الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( باب ما جاء في وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )

الوفاة بفتح الواو الموت على ما في الصحاح من وفى بالتخفيف بمعنى تم ، أي : تم أجله ، قال في جامع الأصول : كان ابتداء مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - من صداع عرض له ، وهو في بيت عائشة ، ثم اشتد به ، وهو في بيت ميمونة ، ثم استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة فأذن له ، وكانت مدة مرضه اثنا عشر يوما ، وقيل أربعة عشر يوما ، ومات يوم الاثنين ضحى من ربيع الأول في السنة الحادية عشرة من الهجرة ، قيل لليلتين خلتا منه ، وقيل لاثنتي عشرة خلت منه ، وهو الأكثر انتهى ، ورجح جمع من المحدثين الرواية الأولى لورود إشكال سيأتي على الرواية الثانية ، لكن يلزم على هذا الترجيح أن يكون الشهور الثلاثة نواقص ، وهو غير مضر ، وذكر في الجامع أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - ولد يوم الاثنين ، وبعث نبيا يوم الاثنين ، وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وقبض يوم الاثنين ، قال الحنفي : وهنا سؤال مشهور على إشكال مسطور ، وهو أن جمهور أرباب السير على أن وفاته - صلى الله عليه وسلم - وقعت في اليوم الثاني عشر ، واتفق أئمة التفسير والحديث والسير على أن عرفة في تلك السنة يوم الجمعة ، فيكون غرة ذي الحجة يوم الخميس فلا يمكن أن يكون يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول سواء كانت الشهور الثلاث الماضية يعني ذا الحجة والمحرم وصفر ثلاثين يوما أو تسعا وعشرين ، أو بعض منها ثلاثين وبعض آخر منها تسعا وعشرين ، وحله أن يقال يحتمل اختلاف أهل مكة والمدينة في رؤية هلال ذي الحجة بواسطة مانع من السحاب وغيره ، أو بسبب اختلاف المطالع ، فيكون غرة ذي الحجة عند أهل مكة يوم الخميس ، وعند أهل المدينة يوم الجمعة ، وكان وقوف عرفة واقعا برؤية أهل مكة ، ولما رجع إلى المدينة اعتبروا التاريخ برؤية أهل المدينة ، وكان الشهور الثلاثة [ ص: 253 ] كوامل ، فيكون أول ربيع الأول يوم الخميس ، ويوم الاثنين الثاني عشر منه ، هذا وقد اتفقوا على أنه ولد يوم الاثنين في شهر ربيع الأول ، لكن اختلفوا فيه هل هو ثاني الشهر أم ثامنه أم عاشره بعد قدوم الفيل بشهر وأربعين يوما ، قال بعضهم ولم يختلف أهل السير في أنه عليه السلام توفي في شهر ربيع الأول ، ولا في أنه توفي يوم الاثنين ، وإنما اختلفوا في أي يوم كان من الشهر ، فجزم ابن إسحاق وابن سعد وابن حبان وابن عبد البر بأنه كان ثنتي عشرة ليلة خلت منه ، وبه جزم ابن الصلاح والنووي في شرح مسلم ، وغيره ، والذهبي في العبر ، وصححه ابن الجوزي ، وقال موسى بن عقبة في مستهل الشهر ، وبه جزم ابن زبير في الوفيات ، ورواه أبو الشيخ ابن حبان في تاريخه عن الليث بن سعد ، وقال سليمان التميمي لليلتين خلتا منه ، ورواه أبو معشر عن محمد بن قيس أيضا ، وقد روى البيهقي في دلائل النبوة بإسناد صحيح إلى سليمان التميمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرض لاثنتين وعشرين ليلة من صفر ، وكان أول يوم مرض فيه يوم السبت ، وكانت وفاته اليوم العاشر يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول والله سبحانه أعلم .

ثم اعلم أنه في صحيح البخاري عن عائشة كان - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو صحيح أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ، ثم يحيى ويخير ، وفي رواية لأحمد ما من نبي يقبض إلا يرى الثواب ، ثم يخير .

وفي رواية له أيضا : أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ، ثم الجنة ، وخيرت بين ذلك فاخترت لقاء ربي والجنة ، وفي رواية لعبد الرزاق : خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل ، وفي المسند عن عائشة كان - صلى الله عليه وسلم - يقول ما من نبي إلا تقبض نفسه ، ثم يرى الثواب ، ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه وبين أن يلحق ، فكنت قد حفظت ذلك ، وإني لمسنده إلى صدري فنظرت إليه حتى مالت عنقه ، فقلت : قضى ، قالت : فعرفت الذي قال ، فنظرت إليه حتى ارتفع ونظر ، فقلت إذا والله لا يختارنا ، فقال مع الرفيق الأعلى في الجنة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

وقال بعضهم : إن أول ما أعلمه - صلى الله عليه وسلم - باقتراب أجله ، نزول سورة النصر ، فإن المراد منها : إذا فتح الله عليك البلاد ودخل في الدين أفواج من العباد فقد اقترب أجلك وانتهى عملك فتهيأ للقاء في دار القرار بالتسبيح والتحميد والاستغفار لحصول ما أمرت به من تبليغ التبشير والإنذار ، ومن ثمة قيل إنها نزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع أيام التشريق ، فعرف - صلى الله عليه وسلم - أنه الوداع ، وللدارمي عن ابن عباس أنه لما نزلت دعا فاطمة ، وقال نعيت إلي نفسي ، فبكت ، قال : لا تبكي ; فإنك أول أهل بيتي لحوقا بي ، فضحكت ) . . . الحديث ، وللطبراني عن ابن عباس أنه لما نزلت نعيت إليه نفسه - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادا في أمر الآخرة ، وفي هذه السنة عرض القرآن على جبريل مرتين واعتكف عشرين يوما ، وكان قبل يعرض مرة ويعتكف العشر الأخير فقط ، هذا ولما خطب في حجة الوداع قال : خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد [ ص: 254 ] عامي هذا ، وطفق يودع الناس ، فقالوا : هذه حجة الوداع ، وجمع الناس في رجوعه إلى المدينة بماء يدعى خما ، بخاء معجمة فميم مشددة ، بالجحفة فخطبهم فقال ( يا أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم ) يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، ثم حض على التمسك بكتاب الله ، ووصى بأهل بيته ، ولما وصل المدينة مكث قليلا ، وفي هذا المرض خرج كما رواه الدارمي ، وهو معصوب الرأس فصعد المنبر ، ثم قال كما رواه الشيخان : إن عبدا خيره بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده ، فبكى أبو بكر - رضي الله عنه - وقال : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، قال الراوي فعجبنا ، وقال الناس : انظروا إلى هذا الشيخ : يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده ، وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخير ، وأبو بكر أعلمنا به فقال - صلى الله عليه وسلم - إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ، فلو كنت متخذا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخوة الإسلام ، لا يبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر ، زاد مسلم أن ذلك كان قبل موته بخمس ليال انتهى ، وفيه دلالة على أفضلية أبي بكر - رضي الله عنه - وعلى مرتبته ، واستحقاق خلته ، وحقية خلافته .

وفي البخاري عن عائشة أنها قالت : وارأساه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك ، فقالت : واثكلياه ، والله إني لأظنك تحت موتي ، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك ، فقال - صلى الله عليه وسلم - بل أنا وارأساه لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ، ثم قلت يأبى الله ويدفع المؤمنون ، أو يدفع المؤمنون ويأبى الله إلا أبا بكر ، وقد صح أنه كان عليه قطيفة فكانت الحمى تصيب من وضع يده عليه من فوقها ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر ، وفي البخاري إني أوعك كما يوعك رجلان منكم ، قلت ذلك أن لك أجرين ؟ قال أجل ذلك لذلك ، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله سيئاته كما تحط الشجرة ورقها ، قال ابن حجر : الوعك بفتح فسكون أو فتح : الحمى ، وقيل أشدها ، وقيل إرعادها ، انتهى .

وقوله أو فتح أي : فتح العين سهو قلم لمخالفته كتب اللغة ، وصح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عليه سقاء يقطر من شدة الحمى ، وكان يقول : إن من أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، وفي البخاري عن عائشة أنه لما اشتد وجعه قال : أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوعيتهن لعلي أعهد إلى الناس ، فأجلسناه في مخضب لحفصة ، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن . . . الحديث ، ولهذا العدد خاصية في دفع السحر والسم ، وفي البخاري ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم ، وفي رواية : ما زالت أكلة خيبر تعاودني ، والأبهر : عرق مستبطن بالقلب إذا انقطع مات صاحبه ، وقد كان ابن مسعود وغيره يرون أنه - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 255 ] مات شهيدا من السم ، قال ابن حجر : الأكلة بالضم وأخطأ من فتح إذ لم يأكل إلا لقمة واحدة ، قلت : لا وجه للتخطئة فإنها أوردت بها الرواية ، وهي مستقيمة بحسب الدراية إذ أكل اللقمة الواحدة تسمى مرة من الأكل ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية