الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( تنبيه ) : إنما يلزم المطلوب اليمين إذا حقق الطالب الدعوى وإنها بعد البراءة ولو قال : لا أعلم كانت اليمين يمين تهمة وتجري على أيمان التهم قال في الرسم الثاني من كتاب المديان أيضا وسئل مالك عمن كان له على رجل دين فقضاه واكتتب منه براءة فيها ، وهو آخر حق كان له عليه ، فيأتيه بعد ذلك بذكر حق لا يعلم أكان قبل البراءة أو بعدها قال أرى براءته من ذلك أن يحلف لقد دخل هذا الذكر الحق في هذه البراءة ، ويبرأ من ذلك ، ولعله أن يأتي بذلك عليه بعد موته ، فلا يكون له ذلك قال ابن رشد : المعنى في هذه المسألة أن الطالب لما أتى بذكر الحق أشكل أكان قبل البراءة أو بعدها إما لكونهما مؤرخين بشهر واحد أو عاريين من التاريخ أو أحدهما ، ووقع قوله لا يعلم أكان قبل البراءة معرى من الضبط فإن كان أراد أن الطالب لا يعلم أكان ذكر الحق الذي قام به قبل أو بعد فإيجابه اليمين على المطلوب لقد دخل هذا الذكر الحق في هذه البراءة مختلف فيه ; لأنها يمين تهمة من غير تحقق دعوى ، فيجري على الخلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة وصرفها وإن كان أراد أن [ ص: 236 ] الطالب ادعى أن ذكر حقه الذي قام به بعد البراءة ، وحقق الدعوى بذلك ، ولم يعلم صحة قوله لالتباس التواريخ فلا اختلاف ولا إشكال في لحوق اليمين ولا في وجوب صرفها إلا أنه اختلف هل يكون القول قول الطالب أو المطلوب ؟ انتهى .

                                                                                                                            ونص ما لسحنون في نوازله الذي أشار إليه ابن رشد قيل له أرأيت إن أتى بذكر حق له على رجل فيه ألف دينار ، فأتى المشهود عليه ببراءة ألفي دينار يزعم أن تلك الألف دخلت في هذه المحاسبة والقضاء قال : يحلف ويبرأ قيل له ، فإن أتى ببراءات متفرقة إذا اجتمعت مع الذكر الحق أو الذكورات الحق كانت أكثر أو أقل ، وليس شيء من ذلك منسوبا أنه من الذكورات الحق ولا غير ذلك فقال إذا كانت البراءات متفرقة وليس واحد منها إذا انفردت فيها جميع هذه الذكورات الحق أو الذكر الحق فإني لا أراها براءة مما ثبت قبله وإن كان في واحد منها جميع هذا الحق وصارت بقية البراءات زيادة على ما ثبت قبله فإني أرى أن يحلف ويبرأ قال ابن رشد تفرقة سحنون هذه ضعيفة لا وجه لها ; لأن الحق يقضى مجتمعا ومتفرقا شيئا بعد شيء .

                                                                                                                            وقد روى ابنه أنه رجع إلى أن يبرأ بالبراءات المتفرقة وإن كان ليس في واحدة منها إذا انفردت كفافا بالذكر الحق ، ولو قيل إنه إن كان البراءة أو البراءات إذا اجتمعت أكثر من ذكر الحق لم تكن براءة لكان لذلك وجه بأن يقال المعنى في ذلك أن المطلوب أنكر المخالطة وزعم أنه لم يبايعه سوى هذه المبايعة التي فيها ذكر الحق وادعاها الطالب ، فإذا لم يكن في البراءة الواحدة أو البراءات أكثر من ذكر الحق لم يكن للطالب دليل على ما ادعاه من المخالطة فوجب أن يحلف المطلوب أنه لم يكن له سوى ذكر الحق وتكون البراءة أو البراءات براءة له منه ، وإن كان في البراءة الواحدة أو البراءات زيادة على ذكر الحق كان في ذلك للطالب دليل على ما ادعاه من المخالطة ، وأنه عامله غير هذه المعاملة ، فوجب أن يحلف الطالب أنه قد عامله فيما سوى هذا الحق ، وأن البراءة أو البراءات التي استظهر بها المطلوب إنما هي من ذلك ، فلا يكون شيء من ذلك براءة للمطلوب من ذكر الحق انتهى .

                                                                                                                            وهذا إذا لم يكن في البراءة المتأخرة أنه لم يبق له قبله حق وأن هذا آخر حق له قبله فإن كان فيها ذلك كان القول قول المطلوب بيمين إن لم يعلم التاريخ على قول ابن القاسم ودون يمين إن كان ذكر الحق الذي بيد الطالب تاريخه مقدما على تاريخ البراءة التي فيها ذلك بلا خلاف كما تقدم وقال في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ : وسمعت ابن القاسم .

                                                                                                                            وسئل عن الرجل يأتي بذكر حق فيه شهود على رجل بمائة دينار ويأتي المطلوب ببراءة دفعها إليه لا يدري شهودها أكانت قبل ذلك الذكر بحق أو بعده ليس فيها تاريخ قال : يحلف ، ويبرأ يعني صاحب البراءة قلت : يعني يحلف أنه قضاء لذلك الحق ، ويبرأ وقاله أصبغ ، وهذا هو القضاء وصوابه ، ولا يجعل له مالين كما لو كان للحق تاريخ والبراءة بعده بمال دفعه ، وادعى صاحب الحق أنه غيره لم يقبل قوله الآخر ; لأنه هو بريء ، وسئل عن رجل أتى بذكر حق على رجل فيه ألف دينار فأتى المشهود عليه ببراءته بألفي دينار ، فزعم أن تلك الألف دخلت في هذه المحاسبة والقضاء ، وأتى ببراءات متفرقة إذا اجتمعت استوت مع الذكر الحق أو الذكورات الحق أو كانت أكثر أو أقل ، وليس من ذلك شيء منسوب ليس فيه شيء يشبه أن يكون من الذكورات الحق ولا غير ذلك ، ويقول في الأكثر قد دخل فيه عند الحساب والقضاء مع غيره ، فرأى ذلك كله سواء وأنه له براءة ، ويحلف في ذلك إن ادعى الآخر غير ذلك ، وقاله لفظا ثابتا ، ويتم له بقية الذكورات إذا كانت البراءات أقل من ذلك قال ، وهو أحب إلي ، وهو الذي أرى وأستحسن .

                                                                                                                            قال أصبغ : رددتها عليه مرة بعد مرة ، فثبت على ذلك قال أصبغ كله باب واحد [ ص: 237 ] وهو كالطلاق وللطلاق تفسير قال ابن رشد : مساواته في هذه الروايات بين أن تكون البراءة الواحدة أو البراءات أقل من ذكر الحق أو أكثر ، فإنها براءة للمطلوب ، هو المشهور في المذهب الأظهر من الأقوال وقد قيل إنها لا تكون له براءة ، وهو قول ابن نافع في سماع يحيى من الدعوى والصلح وذلك إذا كانت بينهما مخالطة ، وأما إن لم تكن بينهما مخالطة ، فلا اختلاف في أنها تكون له براءة انتهى ، ثم تكلم على قوله ، وهو كالطلاق إلخ ونقلت كلامه في باب الرجعة فراجعه واستظهار ابن رشد هنا للقول الأول خلاف ما تقدم له في سماع أبي زيد من الشهادات من استظهار قول ابن نافع ، فلعله رجع إلى استظهار القول الأول ; لأن كلامه هنا متأخر عن ذلك وصرح هنا بأن الأول هو المشهور ، وما أشار إليه ابن رشد في كلامه المتقدم في سماع أشهب من الوديعة هو في رسم الأقضية .

                                                                                                                            ونصه وسئل مالك فقيل له كانت لي عند رجل ثلاثة وعشرون دينارا وديعة فكنت آخذ منه الشيء بعد الشيء حتى بقيت لي عنده ثمانية عشر فسألته إياها ، فقال دفعتها في بعض حاجتي ، ولكن اكتبها علي فكتبتها عليه بالشهود والبينة مؤرخة فغبت ، ثم رجعت فتقاضيته إياها ، فجاء ببراءة مكتوب فيها براءة لفلان بن فلان من أربعة دنانير ليست الأربعة مؤرخة ولا منسوبة من الثمانية عشر ولا من الثلاثة والعشرين فهو يقول من الثمانية عشر وأقول من الثلاثة والعشرين التي كانت لي عليك قبل أن أكتب عليك الثمانية عشر ، فقال أيقر لك بأنه قد كان لك عليه ثلاثة وعشرون فقال : لا فأطرق طويلا ، ثم قال : إن أقمت البينة أنه قد كانت عليه ثلاثة وعشرون دينارا حلفت بالله ما هذه البراءة من الثمانية عشر ، وكانت لك عليه ابن رشد ، وهذا كما قال إنه إذا أقر أنه كانت له عليه ثلاثة وعشرون أو أقام عليه بذلك البينة كان القول قوله إن البراءة ليست من الثمانية عشر ، وإنها من الثلاثة والعشرين ، ولو لم يقر بذلك ، ولا قامت عليه به بينة لكان القول قول المطلوب إنها من الثمانية عشر باتفاق إن لم يكن بينهما مخالطة وقال في النوادر في كتاب الإقرار في الترجمة التي بعد ترجمة الإقرار بالمجهول .

                                                                                                                            قال ابن المواز : وإذا دفع إليه خمسين دينارا وكتب له أن ذلك آخر حق له قبله ، ثم قام عليه بحق ، فقال هو بعد البراءة وقال الآخر : قبلها فكلما أشكل من هذا أهو قبل البراءة أم بعدها ، فلا يقضى به ، وكذلك لو أخرج هذا ذكر حق لا تاريخ فيه ، وبيد الآخر براءة لا تاريخ فيها فالبراءة أحق ، وإن كان في أحدهما تاريخ حكم بالذي فيه التاريخ ، وبطل الآخر انتهى . والله أعلم .

                                                                                                                            فتحصل من هذه النصوص أنه إن كان الحق الذي يقوم به قبل تاريخ البراءة فلا اختلاف أن القول قول المطلوب بأنه دخل في البراءة كما قاله ابن رشد في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب المديان وفي غير موضع ، وظاهر كلامه أيضا أنه لا يلزمه يمين ، ولو ادعى عليه أنه نسيه أو غلط كما تقدم عن النوادر ونقل ابن بطال في باب جامع في الأيمان من مقنعه كلام النوادر برمته ، وقبله ، ورأيت مكتوبا على هامش نسخته التي بيده ما صورته في هذا خلاف في لحوق اليمين وبلحوقها العمل .

                                                                                                                            انظر نوازل ابن الحاج والمفيد والفتحونية فانظره وما ذكره ابن رشد والمصنف من أنه لا يقبل دعواه بعد البراءة هو المعروف من المذهب وما ذكره ابن عات في ترجمة مبارأة الوصي ، فهو بعيد ، وأما إن كان الحق الذي يقوم به لم يتحقق أنه بعد تاريخ البراءة بل أشكل أمره أكان قبلها أو بعدها إما لكونهما مؤرخين بشهر واحد أو عاريين من التاريخ أو أحدهما مؤرخ والآخر غير مؤرخ ، فلا يخلو إما أن يتحقق الطالب أنه بعد البراءة أو يقول لا علم لي فإن حقق أنه بعد البراءة ففي ذلك ثلاثة أقوال : أحدها أن القول قول المطلوب مع يمينه وهو قول ابن القاسم في المدونة وابن وهب وغيرهما .

                                                                                                                            قال ابن رشد : في رسم الكراء [ ص: 238 ] والأقضية من كتاب المديان وهو المشهور في المذهب والأظهر من الأقوال كما تقدم والثاني أن القول قول الطالب مع يمينه وهو قول ابن نافع واستظهره ابن رشد أيضا في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات كما تقدم أيضا والثالث تفرقة سحنون بين أن يأتي المطلوب ببراءة واحدة تستغرق جميع العدد ، فيكون القول قول المطلوب أو يأتي ببراءات متفرقة إذا جمعت كانت مثل الحق أو أكثر أو أقل فلا يبرأ قال ابن رشد : في نوازل سحنون وهذه تفرقة ضعيفة لا وجه لها كما تقدم أيضا ، وهذا إذا كانت بينهما مخالطة ، وأما إذا لم يكن بينهما مخالطة فالقول قول المطلوب قولا واحدا قاله ابن رشد في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات كما تقدم ، وأما إن لم يحقق الطالب أن الحق الذي قام به بعد البراءة ، وإنما قال : لا علم لي فالقول قول المطلوب .

                                                                                                                            ، ولم يحك ابن رشد فيه خلافا كما تقدم وإنما حكى الخلاف في وجوب اليمين عليه وإجرائه على الخلاف في يمين التهمة قاله في الرسم الثاني من سماع ابن القاسم من كتاب المديان ( تنبيهان الأول ) : علم مما تقدم أن قول المصنف لا تقبل دعواه وإن بصك شامل لما علم أنه قبل تاريخ البراءة ولما جهل ، وأن القول في ذلك قول المطلوب يريد مع يمينه إذا جهل التاريخ كما صرح به ابن رشد في الرسم الثاني من سماع ابن القاسم من كتاب المديان ، وفي رسم الأقضية من سماع يحيى من كتاب الدعوى والصلح وغيرهما ، وأما إذا علم أنه قبل تاريخ البراءة .

                                                                                                                            ففي لحوق اليمين ما تقدم عن النوادر وابن رشد وما رأيته على هامش النسخة التي من كتاب ابن بطال ( الثاني ) : ذكر ابن غازي رحمه الله استظهار ابن رشد لقول ابن نافع فقط ، ولم يذكر تشهيره للقول الذي مشى عليه المؤلف واستظهاره إياه مع أنه قول ابن القاسم وابن وهب وغيرهما ، فلذلك اعتمده المصنف ، وكأن ابن غازي لم يقف على الكلام الثاني والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية