الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب الثالث في معرفة الذكاة المختصة بالصيد وشروطها .

- واتفقوا على أن الذكاة المختصة بالصيد هي العقر . واختلفوا في شروطها اختلافا كثيرا ، وإذا اعتبرت أصولها التي هي أسباب الاختلاف سوى الشروط المشترطة في الآلة وفي الصائد ; وجدتها ثمانية شروط :

اثنان يشتركان في الذكاتين ( أعني : ذكاة المصيد وغير المصيد ) وهي : النية والتسمية .

وستة تختص بهذه الذكاة :

أحدها : أنها إن لم تكن الآلة أو الجارح الذي أصاب الصيد قد أنفذ مقاتله ; فإنه يجب أن يذكى بذكاة الحيوان الإنسي إذا قدر عليه قبل أن يموت مما أصابه من الجارح أو من الضرب ، وأما إن كان قد أنفذ مقاتله فليس يجب ذلك ، وإن كان قد يستحب .

والثاني أن يكون الفعل الذي أصيب به الصيد مبدؤه من الصائد لا من غيره ( أعني : لا من الآلة كالحال في الحبالة ) ، ولا من الجارح كالحال فيما يصيب الكلب الذي ينشلي من ذاته .

والثالث : أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة .

والرابع : أن لا يشك في عين الصيد الذي أصابه ، وذلك عند غيبته عن عينه .

والخامس : أن لا يكون الصيد مقدورا عليه في وقت الإرسال عليه .

[ ص: 378 ] والسادس : أن لا يكون موته من رعب من الجارح أو بصدمة منه .

فهذه هي أصول الشروط التي من قبل اشتراطها أو لا اشتراطها عرض الخلاف بين الفقهاء ، وربما اتفقوا على وجوب بعض هذه الشروط ، ويختلفون في وجودها في نازلة نازلة ، كاتفاق المالكية على أن من شرط الفعل أن يكون مبدؤه من الصائد ، واختلافهم إذا أفلت الجارح من يده أو خرج بنفسه ، ثم أغراه ; هل يجوز ذلك الصيد أم لا ؟ لتردد هذه الحال بين أن يوجد لها هذا الشرط أو لا يوجد ، كاتفاق أبي حنيفة ، ومالك على أن من شرطه إذا أدرك غير منفوذ المقاتل أن يذكى إذا قدر عليه قبل أن يموت ، واختلافهم بين أن يخلصه حيا فيموت في يده قبل أن يتمكن من ذكاته ، فإن أبا حنيفة منع هذا ، وأجازه مالك ، ورآه مثل الأول ( أعني : إذا لم يقدر على تخليصه من الجارح حتى مات ) لتردد هذه الحال بين أن يقال أدركه غير منفوذ المقاتل ، وفي غير يد الجارح ، فأشبه المفرط أو لم يشبهه فلم يقع منه تفريط .

وإذا كانت هذه الشروط هي أصول الشروط المشترطة في الصيد مع سائر الشروط المذكورة في الآلة والصائد نفسه على ما سيأتي ; يجب أن يذكر منها ما اتفقوا منه عليه وما اختلفوا فيه ، وأسباب الخلاف في ذلك وما يتفرع عنها من مشهور مسائلهم . فنقول :

أما التسمية والنية : فقد تقدم الخلاف فيهما وسببه في كتاب الذبائح ، ومن قبل اشتراط النية في الذكاة لم يجز ( عند من اشترطها إذا أرسل الجارح على صيد وأخذ آخر ) ذكاة ذلك الصيد الذي لم يرسل عليه ، وبه قال مالك . وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وأبو ثور : ذلك جائز ويؤكل .

ومن قبل هذا أيضا اختلف أصحاب مالك في الإرسال على صيد غير مرئي ، كالذي يرسل على ما في غيضة أو من وراء أكمة ولا يدري هل هنالك شيء أم لا ؟ لأن القصد في هذا يشوبه شيء من الجهل .

وأما الشرط الأول الخاص بذكاة الصيد من الشروط الستة التي ذكرناها ( وهو أن عقر الجارح له إذا لم ينفذ مقاتله ، إنما يكون ذكاة لم يدركه المرسل حيا ) : فباشتراطه قال جمهور العلماء لما جاء في حديث عدي بن حاتم في بعض رواياته أنه قال عليه الصلاة والسلام : " وإن أدركته حيا فاذبحه " . وكان النخعي يقول : إذا أدركته حيا ولم يكن معك حديدة فأرسل عليه الكلاب حتى تقتله ، وبه قال الحسن البصري مصيرا لعموم قوله تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) .

ومن قبل هذا الشرط قال مالك : لا يتوانى المرسل في طلب الصيد ، فإن توانى فأدركه ميتا ; فإن كان منفوذ المقاتل بسهم حل أكله ، وإلا لم يحل ; من أجل أنه لو لم يتوان لكان يمكن أن يدركه حيا غير منفوذ المقاتل .

وأما الشرط الثاني ( وهو أن يكون الفعل مبدؤه من القانص ويكون متصلا حتى يصيب الصيد ) : فمن قبل اختلافهم فيه اختلفوا فيما تصيبه الحبالة والشبكة إذا أنفذت المقاتل بمحدد فيها : فمنع ذلك مالك والشافعي والجمهور ، ورخص فيه الحسن البصري . ومن هذا الأصل لم يجز مالك الصيد الذي أرسل عليه الجارح فتشاغل بشيء آخر ، ثم عاد إليه من قبل نفسه .

وأما الشرط الثالث ( وهو أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة له ) : فهو شرط مجمع عليه فيما أذكر ، لأنه لا يدري من قتله .

[ ص: 379 ] وأما الشرط الرابع ( وهو أن لا يشك في عين الصيد ، ولا في قتل جارحه له ) : فمن قبل ذلك اختلفوا في أكل الصيد إذا غاب مصرعه ، فقال مالك مرة : لا بأس بأكل الصيد إذا غاب عنك مصرعه إذا وجدت به أثرا من كلبك ، أو كان به سهمك ما لم يبت ، فإذا بات فإني أكرهه . وبالكراهية قال الثوري ، وقال عبد الوهاب : إذا بات الصيد من الجارح لم يؤكل ، وفي السهم خلاف ، وقال ابن الماجشون : يؤكل فيهما جميعا إذا وجد منفوذ المقاتل ; وقال مالك في المدونة : لا يؤكل فيهما جميعا إذا بات وإن وجد منفوذ المقاتل . وقال الشافعي : القياس أن لا تأكله إذا غاب عنك مصرعه . وقال أبو حنيفة : إذا توارى الصيد والكلب في طلبه فوجده المرسل مقتولا جاز أكله ما لم يترك الكلب الطلب ، فإن تركه كرهنا أكله .

وسبب اختلافهم شيئان اثنان :

1 - الشك العارض في عين الصيد أو في زكاته .

2 - والسبب الثاني : اختلاف الآثار في هذا الباب : فروى مسلم ، والنسائي ، والترمذي ، وأبو داود عن أبي ثعلبة عن النبي عليه الصلاة والسلام في الذي يدرك صيده بعد ثلاث ، فقال : " كل ما لم ينتن " . وروى مسلم عن أبي ثعلبة أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " إذا رميت سهمك فغاب عنك مصرعه فكل ما لم يبت " . وفي حديث عدي بن حاتم أنه قال عليه الصلاة والسلام : " إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد فيه أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكل " .

ومن هذا الباب اختلافهم في الصيد يصاد بالسهم أو يصيبه الجارح فيسقط في ماء أو يتردى من مكان عال ، فقال مالك : لا يؤكل لأنه لا يدري من أي الأمرين مات ، إلا أن يكون السهم قد أنفذ مقاتله ولا يشك أن منه مات ، وبه قال الجمهور . وقال أبو حنيفة : لا يؤكل إن وقع في ماء منفوذ المقاتل ، ويؤكل إن تردى . وقال عطاء : لا يؤكل أصلا إذا أصيبت المقاتل ; وقع في ماء أو تردى من موضع عال لإمكان أن يكون زهوق نفسه من قبل التردي أو من الماء قبل زهوقها من قبل إنفاذ المقاتل .

وأما موته من صدم الجارح له : فإن ابن القاسم منعه قياسا على المثقل ، وأجازه أشهب لعموم قوله تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) ولم يختلف المذهب أن ما مات من خوف الجارح أنه غير مذكى .

وأما كونه في حين الإرسال غير مقدور عليه ، فإنه شرط فيما علمت متفق عليه ، وذلك يوجد إذا كان الصيد مقدورا على أخذه باليد دون خوف أو غرر ، إما من قبل أنه قد نشب في شيء ، أو تعلق بشيء ، أو رماه أحد فكسر جناحه أو ساقه .

وفي هذا الباب فروع كثيرة من قبل تردد بعض الأحوال بين أن يوصف فيها الصيد بأنه مقدور عليه أو غير مقدور عليه ، مثل أن تضطره الكلاب فيقع في حفرة ، فقيل في المذهب : يؤكل ، وقيل : لا يؤكل .

واختلفوا في صفة العقر إذا ضرب الصيد فأبين منه عضو : فقال قوم : يؤكل الصيد دون ما بان منه . وقال قوم : يؤكلان جميعا . وفرق قوم بين أن يكون ذلك العضو مقتلا أو غير مقتل ، فقالوا : إن كان مقتلا أكلا جميعا ، وإن كان غير مقتل أكل الصيد ولم يؤكل العضو ، وهو معنى قول مالك ، وإلى هذا [ ص: 380 ] يرجع خلافهم في أن يكون القطع بنصفين ، أو يكون أحدهما أكبر من الثاني .

وسبب اختلافهم : معارضة قوله عليه الصلاة والسلام : " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة " لعموم قوله تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) ولعموم قوله تعالى : ( تناله أيديكم ورماحكم ) .

فمن غلب حكم الصيد وهو العقر مطلقا ، قال : يؤكل الصيد والعضو المقطوع من الصيد ، وحمل الحديث على الإنسي ; ومن حمله على الوحشي والإنسي معا واستثنى من ذلك العموم بالحديث العضو المقطوع فقال : يؤكل الصيد دون العضو البائن . ومن اعتبر في ذلك الحياة المستقرة ( أعني : في قوله وهي حية ) فرق بين أن يكون العضو مقتلا أو غير مقتل .

التالي السابق


الخدمات العلمية