الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 589 ] ويشترط للاستثناء الاتصال المعتاد كسائر التوابع ، خلافا لابن عباس ، وأجازه عطاء والحسن ما دام في المجلس ; ، وأومأ إليه أحمد في الاستثناء في اليمين . وأن لا يكون من غير جنس المستثنى منه خلافا لبعض الشافعية ، ومالك ، وأبي حنيفة ، وبعض المتكلمين .

                لنا : الاستثناء إما إخراج ما تناوله ، أو ما يصح أن يتناوله المستثنى منه ، وأحد الجنسين لا يصح أن يتناول الآخر .

                قالوا : وقع في القرآن واللغة كثيرا .

                قلنا : يتعين حمله على المجاز والاتساع ; لأن ما ذكرناه قاطع ، وجواز استثناء أحد النقدين من الآخر عند بعضهم استحسان وأن لا يكون مستغرقا إجماعا . وفي الأكثر والنصف خلاف . واقتصر قوم على الأقل ، وهو الصحيح من مذهبنا .

                التالي السابق


                قوله : " ويشترط للاستثناء الاتصال المعتاد " ، إلى آخره ، أي : يشترط لصحة الاستثناء شروط :

                أحدها : أن يكون متصلا .

                وثانيها : أن لا يكون من غير الجنس .

                وثالثها : أن لا يكون مستغرقا .

                وقد ذكرت الشروط الثلاثة ، أما الاتصال ; فيشترط أن يتصل بالمستثنى منه اتصالا عاديا ، بحيث لا يفصل بينهما بكلام أجنبي ، ولا بسكوت يمكن [ ص: 590 ] التكلم فيه ، " كسائر التوابع " اللفظية من خبر المبتدأ أو جواب الشرط ، والحال ، والتمييز ; فكما لا يجوز الفصل بين المبتدأ والخبر بالزمان ، نحو : زيد قائم ، ولا بين الشرط وجوابه ، مثل أن يقول : إن تقم ، ثم بعد زمان يقول : أقم ، ولا بين الحال وصاحبها ، مثل أن يقول : جاء زيد ، ثم بعد مدة يقول : راكبا ، ولا بين المميز والمميز ، مثل أن يقول : عندي عشرون ، ثم يقول بعد مدة : درهما أو ثوبا .

                كذلك لا يجوز الفصل بين المستثنى والمستثنى منه ، مثل أن يقول : أنت طالق ثلاثا ، ثم يقول بعد مدة : إلا واحدة ، أو يقول : له علي عشرة دراهم ، ثم يقول بعد ساعة : إلا درهما . " خلافا لابن عباس " ، إذ حكي عنه جواز كون الاستثناء منفصلا ، وأجازه " عطاء " بن أبي رباح ، " والحسن " البصري ، ما دام في مجلس الكلام ، " وأومأ إليه " ، أي : إلى انفصال الاستثناء ، " أحمد في الاستثناء في اليمين " ، وهو ظاهر كلام الخرقي حيث قال : وإذا حلف بيمين ; فقال : إن شاء الله ، فإن شاء فعل ، وإن شاء ترك ولا كفارة عليه ، إذا لم يكن بين اليمين والاستثناء كلام ; فإنه إنما جعل المبطل للاستثناء الكلام المتخلل بينهما ; فدل على أن تخلل السكوت لا يؤثر ، والصحيح الأول ، وهو اشتراط الاتصال .

                وقد نص الخرقي في باب الإقرار على أن تخلل السكوت مبطل حيث قال : وإذا قال : له علي عشرة دراهم ، ثم سكت سكوتا كان يمكنه الكلام [ ص: 591 ] فيه ، ثم قال : زيوفا أو صغارا ; أو إلى شهر ، كانت عشرة جيادا وافية حالة .

                والدليل على ذلك ما ذكرناه من أن الاستثناء تابع ; فاشترط اتصاله كسائر التوابع ، ولأنه لو جاز انفصاله ، لما انعقد لإمام بيعة ، ولا استقر لأحد طلاق ، ولا عتق ولا غير ذلك من العقود ، لجواز أن يبايع الشخص ، أو يطلق ، أو يعتق ، ثم بعد حين يستثني بذكر شرط ; فيزول عنه لزوم العقد ، كما حكي أن وزيرا للمنصور كان يبغض أبا حنيفة ; فأراد أن يغري به المنصور ; فقال : يا أمير المؤمنين ، إن أبا حنيفة يخالف جدك ابن عباس في أن الاستثناء المنفصل لا يصح ; فقال أبو حنيفة : يا أمير المؤمنين ، إن هذا الرجل يريد أن يفسد عليك دولتك ، قال : وكيف ذلك ؟ ، قال : لأن الاستثناء المنفصل لو صح ، لجاز لكل من بايعك عام أول أن يستثني الآن أو بعد مدة استثناء تنحل به البيعة من عنقه ، ثم يخرج عليك ; فضحك المنصور ، وقال له : الزم مقالتك .

                ومن الحكايات المضحكة في هذا الباب ما حكي أن رجلا دخل الكوفة ; فرأى فيها نخلا كثيرا ; فقال : الطلاق لازم لي إن كان في الدنيا نخل أكثر من الكوفة ، فلما وصل إلى البصرة رأى نخلا أكثر من الكوفة ; فقال : إلا البصرة . ولو كان هذا الاستثناء صحيحا ، لما اتخذ الناس هذه الحكاية وأشباهها من المضحكات ، وذلك يدل على إجماع الناس عرفا والفهم طبعا على عدم صحة الاستثناء المنفصل ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                - قوله : " وأن لا يكون " ، أي : ويشترط للاستثناء أن لا يكون " من غير جنس المستثنى منه ، خلافا لبعض الشافعية ومالك وأبي حنيفة وبعض المتكلمين " [ ص: 592 ] حيث صححوا الاستثناء من غير الجنس . وحكاه الآمدي عن القاضي أبي بكر وبعض النحاة ، واختار هو الوقف على عادته في كثير من مسائل الخلاف .

                قلت : القائل بصحة الاستثناء من غير الجنس ، إن أراد صحته مجازا ; فلا نزاع فيه ، وإن أراد صحته حقيقة فممنوع ، والحق خلافه .

                " لنا " على عدم الصحة أن " الاستثناء إما إخراج ما تناوله المستثنى منه ، أو إخراج ما يصح أن يتناوله المستثنى ، وأحد الجنسين لا يصح أن يتناول الآخر " فلا يصح استثناؤه منه .

                وكذلك إن عرفنا الاستثناء بأنه قول متصل يدل على أن مدلوله غير مراد بالأول لا يصح استثناء غير الجنس أيضا ; لأن أحد الجنسين لا يصح أن يكون مرادا من لفظ الآخر حتى يكون الاستثناء دليلا على عدم إرادته منه .

                مثال ذلك أن لفظ القوم لا يتناول الحمار ، ولا يصح تناوله إياه ، ولا إرادته منه حتى يصح أن يقال على جهة الحقيقة : قام القوم إلا حمارا ، أما جوازه مجازا ; فلا نزاع فيه .

                قوله : " قالوا " أي : المجوزون الاستثناء من غير الجنس احتجوا على جوازه بأنه قد " وقع في القرآن واللغة كثيرا " ، والوقوع دليل الجواز ، وبيان الوقوع قوله سبحانه وتعالى : ( لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ) [ مريم : 62 ] ، والسلام ليس من جنس اللغو ، وقوله تعالى : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) [ النساء : 29 ] ، والتجارة ليست من جنس المال ; لأن المال هو الأعيان ، والتجارة التصرف في تلك الأعيان ، وقوله تعالى : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى . )

                [ ص: 593 ] [ الليل : 19 ، 20 ] ، وابتغاء وجه ربه ليس من جنس النعمة .

                وقال الشاعر :


                وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا أواري [ لأيا ما أبينها
                والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد ]

                والأواري هي التي تسمى الطوائل ، وليس من جنس أحد .

                [ ص: 594 ] وقال الآخر :


                يا ليتني وأنت يا لميس في بلدة ليس بها أنيس

                إلا اليعافير وإلا العيس [ ص: 595 ] واليعافير والعيس ليس من جنس الأنيس ; فبان بذلك كله صحة الاستثناء من غير الجنس ، لوقوعه في الكتاب العزيز ، واللغة الفصيحة .

                قوله : " قلنا " ، إلى آخره ، أي : قلنا في جواب هذا أنه " يتعين حمله على المجاز والاتساع " ، وليس محل النزاع " لأن ما ذكرناه " من دليل الامتناع قاطع ، وما ذكرتموه محتمل لتردده بين احتمال الحقيقة والمجاز ، والقاطع مقدم على المحتمل ، على أن جميع ما ذكرتموه أو أكثره يمكن تخريجه على أنه استثناء من الجنس .

                أما الآية الأولى ; فلأن اللغو والسلام يجمعهما جنس الكلام ; فكان الاستثناء فيها من الجنس بهذا الاعتبار .

                وأما الثانية ; فتقديرها : إلا أن تكون أموالا ذات تجارة . وأما كونه في تجارة ; فهو استثناء مال من مال ، وهو استثناء من الجنس .

                وأما الثالثة ; فابتغاء وجه ربه مستثنى من جنس الغرض الذي دل عليه سياق الآية ; فتقديرها : الذي يؤتي ماله يتزكى ولا غرض له في إنفاق ماله إلا ابتغاء وجه ربه غرض من الأغراض والمقاصد الصالحة ; فهو استثناء من الجنس .

                وأما اليعافير والعيس ; فيحصل بها الأنس الجامع بينهما وبين الأنيس إن [ ص: 596 ] أريد به الإنسان ، وإن أريد بالأنيس ما حصل به أنس ; فهو جنس عام دخل فيه اليعافير والعيس وغيرهما ، ولا إشكال .

                وأما الأواري فقال الأصمعي : هي الأواخي من وتد أو حبل يدق في الأرض وتشد إليه الدابة .

                قلت : فإذن هي من متعلقات ما يستأنس به ، وهي الدواب ; فأجرى عليه حكم الأنيس مجازا .

                وأهل العربية يسمون الاستثناء من غير الجنس منقطعا ، ويقدرون إلا فيه بمعنى لكن ، لاشتراكهما في معنى الاستدراك ; لأن لكن موضوعة له يستدرك بها المتكلم خللا وقع في كلامه أو غيره ، وكذلك إلا يستدرك بها نحو ذلك على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

                قوله : " وجواز استثناء أحد النقدين من الآخر عند بعضهم استحسان " .

                هذا جواب عن سؤال مقدر ، وتقديره : كيف تمنعون الاستثناء من غير الجنس ، وتجيزون استثناء الذهب من الورق ، والورق من الذهب ، وهما جنسان ؟ وقد نص على ذلك الخرقي في " المختصر " .

                وتقرير الجواب أن في صحة استثناء أحد النقدين من الآخر خلافا بين العلماء ، وهو قولان لأحمد رضي الله عنه ، فإن منعناه على أحد القولين ، لم يرد علينا ، وإن صححناه ; فهو استحسان مستثنى عن الدليل .

                ووجه الاستحسان أن الذهب والفضة هما أثمان المبيعات ، وقيم [ ص: 597 ] المتلفات ، وأروش الجنايات ، ومقاصدهما واحدة ; فينزلا لذلك منزلة الجنس الواحد . وأما نص الخرقي على ذلك في " المختصر " ; فهذا وجهه ، وقد صدر ذلك بقوله : ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه ، كان استثناؤه باطلا إلا أن يستثني عينا من ورق أو ورقا من عين ; فنص على امتناع الاستثناء من غير الجنس ، واستثنى منه الصورة المذكورة استحسانا ، وهو أحد القولين في المذهب .

                ويفيد الخلاف في هذا الشرط أنه لو قال : له عندي مائة درهم إلا ثوبا ، أو : إلا شاة أو غيرها من المتقومات ، بطل الإقرار عندنا ، وصح عند المخالف ، ويلزمه مائة إلا قيمة ثوب ، لاشتراك المستثنى والمستثنى منه في جنس المالية ، وما يقع في المستثنى من جهالة تزال بالوساطة أو الصلح .

                قلت : وهذا راجع إلى الاستثناء من الجنس القريب يصح إجماعا كاستثناء درهم من دراهم أو دينار من دنانير ، والاستثناء من الجنس البعيد كالثوب ونحوه من الدراهم باعتبار جنس المال محل الخلاف ، ومنه استثناء أحد النقدين من الآخر لاختلاف الجنس حقيقة ، غير أن صحته أقرب من غيره لتقارب مقاصد النقدين كما سبق ، والله تعالى أعلم .

                - قوله : " وأن لا يكون مستغرقا إجماعا " ، إلى آخره ، أي : ويشترط لصحة الاستثناء أن لا يكون مستغرقا فإن كان مستغرقا نحو : له [ ص: 598 ] علي عشرة إلا عشرة ، بطل " إجماعا وفي الأكثر والنصف " نحو : له علي عشرة إلا ستة ، أو : خمسة - " خلاف . واقتصر قوم على الأقل " أي : على صحة الاستثناء الأقل ، نحو : له علي عشرة إلا أربعة ، " وهو الصحيح من مذهبنا " .

                قال صاحب " المحرر " من أصحابنا : يصح استثناء الأقل دون الأكثر في عدد الطلاق والمطلقات والأقارير نص عليه . وفي النصف وجهان ، وقيل : يصح في الأكثر أيضا .

                قلت : المصحح لاستثناء الأكثر هم أكثر الفقهاء والمتكلمين ، والمانع منه أصحابنا وبعض الفقهاء والقاضي أبو بكر في آخر أقواله . قال الآمدي : وقد استقبح بعض أهل اللغة استثناء عقد صحيح ، واختار هو الوقف .

                قلت : مثال استثناء العقد الصحيح : له سبعون إلا عشرة .

                - ولنذكر توجيه الأقوال المذكورة :

                - أما عدم صحة الاستثناء المستغرق ; فلإفضائه إلى العبث وكونه نقضا كليا [ ص: 599 ] للكلام ، ورجوعا عن الإيجاد إلى الإعدام ; فعلى هذا يلغو الاستثناء ، ويلزم المستثنى ، فإذا قال : له علي عشرة إلا عشرة ، أو : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ; لزمه عشرة ، وطلقت ثلاثا .

                وأما وجه الخلاف في استثناء الأكثر ; فمن صححه ، احتج بوجوه :

                أحدها : قوله سبحانه وتعالى حكاية عن إبليس : ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) [ ص : 82 و 83 ] ، وقال سبحانه وتعالى في آية أخرى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) [ الحجر : 42 ] ; فاستثنى في الأولى العباد المخلصين من بني آدم ، وفي الثانية الغاوين من العباد ، وأيهما كان الأكثر حصل المقصود .

                ولتقرير الدليل من ذلك وجه آخر ، وهو أنه سبحانه وتعالى استثنى الغاوين من العباد ، والغاوون أكثر ; بدليل قوله عز وجل : ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) [ الأعراف : 17 ] ، ( بل أكثرهم لا يعقلون ) [ العنكبوت : 63 ] ، ( لا يؤمنون ) [ البقرة : 100 ] .

                الوجه الثاني : قول الشاعر :

                أدوا التي نقصت تسعين من مائة
                ثم ابعثوا حكما بالحق قواما [ ص: 600 ] وهو معنى قوله : مائة إلا تسعين ، وهو استثناء الأكثر .

                الوجه الثالث : أن الاستثناء يرفع بعض ما دل عليه اللفظ ; فجاز في الأكثر ، كالتخصيص .

                - ومن منع استثناء الأكثر ، احتج بما سيأتي إن شاء الله تعالى في توجيه الاقتصار على الأقل ، وإذا اتجه الخلاف في استثناء الأكثر ; كان في استثناء النصف أوجه ، ولأن الأكثر والنصف واسطتان بين استثناء الأقل والمستغرق ، وقد بينا في هذا الكتاب وغيره أن الوسائط يتجه فيها الخلاف لنزوعها بالشبه إلى الأطراف .

                ومن اقتصر على صحة استثناء الأقل ; احتج بأن الاستثناء على خلاف الأصل كسائر التخصيصات خولف في الأقل لعموم الحاجة إليه ، إذ المتكلم قد يغلط أو ينسى ; فيحتاج إلى الاستدراك بالاستثناء ، وإنما يقع السهو والغلط في الأقل غالبا ، إذ العاقل إنما يغلط في المائة بعشرة إلى أربعين ، أما غلطه بخمسين إلى تسعين ، فنادر جدا ، ومن يغلط بذلك ، لا يكاد يعد عاقلا ، بل هو إما مجنون أو مغفل ، وإذا لم تدع الحاجة إلى ما سوى الأقل ; وجب الاقتصار عليه ، مع أن أئمة اللغة نصوا على امتناع غيره .

                [ ص: 601 ] قال الزجاج : لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير . وقال ابن جني : لو قال قائل : مائة إلا تسعة وتسعين ; لم يكن متكلما بالعربية ، وكان كلامه عيا ولكنة . وقال القتيبي : صمت الشهر كله إلا يوما واحدا ، ولا يقال صمته إلا تسعة وعشرين يوما ، ويقال : لقيت القوم جميعا إلا واحدا أو اثنين ، ولا يقال : لقيتهم إلا أكثرهم ، وإذا لم يكن هذا من كلام العرب ، ولا دعت إليه الحاجة ، ولا سوغه قياس ، كان مردودا .

                أما الوجوه التي ذكرت على صحة استثناء الأكثر ; فالجواب عن الأول منها ، وهو الآيتان الكريمتان ، على الطريقة الأولى في تقرير الدليل منها ; فمن وجهين :

                أحدهما : أن الاستثناء في قوله : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) [ الحجر : 42 ] منقطع بمعنى لكن ، أي : لكن من اتبعك من الغاوين هم معك في جهنم ، أو هم من حزبك ، وليس المراد أن لك عليهم سلطانا ، بدليل قول إبليس في الآخرة : ( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) [ إبراهيم : 22 ] .

                الوجه الثاني : أنه سبحانه وتعالى استثنى في إحدى الآيتين المخلصين من بني آدم ، وهم الأقل ، وفي الثانية استثنى الغاوين من جميع العباد ، وهم الأقل أيضا ; لأن الملائكة من عباد الله ، بدليل قوله تعالى : ( بل عباد مكرمون ) [ الأنبياء : 26 ] ; فهم غير غاوين ، ونسبة جميع بني آدم إلى الملائكة يسيرة فضلا عن الغاوين منهم .

                [ ص: 602 ] قلت : والجوابان ضعيفان ، أما الأول ; فلأن الأصل في الاستثناء الاتصال ، وقوله : ( وما كان لي عليكم من سلطان ) [ إبراهيم : 22 ] ، أي : بالجبر والقهر القدري ، بل ذلك لله سبحانه وتعالى ، وذلك لا ينفي سلطانه بالإغواء والوسوسة ، وهو المراد بالسلطان المثبت له بقوله عز وجل : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) أي : فلك عليهم سلطان الإغواء والوسوسة ; بدليل قوله عز وجل : ( وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم ) [ الإسراء : 64 ] .

                وأما الثاني ; فلأن المحاورة إنما وقعت في ذرية آدم التي أخرج إبليس بسببه ، بدليل قوله : ( أنظرني إلى يوم يبعثون ) [ الأعراف : 14 ] ، يعني بني آدم ، ( قال إنك من المنظرين ) [ الأعراف : 15 ] ، ( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) [ ص : 82 ] . وإذا كان الكلام في ذرية آدم ، لم يصح ضم الملائكة إليهم حتى يكون الغاوون بالنسبة إليهم وإلى بقية بني آدم قليلا .

                والجواب الصحيح عن الآية : هو أنا نمنع من استثناء الأكثر إذا صرح بعدد المستثنى منه ، أما إذا لم يصرح به ; فهو جائز باتفاق ، كما إذا قال : خذ ما في هذا الكيس من الدراهم إلا الزيوف ، وكانت أكثر ، والآية من هذا الباب لم يصرح فيها بعدد المستثنى منه ، بل قال سبحانه وتعالى : ( إن عبادي ) ، وهو مقدار غير معين ، بخلاف : له عندي مائة إلا تسعين ; فهذا هو الممنوع .

                [ ص: 603 ] وهذا هو الجواب عن البيت المذكور بتقدير ثبوته ، إذ ليس فيه صيغة استثناء . ومحل النزاع مشروط بالتصريح بصيغة الاستثناء والعدد على أن ابن فضال النحوي قال : هذا بيت مصنوع لم يثبت عن العرب .

                والجواب عن الثالث : أنه قياس في اللغة ، وهو ممنوع عند بعض الناس ، ولو سلم صحته ; فالفرق بين الاستثناء والتخصيص بغيره أن التخصيص مستقل بنفسه بخلاف الاستثناء ; فلا يلزم من تخصيص الأكثر بلفظ مستقل قوي جواز استثناء الأكثر بلفظ ضعيف غير مستقل ، ثم إن الاستثناء رافع ، بناء على أنه إخراج بخلاف التخصيص ; فإنه مبين لا رافع ; فلا يتحقق القياس والله تعالى أعلم بالصواب .



                - فروع تتعلق بشروط الاستثناء المذكورة :

                - أحدها : أنا قد ذكرنا أنه يشترط للاستثناء الاتصال المعتاد فلا يضر الفصل بينه وبين المستثنى منه بسكتة بنفس ، أو عارض سؤال أو شرق أو نحوه ; لأن تلك الأمور ضرورية ، ويشترط له أيضا أن ينوي الاستثناء قبل تكميل المستثنى منه ، وهو الأصح من مذهب الشافعي .

                وصورته أنه إذا قال : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة ; ينوي استثناء الواحدة قبل [ ص: 604 ] فراغه من قوله : أنت طالق ثلاثا ، أو : له علي عشرة إلا درهما ; ينوي استثناء الدرهم قبل قوله : عشرة ، لأنه إن لم يشترط ذلك ، كان جازما بوقوع المستثنى وقوعا مستقرا ; فيكون الاستثناء بعد ذلك رجوعا محضا عما أوقعه ، بخلاف ما إذا نواه قبل تكميل المستثنى منه ; فإنه يكون منعا لدخوله ، ورفعا له قبل استقراره ، كما سبق التنبيه عليه .

                الفرع الثاني : قد بينا ما يصح من الاستثناء ، وما يبطل وثبت في اللغة والشرع صحة الاستثناء من الاستثناء كقوله تعالى : ( إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ، إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين ) [ الحجر : 58 : 60 ] ، وكقول القائل : له علي عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة إلا درهمين إلا درهما .

                فإذا تخلل الاستثناءات استثناء باطل ; فهل يلغى ذلك الاستثناء الباطل وما بعده ; أو يلغى وحده ويرجع ما بعده إلى ما قبله ; أو ينظر إلى ما تئول إليه جملة الاستثناءات ؟ فيه ثلاثة أوجه :

                ولنضرب أمثلة بأنواع الاستثناء الباطل ، وهي المستغرق باتفاق ، والأكثر والنصف على الخلاف .

                مثال المستغرق : قال : له علي عشرة إلا عشرة إلا أربعة إلا واحدا .

                فعلى الوجه الأول : يلزمه عشرة ، ويلغو قوله : إلا عشرة ; لأنه استثناء مستغرق باطل ، ويلغو قوله : إلا أربعة إلا واحدا ; لأنه فرع على استثناء باطل .

                وعلى الوجه الثاني : يلغو المستغرق وحده تخصيصا للبطلان به [ ص: 605 ] لاختصاصه بسببه ; وهو الاستغراق ، ويصير نظم الكلام : له علي عشرة إلا أربعة إلا واحدا ; فيلزمه سبعة ، سيأتي بيان الطريق في استخراج ذلك إن شاء الله تعالى .

                وعلى الوجه الثالث : ينظر ما يئول إليه جملة الاستثناءات الباطل منها والصحيح ; فيلزمه في الصورة المذكورة ثلاثة والله سبحانه وتعالى أعلم .

                مثال استثناء الأكثر : قال له علي عشرة إلا أربعا إلا واحدا ، فإن أبطلنا استثناء الأكثر :

                فعلى الأول : يلزمه عشرة ، ويلغو استثناء التسعة وما بعده .

                وعلى الثاني : يلغو استثناء التسعة وحده ; فيلزمه سبعة .

                وعلى الثالث : يلزمه أربعة .

                وإن صححنا استثناء الأكثر ، لزمه أربعة كالوجه الثالث على القول ببطلانه .

                مثال استثناء النصف : قال : له علي عشرة إلا خمسة إلا اثنين إلا واحدا ، فإن أبطلنا استثناء النصف لزمه على الأول عشرة وعلى الثاني تسعة ، وعلى الثالث ستة ، وإن صححناه ، لزمه ستة أيضا ، كالوجه الثالث على القول ببطلانه .

                وقد تتركب الاستثناءات بأن تشتمل على المستغرق والأكثر والنصف ، كقوله : له علي عشرة إلا عشرة إلا ثمانية إلا أربعة ، فإن ألغينا الثلاثة ، لزمه [ ص: 606 ] هاهنا عشرة ، وكذلك إن ألغينا المستغرق وما تفرع عليه على الوجه الأول ، وإن ألغينا المستغرق وحده ، لزمه ستة ، وإن نظرنا إلى ما يئول إليه جملة الاستثناءات ، لزمه أربعة ، وإن ألغينا المستغرق والأكثر فقط ، وصححنا النصف ; فعلى الوجه الأول يلزمه عشرة ، وعلى الثاني ستة ، وعلى الثالث أربعة ، وإن ألغينا المستغرق والنصف ، وصححنا الأكثر ، وهو بعيد في القياس ، لكنا فرضناه تصويرا ; فعلى الأول يلزمه عشرة ، وعلى الثاني اثنان ، وعلى الثالث أربعة كما سبق . والطريق العام في استخراج الباقي عند تكرر الاستثناءات مبني على أن الاستثناء من الإثبات نفي ، ومن النفي إثبات .

                فنقول : في الصورة الأولى من صور هذا الفرع ، وهي : له علي عشرة إلا عشرة إلا أربعة إلا واحدا ، أثبت عشرة ثم نفاها ، ثم أثبت من العشرة المنفية أربعة ، ثم نفى من هذه الأربعة المثبتة واحدا ; فبقي ثلاثة ، لكن عند كثرة الاستثناءات يصعب سلوك هذا الطريق ، ويشق ضبطه ; فلك فيه طريقان سهلان جدا :

                أحدهما : أن تأخذ شفع الأعداد ووترها ، وتعرف مقدار كل واحد منهما ، وتلقي أقلها من أكثرها ; فما بقي ; فهو الجواب .

                وضبط هذا بالشفع والوتر إنما يصح إذا لم يكن في الاستثناءات استثناء مستغرق ، فإن كان فيها استثناء مستغرق كالصورة المذكورة ; فضبطه أن تأخذ [ ص: 607 ] الأعداد المثبتة ; فتعرف جملتها ، ثم المنفية كذلك ، ثم تلقي أقلها من أكثرها ; فالباقي هو الجواب .

                ويعرف العدد المثبت من المنفي بأن تبتدئ بالأول ، ثم تأخذ العدد الثاني منه ، لا الذي بعده يليه ، ثم الثاني من ذلك العدد ، كذلك ، حتى تأتي على جميع الاستثناءات .

                مثاله : في قولنا : له علي عشرة إلا عشرة إلا أربعة إلا واحدا ، أن تأخذ العشرة والأربعة ; فهما شفعان مثبتان ، وذلك أربعة عشر ، وتأخذ العشرة الثانية والواحد ، وهما منفيان ، وذلك أحد عشر ; فتلقيها من الأربعة عشر ، يبقى ثلاثة كما سبق .

                ولو اعتبرته هاهنا بالشفع والوتر ، لم يصح إذ ليس معك وتر إلا الواحد ، والشفع أربعة وعشرون ، تلقي منها الواحد ، يبقى ثلاثة وعشرون ، وليس ذلك بالحق ، وإنما جاء ذلك من الاستثناء المستغرق لأنه شفع بعد شفع ، وكذا لو كان وترا بعد وتر ، نحو : تسعة إلا تسعة إلا أربعة إلا واحدا ; فبطريق النفي والإثبات ، تأخذ التسعة الأولى والأربعة ، وذلك ثلاثة عشر ، والتسعة الثانية والواحد ، وذلك عشرة ، تلقيها من ثلاثة عشر يبقى ثلاثة ، وبطريق الزوج والفرد تحتاج أن تلقي الأربعة من تسعة عشر ، يبقى خمسة عشر ، وليس بالصواب .

                فبالجملة طريق النفي والإثبات أعم ، وهي الأصل ، وطريق الزوج والفرد تصح لخصوص المادة غالبا ، بشرط أن لا يكون هناك استثناء مستغرق ; لأنه يكون استثناء مساويا لما قبله في الزوجية والفردية ; فيختل العمل .

                [ ص: 608 ] والطريق الثاني : أن تلقي آخر الاستثناءات مما قبله ، ثم الباقي منه مما قبله كذلك إلى أن تصل إلى المستثنى منه أولا ; فما بقي ; فهو الجواب .

                ولنضرب لذلك أمثلة ، ونستخرجها بالطريقين تحصيلا لضرب من الدربة : فمنها : لو قال : له علي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحدا ; فبطريق النفي والإثبات ، أو الزوج والفرد ، تأخذ العشرة والثمانية والستة والأربعة والاثنين ، وهي الأعداد الشفع المثبتة ، وجملتها ثلاثون ، وتأخذ التسعة والسبعة والخمسة والثلاثة والواحد ، وهي الأعداد الوتر المنفية ، وجملتها خمسة وعشرون ، تلقيها من الثلاثين ، يبقى خمسة وهو الجواب .

                وبطريق الترقي من آخر الاستثناءات إلى أولها ; تلقي الواحد من الاثنين ، يبقى واحد ، تلقيه من الثلاثة قبله يبقى اثنان ، تلقيهما من الأربعة قبلهما ، يبقى اثنان ، تلقيهما من الخمسة ، يبقى ثلاثة ، تلقيها من الستة ، تبقى ثلاثة ، تلقيها من السبعة ، يبقى أربعة ، تلقيها من الثمانية ، يبقى أربعة ، تلقيها من التسعة ، يبقى خمسة ، تلقيها من العشرة ، يبقى خمسة ، كالجواب بالطريق الأول .

                [ ص: 609 ] ومنها : لو قال : له علي عشرة إلا سبعة إلا أربعة إلا واحدا ; فبطريق الإثبات والنفي ، خذ العشرة والأربعة تكن أربعة عشر ، وخذ السبعة والواحد تكن ثمانية ، أسقطها من أربعة عشر ، يبق ستة .

                وبالطريق الآخر : أسقط الواحد من الأربعة قبله ، يبق ثلاثة ، أسقطها من السبعة قبلها ، يبق أربعة ، أسقطها من العشرة ، يبق ستة ، كالجواب الأول .

                ومنها : لو قال : له علي عشرة إلا ثمانية إلا خمسة إلا ثلاثة إلا واحدا ; فبطريق الإثبات والنفي خذ العشرة والخمسة والواحد تكن ستة عشر ، وخذ الثمانية والثلاثة تكن أحد عشر ، أسقطها من ستة عشر ، يبق خمسة .

                وبالطريق الآخر : أسقط الواحد من الثلاثة قبله ، يبق اثنان ، أسقطهما من الخمسة ، يبق ثلاثة أسقطها من الثمانية ، يبق خمسة ، أسقطها من العشرة ، يبق خمسة ، كالجواب الأول .

                ومنها : لو قال : له علي عشرة إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا اثنين إلا واحدا ; فبطريق الإثبات والنفي ، اجمع العشرة والستة والأربعة والواحد يكن إحدى وعشرين ، واجمع السبعة والخمسة والاثنين يكن أربعة عشر ، أسقطها من أحد وعشرين ، يبق سبعة .

                وبالطريق الآخر : ألق واحدا من اثنين ، يبق واحدا ، ألقه من الأربعة قبله ، يبق ثلاثة ، ألقها من الخمسة قبلها ، يبق اثنان ، ألقهما من الستة ، يبق [ ص: 610 ] أربعة ، ألقها من السبعة ، يبق ثلاثة ، ألقها من العشرة ، يبق سبعة كالجواب الأول ، وعلى هذا قياس الباب .

                الفرع الثالث : إذا قال : أنت طالق واحدة إلا واحدة ، أو اثنتين إلا اثنتين ، أو ثلاثا إلا ثلاثا ; فهو استثناء مستغرق باطل . وإن قال : طلقتين إلا طلقة ، خرج على استثناء النصف ، وإن قال : ثلاثا إلا اثنتين ، خرج على استثناء الأكثر ، وإن قال : طلقة إلا نصف طلقة ، أو ثلاثا إلا طلقة ونصفا ، احتمل أن يخرج على استثناء النصف ، واحتمل أن يقع في الأولى واحدة ، وفي الثانية اثنتان ; لأن الطلاق لا يتبعض في إيقاعه ولا في رفعه .

                وإن قال : أنت طالق خمسا إلا ثلاثة ; فهل تطلق ثلاثا أو اثنتين ؟ على وجهين ، أصلهما أنه إذا أوقع من الطلاق أكثر مما يملك واستثنى منه ; فهل يرجع الاستثناء إلى ما يملكه ; فيكون هاهنا مستغرقا باطلا ; فتقع الثلاث ، أو إلى ما أوقعه وهو هاهنا خمس استثنى منها ثلاثا يبقى اثنتان ؟ وعلى هذا ، لو قال : أربع إلا واحدة ، هل يقع ثلاث أو اثنتان ، ولو قال : أربع إلا ثلاثا ، هل يقع واحدة أو ثلاث ؟ والأشبه رجوع الاستثناء إلى ما يملكه فقط ; لأن ما زاد عليه لا يملك إيقاعه ، وصحة الاستثناء متفرع على صحة الإيقاع ، والنزاع هاهنا مبني على ملاحظة الحكم تارة واللفظ أخرى ، والله أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية