الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب طلاق الثلاث

                                                                                                                1472 حدثنا إسحق بن إبراهيم ومحمد بن رافع واللفظ لابن رافع قال إسحق أخبرنا وقال ابن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم [ ص: 57 ]

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                [ ص: 57 ] قوله : ( عن ابن عباس قال : كان طلاق الثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم ) وفي رواية عن أبي الصهباء ( أنه قال لابن عباس أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر ؟ فقال ابن عباس نعم ) وفي رواية ( أن أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة ؟ فقال : قد كان ذاك فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم ) وفي سنن أبي داود ( عن أبي الصهباء عن ابن عباس نحو هذا إلا أنه قال : كان الرجل إذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها جعلوه واحدة ) هذه ألفاظ هذا الحديث وهو معدود من الأحاديث المشكلة .

                                                                                                                وقد اختلف العلماء فيمن قال لامرأته أنت طالق ثلاثا فقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد وجماهير العلماء من السلف والخلف : يقع الثلاث . وقال طاوس وبعض أهل الظاهر : لا يقع بذلك إلا واحدة . وهو رواية عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق والمشهور عن الحجاج بن أرطأة أنه لا يقع به شيء ، وهو قول ابن مقاتل ورواية عن محمد بن إسحاق .

                                                                                                                واحتج هؤلاء بحديث ابن عباس هذا ، وبأنه وقع في بعض روايات حديث ابن عمر أنه طلق امرأته ثلاثا في الحيض ولم يحتسب به ، وبأنه وقع في حديث ركانة أنه طلق امرأته ثلاثا وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها .

                                                                                                                واحتج الجمهور بقوله تعالى : ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا قالوا : معناه أن المطلق قد يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه لوقوع البينونة ، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه هذا إلا رجعيا فلا يندم . واحتجوا أيضا بحديث ركانة أنه طلق امرأته ألبتة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : الله ما أردت إلا واحدة ؟ قال : الله ما أردت إلا واحدة . فهذا دليل على أنه لو أراد الثلاث لوقعن وإلا فلم يكن لتحليفه معنى .

                                                                                                                وأما الرواية التي رواها المخالفون ، أن ركانة طلق ثلاثا فجعلها واحدة ، فرواية ضعيفة عن قوم مجهولين . وإنما الصحيح منها ما قدمناه أنه طلقها ألبتة ولفظ ( ألبتة ) محتمل للواحدة وللثلاث ولعل صاحب هذه الرواية الضعيفة اعتقد أن لفظ ( ألبتة ) يقتضي الثلاث فرواه بالمعنى [ ص: 58 ] الذي فهمه وغلط في ذلك .

                                                                                                                وأما حديث ابن عمر فالروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره أنه طلقها واحدة .

                                                                                                                وأما حديث ابن عباس فاختلف العلماء في جوابه وتأويله ، فالأصح أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال لها : أنت طالق أنت طالق أنت طالق ، ولم ينو تأكيدا ولا استئنافا يحكم بوقوع طلقة لقلة إرادتهم الاستئناف بذلك فحمل على الغالب الذي هو إرادة التأكيد ، فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه وكثر استعمال الناس بهذه الصيغة وغلب منهم إرادة الاستئناف بها حملت عند الإطلاق على الثلاث عملا بالغالب السابق إلى الفهم منها في ذلك العصر .

                                                                                                                وقيل المراد أن المعتاد في الزمن الأول كان طلقة واحدة وصار الناس في زمن عمر يوقعون الثلاث دفعة فنفذه عمر ، فعلى هذا يكون إخبارا عن اختلاف عادة الناس ، لا عن تغير حكم في مسألة واحدة .

                                                                                                                قال المازري : وقد زعم من لا خبرة له بالحقائق : أن ذلك كان ثم نسخ . قال : وهذا غلط فاحش لأن عمر رضي الله عنه لا ينسخ ولو نسخ وحاشاه لبادرت الصحابة إلى إنكاره ، وإن أراد هذا القائل أنه نسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فذلك غير ممتنع ، ولكن يخرج عن ظاهر الحديث . لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر ببقاء الحكم في خلافة أبي بكر وبعض خلافة عمر .

                                                                                                                فإن قيل فقد يجمع الصحابة على النسخ فيقبل ذلك منهم . قلنا : إنما يقبل ذلك لأنه يستدل بإجماعهم على ناسخ ، وأما أنهم ينسخون من تلقاء أنفسهم فمعاذ الله لأنه إجماع على الخطأ وهم معصومون من ذلك .

                                                                                                                فإن قيل : فلعل النسخ إنما ظهر لهم في زمن عمر . قلنا : هذا غلط أيضا ، لأنه يكون قد حصل الإجماع على الخطأ في زمن أبي بكر ، والمحققون من الأصوليين لا يشترطون انقراض العصر في صحة الإجماع ، والله أعلم .

                                                                                                                وأما الرواية التي في سنن أبي داود أن ذلك فيمن لم يدخل بها ، فقال بها قوم من أصحاب ابن عباس فقالوا : لا يقع الثلاث على غير المدخول بها ، لأنها تبين بواحدة بقوله : أنت طالق فيكون قوله ثلاثا حاصل بعد البينونة فلا يقع به شيء . وقال الجمهور : هذا غلط بل يقع عليها الثلاث ، لأن قوله : ( أنت طالق ) معناه ذات طلاق . وهذا اللفظ يصلح للواحدة والعدد ، وقوله بعده ( ثلاثا ) تفسير له .

                                                                                                                وأما هذه الرواية التي لأبي داود فضعيفة ، رواها أيوب [ ص: 59 ] السختياني عن قوم مجهولين عن طاوس عن ابن عباس فلا يحتج بها ، والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( كانت لهم فيه أناة ) هو بفتح الهمزة أي مهلة وبقية استمتاع لانتظار المراجعة .




                                                                                                                الخدمات العلمية