الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 246 ] [ ص: 247 ] [ ص: 248 ] [ ص: 249 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ( 1 ) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ( 2 ) ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون )

يقول - تعالى ذكره - : ( تنزيل الكتاب ) الذي نزلناه عليك يا محمد ( من الله العزيز ) في انتقامه من أعدائه ( الحكيم ) في تدبيره خلقه ، لا من غيره ، فلا تكونن في شك من ذلك ، ورفع قوله : ( تنزيل ) بقوله : ( من الله ) وتأويل الكلام : من الله العزيز الحكيم تنزيل الكتاب . وجائز رفعه بإضمار هذا ، كما قيل : ( سورة أنزلناها ) غير أن الرفع في قوله : ( تنزيل الكتاب ) بما بعده ، أحسن من رفع سورة بما بعدها ، لأن تنزيل ، وإن كان فعلا فإنه إلى المعرفة أقرب ، إذ كان مضافا إلى معرفة ، فحسن رفعه بما بعده ، وليس ذلك بالحسن في " سورة " ، لأنه نكرة .

وقوله : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ) يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : إنا أنزلنا إليك يا محمد الكتاب ، يعني بالكتاب : القرآن ( بالحق ) يعني بالعدل ، يقول : أنزلنا إليك هذا القرآن يأمر بالحق والعدل ، ومن ذلك الحق والعدل أن تعبد الله مخلصا له الدين ، لأن الدين له لا للأوثان التي لا تملك ضرا ولا نفعا . ، [ ص: 250 ] وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( الكتاب ) قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ) يعني : القرآن .

وقوله : ( فاعبد الله مخلصا له الدين ) يقول - تعالى ذكره - : فاخشع لله يا محمد بالطاعة ، وأخلص له الألوهة ، وأفرده بالعبادة ، ولا تجعل له في عبادتك إياه شريكا ، كما فعلت عبدة الأوثان .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب ، عن حفص ، عن شمر قال : " يؤتى بالرجل يوم القيامة للحساب وفي صحيفته أمثال الجبال من الحسنات ، فيقول رب العزة جل وعز : صليت يوم كذا وكذا ؛ ليقال : صلى فلان! أنا الله لا إله إلا أنا ، لي الدين الخالص . صمت يوم كذا وكذا ، ليقال : صام فلان! أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص ، تصدقت يوم كذا وكذا ، ليقال : تصدق فلان! أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص ، فما يزال يمحو شيئا بعد شيء حتى تبقى صحيفته ما فيها شيء ، فيقول ملكاه : يا فلان ، ألغير الله كنت تعمل " .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي أما قوله : ( مخلصا له الدين ) فالتوحيد ، والدين منصوب بوقوع مخلصا عليه .

وقوله : ( ألا لله الدين الخالص ) يقول - تعالى ذكره - : ألا لله العبادة والطاعة وحده لا شريك له ، خالصة لا شرك لأحد معه فيها ، فلا ينبغي ذلك لأحد ، لأن كل ما دونه ملكه ، وعلى المملوك طاعة مالكه لا من لا يملك منه شيئا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

[ ص: 251 ] ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ألا لله الدين الخالص ) شهادة أن لا إله إلا الله .

وقوله : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) يقول - تعالى ذكره - : والذين اتخذوا من دون الله أولياء يتولونهم ، ويعبدونهم من دون الله ، يقولون لهم : ما نعبدكم أيها الآلهة إلا لتقربونا إلى الله زلفى ، قربة ومنزلة ، وتشفعوا لنا عنده في حاجاتنا ، وهي فيما ذكر في قراءة أبي : " ما نعبدكم " ، وفي قراءة عبد الله : " ( قالوا ما نعبدهم ) وإنما حسن ذلك لأن الحكاية إذا كانت بالقول مضمرا كان أو ظاهرا ، جعل الغائب أحيانا كالمخاطب ، ويترك أخرى كالغائب ، وقد بينت ذلك في موضعه فيما مضى .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي قال : هي في قراءة عبد الله : " قالوا ما نعبدهم " .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) قال : قريش تقوله للأوثان ، ومن قبلهم يقوله للملائكة ولعيسى ابن مريم ولعزير .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) قالوا : ما نعبد هؤلاء إلا ليقربونا ، إلا ليشفعوا لنا عند الله .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي في قوله : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) قال : هي منزلة .

[ ص: 252 ] حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) .

وقوله : ( ولو شاء الله ما أشركوا ) يقول سبحانه : لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) قال : قالوا هم شفعاؤنا عند الله ، وهم الذين يقربوننا إلى الله زلفى يوم القيامة للأوثان ، والزلفى : القرب .

وقوله : ( إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون ) يقول - تعالى ذكره - : إن الله يفصل بين هؤلاء الأحزاب الذين اتخذوا في الدنيا من دون الله أولياء يوم القيامة ، فيما هم فيه يختلفون في الدنيا من عبادتهم ما كانوا يعبدون فيها ، بأن يصليهم جميعا جهنم ، إلا من أخلص الدين لله ، فوحده ، ولم يشرك به شيئا .

التالي السابق


الخدمات العلمية