم القرينة ، ومجرد احتمالها لا يكفي ، ولا يترك له ظاهر الخطاب .

                وأما اقتضاء الأمر في تلك اللغة الوجوب ، دون هذه ; فخلاف الظاهر أيضا ; لأن الله سبحانه وتعالى ، حكى لنا الحكاية بلغة ، والأصل مطابقة الحكاية للمحكي ، وموافقته ، وهو يقتضي أنه عز وجل أمر الملائكة بالسجود ، باللغة العربية التي ورد بها القرآن ، وأكثر ما يقال : إنه أمرهم بغير العربية ، ثم حكى القصة بالعربية ، لكن الله عز وجل صادق في إخباره ، والصدق يقتضي مطابقة المخبر به للمخبر عنه ، وأقل ذلك أن تكون مطابقة معنوية ، وهو إيراد المعنى من غير زيادة ولا نقص ، والله عز وجل ليس يعزب عليه ذلك ; فوجب حمل الأمر على ذلك ، وبالجملة : فهذه الدعوى إذا قوبلت بظاهر الحال ، كانت هباء منثورا .

                الوجه الثالث : أن العبد إذا خالف مجرد أمر سيده ; فعاقبه ، لم يلم على عقابه ، باتفاق العقلاء ، ولولا إفادة الأمر المجرد الوجوب ، لاتجه لوم السيد في هذه الصورة ، لكنه لا يتجه ; فدل على إفادة أن الأمر لمجرد الوجوب ، وهو المطلوب .

                وإذ قد تبين بالاستعمال ، ومبادرة الذهن ، أن الأمر المجرد يقتضي الوجوب ، ثبت أنه حقيقة فيه ; فيضعف قول من جعله للندب ، أو الإباحة ; حملا له على القدر المشترك ، دفعا للاشتراك والمجاز ، وقول من توقف لظهور أحد الطرفين .




                الخدمات العلمية