الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      سورة "فاطر".. وتسمى سورة "الملائكة"

                                                                                                                                                                                                                                      هي ختام السور المفتتحة باسم الحمد؛ التي تقدم عن الشيخ سعد الدين التفتازاني أنه فصلت فيها النعم الأربع؛ التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة؛ وهي الإيجاد الأول؛ ثم الإبقاء الأول; ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة "سبإ"؛ ثم الإبقاء الثاني؛ الذي هو أنهاها؛ وأحكمها؛ المفصل أمره فيها في فريقي السعادة والشقاوة؛ تفصيلا شافيا؛ على أنه استوفى في هذه السورة النعم الأربع؛ كما يأتي بيانه في محاله؛ فمقصودها إثبات القدرة الكاملة لله (تعالى) ؛ اللازم منها تمام القدرة على البعث؛ الذي عنه يكون أتم الإبقاءين؛ الإبقاء بالفعل دائما أبدا؛ بلا انقطاع؛ ولا زوال؛ ولا اندفاع؛ في دار المقامة؛ التي أذهب عنها الحزن؛ والنصب؛ واللغوب؛ ودار الشقاوة الجامعة لجميع الأنكاد والهموم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2 ] ولاسم السورة أتم مناسبة لمقصودها؛ لأنه لا شيء يعدل ما في الجنة من تجدد الخلق؛ فإنه لا يؤكل منها شيء إلا عاد كما كان في الحال؛ ولا يراد شيء إلا وجد في أسرع وقت؛ فهي دار الإبداع والاختراع بالحقيقة؛ وكذا النار: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ؛ وكذا تسميتها بـ "الملائكة"؛ فإنهم يبدعون خلقا جديدا؛ كل واحد منهم على صورته التي أراد الله كونه عليها؛ لا يزاد فيها؛ ولا ينقص؛ كلما أراد الله ذلك؛ من غير سبب أصلا؛ غير إرادته المطابقة لقدرته - سبحانه؛ وعز شأنه -؛ وهم من الكفرة؛ على وجه لا يحاط به: وما يعلم جنود ربك إلا هو

                                                                                                                                                                                                                                      " بسم الله " ؛ الذي أحاط دائرة قدرته بالممكنات؛ " الرحمن " ؛ الذي أتم بالبعث عموم الرحمة؛ " الرحيم " ؛ الذي شرف أهل الكرامة بدوام الإقامة في دار المقامة. ولما أثبت - سبحانه - في التي قبلها الحشر؛ الذي هو الإيجاد الثاني؛ ودل عليه بجزئيات من القدرة على أشياء في الكون؛ إلى أن ختم بأخذ الكفار أخذا اضطرهم إلى الإيمان بظهور الحمد لهم أتم الظهور؛ وبالحيلولة بينهم وبين جميع ما يشتهون؛ كما كانوا متعوا في الدنيا بأغلب ما يشتهون من كثرة الأموال؛ والأولاد؛ وما مع ذلك من الراحة من أكثر الأنكاد؛ وكان الحمد يكون بالمنع؛ والإعدام؛ كما يكون بالإعطاء؛ والإنعام؛ قال (تعالى) - ما هو نتيجة ذلك -: الحمد ؛ أي: الإحاطة بأوصاف [ ص: 3 ] الكمال؛ إعداما؛ وإيجادا؛ لله ؛ أي: وحده.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإيجاد من العدم أدل على ذلك؛ قال - دالا على استحقاقه للمحامد -: فاطر ؛ أي: مبتدئ؛ ومبتدع السماوات والأرض ؛ أي: المتقدم أن له ما فيهما؛ بأن شق العدم بإخراجهما منه ابتداء على غير مثال سبق؛ كما تشاهدون؛ ولما كانت الملائكة - إفرادا؛ وجمعا - مثل الخافقين؛ في أن كلا منهم مبدع من العدم؛ على غير مثال سبق؛ من غير مادة؛ وكان قد تقدم أنهم يتبرؤون من عبادة الكفرة يوم القيامة؛ وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر؛ أخبر عنهم؛ بعدما أخبر عما طريقه المشاهدة؛ بما هو الحق من شأنهم؛ فقال - مبينا بتفاوتهم في الهيئات تمام قدرته؛ وأنها بالاختيار -: جاعل الملائكة رسلا ؛ أي: لما شاء من مراده؛ وإلى ما شاء من عباده؛ ظاهرين للأنبياء منهم؛ ومن لحق بهم؛ وغير ظاهرين؛ أولي أجنحة ؛ أي: تهيئهم لما يراد منهم; ثم وصف الأجنحة فقال: مثنى ؛ أي: جناحين جناحين؛ لكل واحد؛ لمن لا يحتاج فيما صرف فيه إلى أكثر من ذلك؛ ولعل ذكره للتنبيه على أن ذلك أقل ما يكون بمنزلة اليدين؛ ولما كان ذلك زوجا؛ نبه على أنه لا يتقيد بالزوج؛ فقال: وثلاث ؛ أي: ثلاثة ثلاثة؛ لآخرين منهم؛ ولما كان لو اقتصر على ذلك لظن الحصر فيه؛ نبه [ ص: 4 ] بذكر زوج الزوج على أن الزيادة لا تنحصر؛ فقال: ورباع ؛ أي: أربعة أربعة؛ لكل واحد؛ من صنف آخر منهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ثبت بهذا أنه فاعل بالاختيار؛ دون الطبيعة؛ وغيرها؛ وإلا لوجب كون الأشياء غير مختلفة؛ مع اتحاد النسبة إلى الفاعل؛ كانت نتيجة ذلك: يزيد في الخلق ؛ أي: المخلوقات؛ من أشياء مستقلة؛ ومن هيئات للملائكة؛ وخفة الروح؛ واللطافة؛ والثقالة؛ والكثافة؛ وحسن الصوت والصيت؛ والفصاحة؛ والسذاجة؛ والمكر؛ والسخارة؛ والبخل؛ وعلو الهمة؛ وسفولها؛ وغير ذلك مما يرجع إلى الكم؛ والكيف؛ مما لا يقدر على الإحاطة به غيره - سبحانه -؛ فبطل قول من قال: إنه فرغ من الخلق في اليوم السابع؛ عندما أتم خلق آدم؛ فلم يبق هناك زيادة؛ كاليهود؛ وغيرهم؛ على أن لهذا المذهب من الضعف والوهي ما لا يخفى؛ غير أنه - سبحانه - أوضح جميع السبل؛ ولم يدع بشيء منها لبسا: ما يشاء ؛ فلا بدع في أن يوجد دارا أخرى؛ تكون لدينونة العباد؛ ثم علل ذلك كله بقوله - مؤكدا؛ لأجل إنكارهم البعث -: إن الله ؛ أي: الجامع لجميع أوصاف الكمال؛ على كل شيء قدير ؛ فهو قادر على البعث؛ فاعل له؛ لا محالة. [ ص: 5 ] وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أوضحت سورة "سبإ"؛ أنه - سبحانه - مالك السماوات والأرض؛ ومستحق الحمد؛ في الدنيا؛ والآخرة؛ أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه؛ كما هو ملكه؛ وأنه الأهل للحمد؛ والمستحق؛ إذ الكل خلقه وملكه؛ ولأن السورة الأولى تجردت لتعريف العباد بأن الكل ملكه وخلقه؛ دارت آيها على تعريف عظيم ملكه؛ فقد أعطى داود وسليمان - عليهما السلام - ما هو كالنقطة من البحار الزاخرة؛ فلان الحديد؛ وانقادت الرياح؛ والوحوش؛ والطير؛ والجن؛ والإنس؛ مذللة خاضعة: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ؛ تعالى ربنا عن الظهير؛ والشريك؛ والند؛ وتقدس ملكه عن أن تحصره العقول؛ أو تحيط به الأفهام؛ فتجردت سورة "سبإ"؛ لتعريف العباد بعظيم ملكه - سبحانه -؛ وتجردت هذه الأخرى للتعريف بالاختراع؛ والخلق؛ ويشهد لهذا استمرار آي سورة "فاطر"؛ على هذا الغرض من التعريف؛ وتنبيهها على الابتداءات؛ كقوله (تعالى): جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى ؛ الآية؛ وقوله: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها هل من خالق غير الله يرزقكم ؛ وقوله: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ؛ الآية؛ وقوله: والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا [ ص: 6 ] الآية؛ والله خلقكم من تراب يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ألم تر أن الله أنـزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها هو الذي جعلكم خلائف في الأرض إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا ؛ فهذه عدة آيات معرفة بابتداء الخلق؛ والاختراع؛ أو مشيرة؛ ولم يقع من ذلك في سورة "سبإ"؛ آية واحدة؛ ثم إن سورة "سبإ"؛ جرت آيها على نهج تعريف الملك؛ والتصرف فيه؛ والاستبداد بذلك؛ والإبداد؛ وتأمل افتتاحها؛ وقصة داود؛ وسليمان - عليهما السلام -؛ وقوله - سبحانه - قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة ؛ الآيات؛ يتضح لك ما ذكرناه؛ وما انجر في السورتين؛ مما ظاهره الخروج من هذين الغرضين؛ فملتحم؛ ومستدعى؛ بحكم الانجرار؛ بحسب استدعاء مقاصد الآي؛ رزقنا الله الفهم عنه؛ بمنه؛ وكرمه؛ انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية