الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 92 ] كتاب التيمم

                                                                                                                                                                        وفيه ثلاثة أبواب .

                                                                                                                                                                        الأول : فيما يبيحه . وإنما يباح بالعجز عن استعمال الماء بتعذره ، أو بعسره ، لخوف ضرر ظاهر . وأسباب العجز سبعة .

                                                                                                                                                                        أحدها : فقد الماء . وللمسافر فيه أربعة أحوال .

                                                                                                                                                                        أحدها : أن يتيقن عدم الماء حوله ، كبعض رمال البوادي ، فيتيمم ولا يحتاج إلى طلب الماء على الأصح .

                                                                                                                                                                        الثاني : أن يجوز وجوده تجويزا بعيدا ، أو قريبا ، فيجب تقديم الطلب قطعا . ويشترط في الطلب أن يكون بعد دخول وقت الصلاة . وله أن يطلب بنفسه ، ويكفيه طلب من أذن له على الصحيح ، ولا يكفيه طلب من لم يأذن له قطعا . والطلب : أن يفتش رحله ، فإذا لم يجد ، نظر يمينا ، وشمالا ، وقداما ، وخلفا ، إن استوى موضعه ، ويخص مواضع الخضرة ، واجتماع الطير بمزيد احتياط . وإن لم يستو الموضع ، نظر ، إن خاف على نفسه ، أو ماله ، لو تردد ، لم يجب التردد ، وإن لم يخف ، وجب التردد إلى حد يلحقه غوث الرفاق مع ما هم عليه من التشاغل بشغلهم ، والتفاوض في أقوالهم . ويختلف ذلك باستواء الأرض واختلافها صعودا وهبوطا ، فإن كان معه رفقة ، وجب سؤالهم إلى أن يستوعبهم ، أو يضيق الوقت [ ص: 93 ] فلا يبقى إلا ما يسع تلك الصلاة في الأصح . وفي وجه : إلى أن يبقى ما يسع ركعة . وفي وجه : يستوعبهم وإن خرج الوقت .

                                                                                                                                                                        قلت : قال أصحابنا : ولا يجب أن يطلب من كل واحد من الرفقة بعينه ، بل ينادي فيهم : من معه ماء ؟ من يجود بالماء ؟ ونحوه . حتى قال البغوي وغيره : لو قلت الرفقة ، لم يطلب من كل واحد بعينه ، ولو بعث النازلون ثقة يطلب لهم ، كفاهم كلهم . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ومتى عرف معهم ماء ، وجب استيهابه على الأصح . هذا كله إذا لم يسبق منه تيمم وطلب . فإن سبق ، نظر ، إن جرى أمر يحتمل بسببه حصول ماء ، بأن انتقل من موضعه ، أو طلع ركب ، أو سحابة ، وجب الطلب أيضا . لكن كل موضع تيقن بالطلب أن لا ماء فيه ، ولم يحتمل حدوثه فيه ، لم يجب الطلب منه على المذهب . وإن لم يجر الأمر المذكور ، نظر ، فإن كان تيقن عدم الماء ، لم يجب على الأصح ، وإن كان ظنه ، وجب على الأصح ، لكنه أخف طلبا من الأول . وسواء في هذا كله تخلل بين التيممين زمن طويل ، أو قصير ، أو لم يتخلل .

                                                                                                                                                                        الحالة الثالثة : أن يتيقن وجود الماء حواليه . وله ثلاث مراتب .

                                                                                                                                                                        الأولى : أن يكون على مسافة ينتشر إليها النازلون للحطب والحشيش والرعي ، فيجب السعي إليه ، ولا يجوز التيمم . وهذا فوق حد الغوث الذي يقصده عند التوهم .

                                                                                                                                                                        قال محمد بن يحيى : لعله يقرب من نصف فرسخ .

                                                                                                                                                                        المرتبة الثانية : أن يكون بعيدا ، بحيث لو سعى إليه فاته فرض الوقت ، فيتيمم على المذهب ، بخلاف ما لو كان واجدا للماء ، وخاف فوت الوقت لو توضأ ، فإنه لا يجوز التيمم على المذهب . وفي ( التهذيب ) وجه شاذ : أنه يتيمم ويصلي في الوقت ، ثم يتوضأ ويعيد ، وليس بشيء . ثم الأشبه بكلام الأئمة ، أن الاعتبار [ ص: 94 ] في هذه المسافة من أول وقت الصلاة الحاضرة لو كان نازلا في ذلك الموضع . ولا بأس باختلاف المواقيت في الطول والقصر ، ولا باختلاف المسافة في السهولة والصعوبة . فإن كان التيمم لفائتة أو نافلة ، اعتبر بوقت الفريضة الحاضرة ، وعلى هذا لو انتهى إلى المنزل في آخر الوقت ، والماء في حد القرب ، وجب قصده والوضوء وإن فات الوقت ، كما لو كان الماء في رحله ، فإنه يتوضأ وإن فات الوقت .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الذي ذكره الإمام الرافعي ، ونقله عن مقتضى كلام الأصحاب ، من اعتبار أول الوقت ليس كما قاله ، بل الظاهر من عباراتهم : أن الاعتبار بوقت الطلب . هذا هو المفهوم من كتبهم المشهورة والمهجورة ، وهو ظاهر نص الشافعي - رحمه الله - في ( الأم ) وغيره ، فإن عبارته وعبارتهم : وإن دل على ماء ، ولم يخف فوت الوقت ، ولا ضررا ، لزمه طلبه . هذا نصه ونصهم ، وهو صريح ، أو كالصريح فيما قلته ، وقد تتبعت ذلك وأتقنته . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        المرتبة الثالثة : أن يكون بين المرتبتين ، فيزيد على ما ينتشر إليه النازلون ، ويقصر عن خروج الوقت . فهل يجب قصده ، أم يجوز التيمم ؟ نص الشافعي - رحمه الله - ، أنه إن كان على يمين المنزل أو يساره ، وجب . وإن كان صوب مقصده ، لم يجب ، فقيل بظاهر النصين ، وقيل : فيهما قولان . والمذهب جواز التيمم وإن علم وصوله إلى الماء في آخر الوقت . وإذا جاز ذلك للسائر إلى جهة الماء ، فالنازل الذي عن يمينه أو يساره أولى . والسائر وهو على يمينه أو يساره أولى ، هذا في المسافر . أما المقيم ، فلا يجوز له التيمم وإن خاف فوت الوقت لو سعى إلى الماء ، لأنه لا بد له من القضاء . ثم إذا قلنا في المسافر بالمذهب : وهو جواز التيمم مطلقا ، فإن تيقن وجود الماء آخر الوقت ، فالأفضل تأخير الصلاة ليؤديها بالوضوء . وفي ( التتمة ) وجه شاذ : أن تقديمها بالتيمم أفضل ، لفضيلة أول الوقت . وإن لم يتيقن الماء ، ولكن رجا ، فقولان . أظهرهما : التقديم أفضل . وموضع القولين إذا اقتصر على صلاة واحدة . أما إذا صلى بالتيمم أول الوقت ، [ ص: 95 ] وبالوضوء مرة أخرى آخره ، فهو النهاية في إحراز الفضيلة . وإن ظن عدم الماء ، أو تساوى احتمال وجوده وعدمه ، فالتقديم أفضل قطعا . وربما وقع في كلام بعضهم نقل القولين ، فيما إذا لم يظن الوجود . ولا وثوق بهذا النقل .

                                                                                                                                                                        قلت : قد صرح الشيخ أبو حامد ، وصاحب ( الحاوي ) و ( المحاملي ) وآخرون بجريان القولين فيما إذا تساوى الاحتمال . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        أما تعجيل المتوضئ وغيره الصلاة في أول الوقت منفردا ، وتأخيرها لانتظار الجماعة ، ففيه ثلاثة طرق . قيل : التقديم أفضل ، وقيل : التأخير ، وقيل : وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : قطع معظم العراقيين ، بأن التأخير للجماعة أفضل . ومعظم الخراسانيين ، بأن التقديم منفردا أفضل . وقال جماعة : هو كالتيمم . فإن تيقن الجماعة آخر الوقت ، فالتأخير أفضل . وإن ظن عدمها ، فالتقديم أفضل . وإن رجاها ، فقولان . وينبغي أن يتوسط فيقال : إن فحش التأخير ، فالتقديم أفضل . وإن خف ، فالتأخير أفضل . وموضع الخلاف ، إذا اقتصر على صلاة . فأما إذا صلى أول الوقت منفردا ، وآخره مع الجماعة ، فهو النهاية في الفضيلة ، وقد جاء به الحديث ، في صحيح مسلم ) وغيره .

                                                                                                                                                                        قال صاحب ( البيان ) : قال أصحابنا : والقولان في التيمم ، يجريان في مريض عجز عن القيام ، ورجاه آخر الوقت ، أو رجا العريان السترة آخره ، هل الأفضل تقديم الصلاة على حالهما ، أم التأخير ؟ قال : ولا يترك الترخص بالقصر في السفر . وإن علم إقامته آخر الوقت بلا خلاف . قال : قال صاحب ( الفروع ) : إن خاف فوت الجماعة لو أكمل الوضوء ، فإدراكها أولى من الانحباس ، لإكماله . وفي هذا نظر . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 96 ] الحالة الرابعة : أن يكون الماء حاضرا ، بأن يزدحم مسافرون على بئر لا يمكن أن يستقي منها إلا واحد بعد واحد ، لضيق الموقف ، أو اتحاد الآلة ، فإن توقع حصول نوبته قبل خروج الوقت ، لم يجز التيمم . وإن علم أنها لا تحصل إلا بعد الوقت ، فنص الشافعي - رحمه الله - ، أنه يجب الصبر ليتوضأ . ونص في عراة معهم ثوب واحد يتناوبونه ، أنه يصبر ليستر عورته ، ويصلي بعد الوقت . ونص في جماعة في موضع ضيق لا يمكن أن يصلي فيه قائما إلا واحد ، أنه يصلي في الوقت قاعدا ، إذا علم أن نوبته لا تحصل إلا بعد الوقت . وهذا يخالف النصين في المسألتين السابقتين ، فالأصح ما قاله أبو زيد وغيره : أن في الجميع قولين . أحدهما : يصلي في الوقت بالتيمم ، وعاريا ، وقاعدا ، لحرمة الوقت . والثاني : يصبر ، للقدرة . والطريق الثاني : تقرير النصين ، فيصبر للوضوء واللبس ، دون القيام ، لسهولة أمره .

                                                                                                                                                                        وقال كثيرون : لا نص في مسألة البئر ، ونص في الأخريين على ما سبق ، وألحقوا الوضوء بالقيام لحصول بدلهما . فقالوا : يتيمم في الوقت ويصلي . وأجرى إمام الحرمين ، والغزالي هذا الخلاف فيما إذا لاح للمسافر الماء ، ولا عائق دونه ، ولكن ضاق الوقت ، وعلم أنه لو اشتغل به ، فاته الوقت . وهذا يقتضي إثبات الخلاف في المرتبة الثانية ، من الحالة الثالثة ، وقد أشرنا إليه هناك .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح من الطريقين إجراء القولين في الجميع . وأظهرهما : يصلي في الوقت بالتيمم ، وعاريا ، وقاعدا ، ولا إعادة على المذهب . وفي ( التهذيب ) في وجوب الإعادة ، قولان . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        إذا وجد الجنب ، أو المحدث ما لا يكفيه لطهارته ، وجب استعماله على الأظهر ، ثم يجب التيمم بعده للباقي ، فيغسل المحدث وجهه ، ثم يديه على الترتيب ، ويغسل الجنب من جسده ما شاء . والأولى : أعضاء الوضوء . فإن كان محدثا [ ص: 97 ] جنبا ، ووجد ما يكفي الوضوء وحده ، فإن قلنا بالمذهب : أنه يدخل الأصغر في الأكبر ، فهو كالجنب المحض . وإن قلنا : لا يدخل ، توضأ به عن الأصغر ، وتيمم عن الجنابة ، يقدم أيهما شاء . هذا كله إذا صلح الموجود للغسل ، فإن لم يجد المحدث إلا ثلجا ، أو بردا لا يقدر على إذابته ، لم يجب استعماله على المذهب . وقيل : فيه القولان . فإن أوجبنا ، تيمم عن الوجه واليدين ، ثم مسح به الرأس ، ثم تيمم للرجلين . هذا كله إذا وجد ترابا . فإن لم يجده ، وجب استعمال الناقص على المذهب . وقيل : فيه القولان .

                                                                                                                                                                        قلت : ولو لم يجد إلا ترابا لا يكفيه للوجه واليدين ، وجب استعماله على المذهب . وقيل : فيه القولان . ولو لم يجد ماء ، ووجد ما يشتري به بعض ما يكفيه من الماء ، ففي وجوبه القولان . فإن لم يجد ماء ، ولا ترابا ، ففي وجوب شراء بعض ما يكفي من الماء الطريقان . ولو تيمم ، ثم رأى ما لا يكفيه ، فإن احتمل عنده أنه يكفيه ، بطل تيممه ، وإن علم بمجرد رؤيته ، أنه لا يكفيه ، فعلى القولين في استعماله . إن أوجبناه ، بطل . وإلا فلا . ولو كان عليه نجاسات ، ووجد ما يغسل بعضها ، وجب على المذهب ، ولو كان جنبا ، أو محدثا ، أو حائضا ، وعلى بدنه نجاسة ، ووجد ما يكفي أحدهما ، تعين للنجاسة ، فيغسلها ثم يتيمم . فلو تيمم ثم غسلها ، جاز على الأصح ، وبقيت لهذه المسألة فروع ، استقصيتها في شرحي ( المهذب ) و ( التنبيه ) . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية