الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في تفصيل ذلك 1 - أما الأول : فكقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما وقوله تعالى : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة .

وفيه قولان ، أحدهما : في سرك وقلبك ، والثاني : بلسانك بحيث تسمع نفسك .

2 - وأما النهي عن ضده : فكقوله : ولا تكن من الغافلين وقوله : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم .

3 - وأما تعليق الفلاح بالإكثار منه : فكقوله : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون .

4 - وأما الثناء على أهله وحسن جزائهم : فكقوله : إن المسلمين والمسلمات إلى قوله : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما .

5 - وأما خسران من لها عنه فكقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون .

[ ص: 398 ] 6 - وأما جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له فكقوله : فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون .

7 - وأما الإخبار عنه بأنه أكبر من كل شيء فكقوله تعالى : اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر وفيها أربعة أقوال :

أحدها : أن ذكر الله أكبر من كل شيء فهو أفضل الطاعات; لأن المقصود بالطاعات كلها : إقامة ذكره فهو سر الطاعات وروحها .

الثاني : أن المعنى : أنكم إذا ذكرتموه ذكركم فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له . فعلى هذا : المصدر مضاف إلى الفاعل ، وعلى الأول : مضاف إلى المذكور .

الثالث : أن المعنى : ولذكر الله أكبر من أن يبقى معه فاحشة ومنكر ، بل إذا تم الذكر : محق كل خطيئة ومعصية . هذا ما ذكره المفسرون .

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول : معنى الآية : أن في الصلاة فائدتين عظيمتين إحداهما : نهيها عن الفحشاء والمنكر ، والثانية : اشتمالها على ذكر الله وتضمنها له ولما تضمنته من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر .

8 - وأما ختم الأعمال الصالحة به : فكما ختم به عمل الصيام بقوله : ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون .

وختم به الحج في قوله : فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا .

وختم به الصلاة كقوله : فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم وختم به الجمعة كقوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ ص: 399 ] ولهذا كان خاتمة الحياة الدنيا ، وإذا كان آخر كلام العبد أدخله الله الجنة

9 - وأما اختصاص الذاكرين بالانتفاع بآياته وهم أولو الألباب والعقول فكقوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم

10 - وأما مصاحبته لجميع الأعمال واقترانه بها وأنه روحها : فإنه سبحانه قرنه بالصلاة كقوله : وأقم الصلاة لذكري وقرنه بالصيام وبالحج ومناسكه ، بل هو روح الحج ولبه ومقصوده . كما قال النبي : إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله .

وقرنه بالجهاد وأمر بذكره عند ملاقاة الأقران ومكافحة الأعداء فقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وفي أثر إلهي يقول الله تعالى : إن عبدي - كل عبدي - الذي يذكرني وهو ملاق قرنه .

سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يستشهد به وسمعته يقول : المحبون يفتخرون بذكر من يحبونه في هذه الحال ، كما قال عنترة :

ولقد ذكرتك والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم

وقال الآخر :

ذكرتك والخطي يخطر بيننا     وقد نهلت منا المثقفة السمر

قال آخر :

ولقد ذكرتك والرماح شواجر     تحوي وبيض الهند تقطر من دمي

وهذا كثير في أشعارهم وهو مما يدل على قوة المحبة . فإن ذكر المحب محبوبه [ ص: 400 ] في تلك الحال التي لا يهم المرء فيها غير نفسه يدل على أنه عنده بمنزلة نفسه أو أعز منها ، وهذا دليل على صدق المحبة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية