الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) الأصل في الحمى ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب الشرب بكسر الشين المعجمة والمراد بالشرب الحكم في قسمة الماء [ ص: 5 ] وضبطه الأصيلي بالضم قال الحافظ ابن حجر والأول أولى قال البخاري حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا حمى إلا لله ولرسوله } قال وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وأن عمر حمى الشرف والربذة .

                                                                                                                            وأخرج منه أيضا في كتاب الجهاد في باب أهل الدار يبيتون الموصول منه عن الصعب بن جثامة أيضا أعني قوله { لا حمى إلا لله ولرسوله } وقوله وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع هكذا وقع لجميع رواة البخاري غير أبي ذر فإنه وقع عنده قال أبو عبد الله بلغنا فاغتر بذلك بعض الشراح فظن أنه من كلام البخاري وأنه من تعليقاته وليس كذلك وإنما القائل بلغنا هو ابن شهاب فهو موصول بالإسناد المذكور إليه لكنه مرسل من مراسيل ابن شهاب وهكذا وقع في رواية لأبي داود فقال عن الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى وقال { لا حمى إلا لله ولرسوله } . قال ابن شهاب وبلغني { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع } ثم ذكر أبو داود رواية أخرى بعدها عن الصعب بن جثامة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وقال { لا حمى إلا لله } ولم يقل ولرسوله وذكر الروايتين في آخر كتاب الجراح من سننه واقتصر الحافظ ابن حجر في فتح الباري على ذكر الرواية الأولى من روايتي أبي داود ولم يذكر الثانية وذكرها في تخريجه لأحاديث الرافعي وعزاها للإمام أحمد وأبي داود والحاكم وقال إنها مدرجة يعني حمى النقيع . وذكر أن البخاري وهم من أدرجها وقال أيضا في تخريجه لأحاديث الرافعي أغرب عبد الحق في الجمع فجعل قوله وبلغنا من تعليقات البخاري وتبعه على ذلك ابن الرفعة قال ويكفي في الرد عليهما أن أبا داود صرح بأنه من مراسيل الزهري يعني في الرواية الأولى ثم ذكر أن الإمام أحمد وابن حبان أخرجا من حديث ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين } والصعب ضد السهل وعلى وزنه وجثامة بجيم مفتوحة وثاء مثلثة مشددة ذكره النووي في أول كتاب الحج من شرح مسلم . ( الثاني ) اقتصر عبد الحق في الأحكام على عزو الحديث لأبي داود واقتصر على الرواية الثانية من روايتيه وزاد فيها لفظ ولرسوله ; فقال روى أبو داود عن الصعب بن جثامة { أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وقال : لا حمى إلا لله ولرسوله } وقال علي بن عبد العزيز في المنتخب حمى النقيع لخيل المسلمين ترعى فيه ثم ذكر حديثين آخرين ثم قال وأصح هذه الأحاديث حديث الصعب بن جثامة وهو الذي يعول عليه انتهى .

                                                                                                                            تبعه على ذلك ابن عبد السلام والمصنف في التوضيح وابن عرفة وقد علمت أن الحديث في صحيح البخاري وأخرج النسائي في سننه في كتاب الحمى وفي كتاب السير من حديث مالك عن ابن شهاب الموصول منه أعني قوله { لا حمى إلا لله ولرسوله } وعزا جماعة من الشافعية حديث { أنه صلى الله عليه وسلم حمى النقيع } لابن حبان وقد علمت أنه في صحيح البخاري فعزوه له أولى وإن كان مرسلا لأن مراسيل البخاري كلها صحيحة ولا سيما وقد اعتضد بحديث ابن عمر المذكور والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثالث ) وقع للحاكم أن البخاري ومسلما اتفقا على إخراج حديث { لا حمى إلا لله ورسوله } وتبعه على ذلك أبو الفتح القشيري في الإلمام وابن الرفعة في المطلب قال الحافظ ابن حجر في تخريجه لأحاديث الرافعي وقد وهم الحاكم في ذلك فإن الحديث من أفراد البخاري . ( الرابع ) اقتصر ابن الأثير في جامع الأصول على عزو الحديث للبخاري وأبي داود ولم يذكر النسائي وقد علمت أنه رواه في موضعين من سننه .

                                                                                                                            ( الخامس ) قال في النهاية في معنى الحديث أعني قوله صلى [ ص: 6 ] الله عليه وسلم { لا حمى إلا لله ولرسوله } أنه صلى الله عليه وسلم نهى عما كانت تفعله الجاهلية وأضاف الحمى لله ولرسوله أي إلا ما يحمي للخيل التي ترصد للجهاد والإبل التي يحمل عليها في سبيل الله انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن عبد السلام في شرح ابن الحاجب لما ذكر الحديث تأوله الجمهور على معنى أنه لا ينبغي أن يحمى إلا كما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لخيل المجاهدين وشبه ذلك مثل ما فعله الخلفاء بعده حموا لإبل الغزاة انتهى .

                                                                                                                            وقال الجلال السيوطي في حاشية البخاري قوله لا حمى إلا لله ولرسوله قال الشافعي يحتمل معنيين أحدهما لا حمى إلا ما حماه صلى الله عليه وسلم والثاني لا حمى إلا مثل ما حماه ; فعلى الأول ليس لأحد من الولاة أن يحمي بعده وعلى الثاني يختص بمن قام مقامه فهو الخليفة دون سائر نوابه انتهى .

                                                                                                                            ومقتضى كلامه أنه يتفق على أنه ليس لنواب الإمام أن يحموا وقال في فتح الباري والأرجح عند الشافعية أن الحمى يختص بالخليفة ومنهم من ألحق به ولاة الأقاليم ومحل الجواز أن لا يضر بكافة المسلمين انتهى .

                                                                                                                            والذي اقتصر عليه صاحب الإرشاد من الشافعية أن الحمى لا يختص بالإمام بل لولاته أن يحموا وقال ابن أبي شريف في شرحه أنه الأصح والذي رأيته في كلام كثير من أصحابنا المالكية أنه يجوز للإمام أن يحمي بالشروط التي تقدم ذكرها ولم يتكلموا على نوابه ولكن مقتضى كلام أهل المذهب أن ذلك بحسب عموم الولاية وخصوصها فإذا عم الإمام الولاية على بلد لأمير جاز له أن يحمي وأخرى إذا فوض إليه النظر في أمر الحمى والله أعلم .

                                                                                                                            ( السادس ) قال ابن عرفة بعد أن ذكر كلام عبد الحق المتقدم لفظ النقيع وجدته في نسخة صحيحة من الباجي ومن أحكام عبد الحق بالنون قبل القاف وذكره البكري بالباء قبل القاف وكذا وجدته في نسخة صحيحة من النوادر وهو مقتضى قول اللغويين قال الجوهري في حرف الباء والبقيع موضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى وبه سمي بقيع الغرقد وهو مقبرة المدينة ونحوه في مختصر العين ومثله لابن سيده وزاد والغرقد شجر له شوك كان ينبت هناك فذهب وبقي الاسم لازما للموضع ولم يذكر أحد منهم النقيع بالنون قبل القاف أنه اسم موضع مع كثرة ما جلب فيه ابن سيده في المحكم وقال الباجي في آخر الموطإ في ترجمة ما يتقى من دعوة المظلوم وفيه ذكر الحمى فقال الباجي وهذا الحمى هو النقيع بالنون ولم يتكلم عياض في مشارقه على هذه الكلمة لعدم وقوعها في الموطإ والصحيحين انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وكأنه رحمه الله لم يقف على ما ذكره القاضي عياض في المشارق في آخر حرف الباء الموحدة لما ذكر أسماء المواضع ونصه بقيع الغرقد الذي فيه مقبرة المدينة بباء بغير خلاف وسمي بذلك لشجرات غرقد وهو العوسج كانت فيه وكذلك بقيع بطحان جاء في الحديث وهو بالباء أيضا قال الخليل البقيع كل موضع من الأرض فيه شجر شتى وأما الحمى الذي حماه النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمر بعده وهو الذي يضاف إليه في الحديث غرز النقيع وفي الآخر بقدح لبن من النقيع وحمى النقيع وهو على عشرين فرسخا من المدينة وهو صدر وادي العقيق وهو أخصب موضع هنالك وهو ميل في بريد وفيه شجر ويستجم حتى يغيب فيه الراكب فاختلف الرواة وأهل المعرفة في ضبطه فوقع عند أكثر رواة البخاري بالنون وكذا قيده النسفي وأبو ذر والقابسي وسمعناه في مسلم من أبي بحر بالباء وكذا روي عن ابن ماهان وسمعناه من القاضي الشهيد وغيره بالنون وبالنون ذكره الهروي والخطابي وغير واحد قال الخطابي وقد صحفه أصحاب الحديث فيروونه بالباء وإنما الذي بالباء بقيع المدينة موضع قبورها وأما أبو عبيد الله البكري فقال إنما هو بالباء مثل بقيع الغرقد قال ومتى ذكر البقيع بالباء دون إضافة فهو هذا ووقع فيه في كتاب الأصيلي [ ص: 7 ] في موضع بالنون والباء وهو تصحيف قبيح والأشهر في هذا النون والقاف والنقيع بالنون كل موضع يستنقع الماء فيه وبه سمي هذا انتهى .

                                                                                                                            وقوله بقيع بطحان هو بضم الموحدة وسكون الطاء المهملة بعدها حاء مهملة قال في المشارق هكذا يرويه المحققون وكذا سمعناه من المشايخ وهو الذي يحكي أهل اللغة فيه فتح الموحدة وكسر الطاء وكذا قيده اللقاني في البارع وأبو حاتم والبكري في المعجم وقال البكري لا يجوز غيره وهو واد في المدينة انتهى . وقوله غرز النقيع بفتح الغين المعجمة والراء وبعدها زاي قال في المشارق هكذا ضبطناه على أبي الحسن وحكى فيه صاحب العين السكون قال وواحده غرزة مثل تمرة وتمر وبالوجهين وجدته في أصل الجياني في كتاب الخطابي قال أبو حنيفة هو نبات ذو أغصان رقاق حديد الأطراف يسمى الأسل وتسمى به الرماح وتشبه به وقال صاحب العين هو نوع من الثمار

                                                                                                                            ا هـ ومقتضى كلام ابن عباس أنه لم يقف على كلام صاحب المشارق أيضا فإنه قال بعد أن ذكر كلام عبد الحق هكذا رأيت في نسخة من الأحكام منسوبة إلى الصحة بالنون والقاف وذكره البكري بالباء والقاف قال وهو صدر وادي العقيق وقال وهو منتدى للناس ومتصيد وروي { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح في المسجد بأعلى عسيب } وهو جبل بأعلى قاع العقيق ثم أمر رجلا صيتا فصاح بأعلى صوته فكان مدى صوته بريدا وهو أربعة فراسخ فجعل ذلك حمى طوله وعرضه ميل وفي بعضه أقل من ميل انتهى .

                                                                                                                            وقوله منتدى بمعنى النادي وهو المجلس الذي يتحدث فيه وذكر المصنف في التوضيح بعض كلام المشارق ولكن كلامه يقتضي أن أبا عبيد غير البكري وكلام القاضي عياض في المشارق يقتضي أن أبا عبيد هو البكري وكذا رأيته في كلام غير واحد من العلماء منهم ابن حجر في مقدمة فتح الباري إلا أنه ذكر عن البكري أنه حكى فيه وجهين والذي حكاه القاضي في المشارق عن البكري إنما هو وجه واحد كما تقدم قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات النقيع بفتح النون وكسر القاف هو صدر وادي العقيق على نحو عشرين ميلا من المدينة وقال الشافعي في مختصر المزني وهو بلد ليس بالواسع الذي يضيق على من حوله إذا حمي ويعني بالبلد الأرض قال صاحب مطالع الأنوار مساحته ميل في بريد وذكر ما تقدم عن المشارق إلا أن قوله على عشرين ميلا من المدينة خلاف ما قال في المشارق والذي حكاه الحافظ ابن حجر وغيره أنه على عشرين فرسخا كما قال في المشارق وذكر في النوادر عن كتاب ابن سحنون أن ابن وهب روى عن مالك أن قدر النقيع ميل في ثمانية أميال قال ثم زاد فيه الولاة بعد وهكذا ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن موطإ ابن وهب أنه ميل في ثمانية أميال وهو خلاف ما ذكره هو في مقدمة فتح الباري وما ذكره في المشارق وما حكاه النووي في تهذيب الأسماء واللغات من أنه ميل في بريد فإن البريد اثنا عشر ميلا .

                                                                                                                            ( السابع ) تقدم في صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه حمى الشرف والربذة قال في فتح الباري وهو من بلاغ الزهري والشرف بفتح المعجمة والراء بعدها فاء في المشهور وذكر عياض أنه عند البخاري بفتح المهملة وكسر الراء قال وفي موطإ ابن وهب بفتح المعجمة والراء قال كذا رواه بعض رواة البخاري أو أصلحه وهو الصواب وأما سرف فهو موضع بقرب مكة ولا يدخله الألف واللام انتهى .

                                                                                                                            وقال في مقدمته قال أبو عبيد البكري هو ماء لبني باهلة أو لبني كلاب انتهى .

                                                                                                                            وقال الزركشي هو من عمل المدينة وأما سرف فمن عمل مكة على ستة أميال وقيل سبعة وقيل تسعة وقيل اثنا عشر انتهى .

                                                                                                                            وأما الربذة فهي بفتح الراء وفتح الموحدة وبعدها ذال معجمة قال في فتح الباري موضع معروف [ ص: 8 ] بين مكة والمدينة انتهى .

                                                                                                                            وقال الزركشي في كتاب العلم من حاشية البخاري موضع على ثلاث مراحل من المدينة انتهى .

                                                                                                                            قال ابن عبد السلام المالكي قال البكري الربذة هي التي جعلها عمر حمى لإبل الصدقة وكان حماه الذي حماه بريدا في بريد قال ثم تزيدت الولاة في الحمى أضعافا ثم أبيحت الأحمية في أيام المهدي فلم يحمها أحد وحمى عمر رضي الله عنه صرفة وزاد فيه عثمان انتهى .

                                                                                                                            وقال في النوادر وحمى أبو بكر رضي الله عنه الربذة لما يحمل عليه في سبيل الله نحو خمسة أميال في مثلها وحمى ذلك عمر لإبل الصدقة التي يحمل عليها في سبيل الله وحمى أيضا الشرف انتهى .

                                                                                                                            ( الثامن ) ذكر الرافعي في الشرح الكبير الحديث السابق بلفظ { أنه صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لإبل الصدقة ونعم الجزية } قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديثه بعد أن ذكر روايات الحديث تبين بهذا أن قوله لإبل الصدقة ونعم الجزية مدرج ليس في أصل الخبر انتهى والله أعلم .

                                                                                                                            ( التاسع ) قال المصنف في التوضيح انظر ما في الحديث من قوله حمى النقيع كما ذكر المصنف يعني ابن الحاجب وذكره الجوهري رباعيا فقال أحميت المكان جعلته حمى انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) ليس في كلامه ما يقتضي أنه لا يستعمل منه إلا الرباعي ونصه حميته أي دفعت عنه وهذا شيء حمى على فعل أي محظور لا يقرب وأحميت المكان جعلته حمى انتهى .

                                                                                                                            وقال في القاموس حمى الشيء يحميه حميا وحماية بالكسر ومحمية منعه وكلأ حمى كرضا محمي ثم قال وأحمى المكان جعله حمى لا يقرب انتهى . وقال في المشارق الحمى بكسر الحاء مقصور الممنوع من الرعي تقول حميت الحمى فإذا امتنع منه قلت أحميته ومنه قولهم حميت الماء القوم أي منعتهم انتهى . فعلم من كلامه في المشارق أنه يقال حميته بالفعل الثلاثي وأنه لا يقال أحميته بالرباعي إلا بعد امتناع الناس منه والله أعلم .

                                                                                                                            ( العاشر ) قوله لا حمى بلا تنوين وفي بعض الروايات بالتنوين قال الكرماني فتكون - حينئذ - لا بمعنى ليس أي فتكون للاستغراق على الأول بخلاف الثاني .

                                                                                                                            ( الحادي عشر ) قال الشافعية وينبغي للوالي إذا حمى أن يجعل للحمى حافظا يمنع أهل القوة من الرعي فيه ويأذن للضعيف والعاجز فإن دخله أحد من أهل القوة ورعى منع ولا غرم عليه ولا تعزير انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وهو ظاهر وكلام أهل المذهب يقتضيه فقد قال ابن عبد السلام والمصنف في التوضيح وقد صح أن عمر رضي الله عنه قال لهني حين ولاه على الحمى أدخل رب الصريمة والغنيمة وإياي ونعم ابن عوف وابن عفان ا هـ . إلا أن قولهم لا تعزير عليه فيه نظر والظاهر أن من بلغه النهي وتعدى بعد ذلك ورعى في الحمى فللإمام أن يعزره بالزجر أو التهديد فإن تكررت المخالفة فيعزره بالضرب وقولهم لا غرم عليه ظاهر لا شك فيه والله أعلم .

                                                                                                                            وما ذكره ابن عبد السلام عن عمر رضي الله عنه هو ما رواه مالك رضي الله عنه في آخر جامع الموطإ في باب ما يتقى من دعوة المظلوم عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى فقال يا هني اضمم جناحك عن الناس واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة وأدخل رب الصريمة والغنيمة وإياي ونعم ابن عوف وابن عفان فإنهما إن تهلك مواشيهما يرجعان إلى المدينة إلى زرع ونخيل وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيته يأت ببنيه فيقول يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا - لا أبا لك - فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق وأيم الله إنهم لا يرون أني قد ظلمتهم إنها لبلادهم ومياههم قاتلوا في الجاهلية وأسلموا عليه في الإسلام والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا انتهى .

                                                                                                                            ( الثاني عشر ) هذا الحديث رواه البخاري في كتاب الجهاد عن إسماعيل يعني ابن أبي أويس عن مالك وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري وهذا الحديث [ ص: 9 ] ليس في الموطإ قال الدارقطني في غرائب مالك هو حديث غريب صحيح انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وهذا من الأمر العجيب فإن الحديث موجود في جميع نسخ الموطإ وشروحه والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثالث عشر ) قوله مولى له يدعى هنيا هو بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات هكذا ضبطه ابن ماكولا وغيره من أهل الإتقان وكذا ضبطناه في صحيح البخاري والمهذب وغيرهما قال ورأيت بخط من لا تحقيق له أنه يقال أيضا بالهمز وهذا خطأ ظاهر نبهت عليه لئلا يغتر به روي هني عن أبي بكر وعمر ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم انتهى .

                                                                                                                            وقال في فتح الباري قوله يدعى هنيا بالنون مصغرا من غير همز وقد يهمز وهذا المولى لم أر من ذكره في الصحابة مع إدراكه . وقوله على الحمى قال في فتح الباري بين ابن سعد أنه كان على حمى الربذة وقوله اضمم جناحك عن الناس أي اكفف يدك عن ظلمهم في المال والبدن والجناح اليد قال الله تعالى { واضمم إليك جناحك } وفي رواية البخاري اضمم جناحك عن المسلمين قال في فتح الباري وفي رواية معن عن مالك عند الدارقطني في الغرائب اضمم جناحك للناس وعلى هذا استرهم بجناحك وهو كناية عن الرحمة والشفقة وقوله في هذه الرواية اضمم جناحك للناس لعله على الناس فإني رأيته كذلك .

                                                                                                                            وقال ابن عرفة قال أبو عمر قوله اضمم جناحك يقول لا تستطل على أحد لمكانك مني وقوله واتق دعوة المظلوم كناية لطيفة عن النهي عن الظلم وهكذا رأيته في نسخ البخاري وذكره في فتح الباري بلفظ واتق دعوة المسلمين ثم قال وفي رواية الإسماعيلي والدارقطني وأبي نعيم دعوة المظلوم وقوله فإن دعوة المظلوم مجابة هكذا في نسخ الموطإ ولفظ البخاري فإن دعوة المظلوم مستجابة وقوله وأدخل رب الصريمة والغنيمة أدخل بهمزة قطع مفتوحة وكسر الخاء المعجمة ومتعلق الإدخال محذوف والمراد المرعى والصريمة بضم الصاد المهملة مصغر الصرمة بكسر الصاد وهي القطعة من الإبل نحو الثلاثين قاله في الصحاح وقال الإسنوي في المهمات في كتاب إحياء الموات ما بين العشرة إلى الثلاثين من الإبل خاصة وقال في القاموس ما بين العشرة إلى الثلاثين أو إلى الخمسين أو الأربعين أو ما بين العشرة إلى الأربعين أو ما بين عشرة إلى بضع عشرة والغنيمة على وزن الصريمة مصغر أيضا هي ما بين الأربعين إلى المائتين قاله الإسنوي أيضا وقوله وإياي ونعم ابن عوف وابن عفان فيه تحذير المتكلم نفسه وهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهور النحويين قال الإسنوي وقد وقع للرافعي وغيره بالكاف والوارد في رواية الشافعي وغيره إنما هو بالياء وابن عوف هو عبد الرحمن وابن عفان هو عثمان رضي الله عنهما وخصهما بالذكر على طريق المثال لكثرة نعمهما لأنهما من مياسير الصحابة قال في فتح الباري ولم يرد منعهما ألبتة وأنه أراد أنه إذا لم يسع المرعى إلا نعم أحد الفريقين فنعم المقلين أولى فنهاه عن إيثارهما على غيرهما أو تقديمهما قبل غيرهما وقد بين حكمة ذلك انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) ظاهر الخبر أنه أراد منع نعمهما ليتوفر المرعى لإبل الصدقة فتأمله وقوله يأتني ببنيه كذا في أكثر نسخ الموطإ يأتني بحذف الياء للجزم في جواب الشرط وهو الراجح وفي بعض النسخ يأتيني بإثبات الياء وهو ضعيف وقوله ببنيته كذا في نسخ الموطإ بالنون قبل المثناة تحت جمع ابن وهي رواية الكشميهني في البخاري ووقع عند أكثر رواة البخاري ببيته بالتاء التحتية ثم الفوقية بلفظ البيت والمعنى متقارب وقوله فيقول يا أمير المؤمنين مقول القول محذوف لدلالة السياق عليه ولأنه لا يتعين في لفظ مخصوص نحو يا أمير المؤمنين أنا فقير أنا محتاج إلى كذا وقوله أفتاركهم أنا استفهام إنكاري أي لا أتركهم محتاجين وقوله لا أبا لك بفتح الموحدة من غير تنوين ثم اختلف فيه فعند سيبويه والجمهور [ ص: 10 ] أنه مضاف واللام زائدة مؤكدة لمعنى الإضافة وهي معتد بها من حيث إن اسم لا لا يضاف لمعرفة فاللام لصورة الإضافة وغير معتد بها من حيث إن ما قبلها منصوب بالألف واللام وإنما ينصب بها إذا كان مضافا ويشكل عليهم لا أبا لي بالألف واللام فإنه لا ينصب بالألف إذا أضيف للياء وقال ابن الحاجب وابن مالك أنه شبيه بالمضاف ويشكل على قولهما حذف التنوين وسمع من قولهم لا أباك بدون لام وهو مشكل وظاهر كلامهم أنه لم يسمع لا أبا لك ولو سمع لأمكن توجيهه بأنه شبيه بالمضاف والخبر على هذه الأوجه محذوف وسمع من كلامهم لا أبا لك بالبناء على الفتح وهو القياس وقوله لك هو الخبر على هذا الوجه ولو قال لا أب لك بالرفع والتنوين صح وهذا اللفظ ظاهره الدعاء عليه ; قال في فتح الباري وهو على المجاز لا على الحقيقة وقوله إنهم ليرون قال في فتح الباري بضم التحتية أوله بمعنى الظن وبفتحها بمعنى الاعتقاد قوله أني قد ظلمتهم .

                                                                                                                            ( فرع ) قال ابن حجر قال ابن التين يريد أرباب المواشي الكثيرة والذي يظهر لي أنه أراد أرباب المواشي القليلة لأنهم الأكثر وهم أهل تلك البلاد من نواحي المدينة ويدل على ذلك قوله إنها لبلادهم وقد أخرج ابن سعد في الطبقات أن عمر رضي الله عنه أتاه رجل من أهل البادية فقال يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام ثم تحمى علينا فجعل عمر ينفخ ويفتل شاربه وأخرج الدارقطني في غرائب مالك نحوه وزاد فلما رأى الرجل ذلك ألح عليه فلما أكثر عليه قال رضي الله عنه المال مال الله والعباد عباد الله والأرض أرض الله ما أنا بفاعل انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) والظاهر أن الضمير في يرون يعود إلى أصحاب المواشي الممنوعين سواء كانت مواشيهم كثيرة أو قليلة ثم قال في فتح الباري وقال ابن المنير لم يدخل ابن عفان ولا ابن عوف في قوله قاتلوا عليها في الجاهلية فالكلام عائد على عموم أهل المدينة لا عليها انتهى .

                                                                                                                            قال الشيخ ابن أبي زيد في النوادر وقال عمر رضي الله عنه لرجل من العرب عاتبه في الحمى بلاد الله حميت لمال الله انتهى . وقوله لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله قال في فتح الباري أي من الإبل التي كان يحمل عليها من لا يجد مركبا وجاء عن مالك أن عدة ما كان في الحمى في عهد عمر بلغ أربعين ألفا من إبل وخيل بينها انتهى وقال الإسنوي قوله لولا المال الذي أحمل عليه أي الخيل التي أعددتها لأحمل عليها من لا مركوب له قال مالك رضي الله عنه وكانت عدتها أربعين ألفا انتهى . وهو مخالف لما ذكره في فتح الباري .

                                                                                                                            ( الرابع عشر ) قال ابن عرفة قال أبو عمر فيه ما كان عليه عمر فيه من التقى وأنه لا يخاف في الله لومة لائم لأنه لم يداهن عثمان ولا عبد الرحمن وآثر المساكين والضعفاء وبين وجه ذلك وامتثل قوله صلى الله عليه وسلم لا حمى إلا لله ولرسوله يعني إبل الصدقة ا هـ قال ابن عرفة لما ذكر عن الباجي أنه يحمي لماشية الصدقة قلت يقوم منه طول تأخير صرف الزكاة إذا كان لتأخير مصرفها انتهى .

                                                                                                                            ( الخامس عشر ) قال الشافعية أن ما حماه الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينقض فلا ينقض حمى النقيع وأما ما حماه غيره من الولاة فيجوز نقضه لمصلحة وسواء كان الناقض هو الذي حماه أو غيره ( قلت ) هذا ظاهر إن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما حمى النقيع أمر أن يجعل ذلك حمى للمسلمين دائما وأما إذا حماه في سنة من السنين ولم يفهم أن ذلك حكم مستمر فالظاهر أنه لا يلزم استمراره ولو ثبت ذلك لاستمر عمل الخلفاء بعده على حمى ذلك الموضع وقد تقدم أن الصديق رضي الله عنه حمى الربذة وكذلك عمر رضي الله عنه فتأمله والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية