الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 639 ] وإن اتحدا حكما لا سببا ، كرقبة مؤمنة في كفارة القتل ، ورقبة مطلقة في الظهار ، فكذلك عند القاضي ، والمالكية . وبعض الشافعية ، وخالف بعضهم وأكثر الحنفية ، وأبو إسحاق بن شاقلا .

                وقال أبو الخطاب : إن عضده قياس ، حمل عليه كتخصيص العام بالقياس ، وإلا فلا ، ولعله أولى .

                النافي : لعل إطلاق الشارع وتقييده لتفاوت الحكمين في الرتبة عنده ; فتسويتنا بينهما عكس مقصوده .

                المثبت : عادة العرب الإطلاق في موضع والتقييد في آخر .

                وقد علم من الشرع بناء قواعده بعضها على بعض من تخصيص العام وتبيين المجمل ; فكذا هاهنا .

                ولأنه قد قيد : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) [ البقرة : 282 ] ، بـ ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) [ الطلاق : 2 ] ، فإن اختلف الحكم ; فلا حمل ، كتقييد الصوم بالتتابع ، وإطلاق الإطعام ، إذ شرط الإلحاق اتحاده . ومتى اجتمع مطلق ، ومقيدان متضادان ، حمل على أشبههما به .

                التالي السابق


                قوله : " وإن اتحدا حكما لا سببا " ، هذا هو القسم الثاني من أقسام المطلق والمقيد ، وهو أن يختلف سببهما ويتحد حكمهما ، كعتق رقبة مؤمنة في كفارة القتل ، وعتق رقبة مطلقة في كفارة الظهار ، كما ورد في الآيتين : ( فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ) [ النساء : 92 ] ، ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) [ المجادلة : 3 ] ، فسببهما مختلف وهو الظهار والقتل ، وحكمهما متحد ، وهو عتق الرقبة ; فحكمه كذلك ، أي : [ ص: 640 ] يحمل المطلق على المقيد " عند القاضي ، والمالكية ، وبعض الشافعية . وخالف بعضهم " ، أي : بعض الشافعية ، " وأكثر الحنفية ، وأبو إسحاق بن شاقلا " من أصحابنا ; فقالوا : لا يحمل المطلق على المقيد هاهنا ، وقد روي عن أحمد رحمه الله ما يدل على هذا أيضا .

                " وقال أبو الخطاب : إن عضده قياس ، حمل عليه ، كتخصيص العام بالقياس " .

                معنى هذا الكلام أن يحمل المطلق على المقيد ، إن وافقه قياس دل عليه ، قياسا على تخصيص العام بالقياس الخاص ، كما سبق ، وإن لم يوافقه قياس ، لم يحمل المطلق على المقيد .

                قلت : هذا الذي فهمت من كلام الشيخ أبي محمد ، وكلامه في ذلك مضطرب ; لأنه قال : وقال أبو الخطاب : يبنى عليه ، أي : يبنى المطلق على المقيد من جهة القياس ; لأن تقييد المطلق كتخصيص العموم ، وذلك جائز بالقياس الخاص .

                قلت : فتعليله في آخر هذا الكلام ، يدل على ما قلت ، وفهمت من كلامه ، وهو أن حمل المطلق على المقيد هاهنا يحتاج إلى قياس عاضد ، موافق له ، كما أن تخصيص العام يحتاج إلى قياس مخصص ، لكن صدر كلامه وهو قوله : يبنى المطلق على المقيد من جهة القياس ، يحتمل ما فهمته من كلامه ، و يحتمل أن المطلق يحمل على المقيد بطريق القياس ، وهو قياس صورة الإطلاق ، على صورة التقييد ، بجامع القدر المشترك بينهما ، من اتحاد [ ص: 641 ] الحكم ، لا من جهة أن المتكلم أراد بالإطلاق ما دل عليه التقييد .

                قلت : وعلى هذين الاحتمالين يترتب في الحكم خلاف ; لأن بتقدير الاحتمال الأول ، إن وجد قياس يدل على حمل المطلق على المقيد حمل ، وإلا فلا ; فحمله عليه في حال من حالين ، وعلى تقدير من تقديرين .

                وعلى الاحتمال الثاني يحمل عليه ولا بد ، لكن مستند الحمل عليه هل هو القياس أو قيام الدليل على إرادة المتكلم بمطلق كلامه مقيدة ; فافهم هذا .

                - قوله : " ولعله أولى " ، أي : قول أبي الخطاب ، إن عضده قياس ، حمل عليه ، وإلا فلا ، يقرب أن يكون أولى من الخلاف المرسل ، بالنفي والإثبات المطلق ، وذلك لأن من أثبت حمل المطلق على المقيد ، نظر إلى اتحاد الحكم ، ومن نفاه ، نظر إلى اختلاف السبب ، وكلا النظرين ليس كافيا في مستند الحمل وعدمه ، فإذا وجد قياس موافق لحمل المطلق على المقيد ، قوي مستنده ; فصلح أن يثبت به ، وإن لم يوجد قياس موافق له ، لم يحمل عليه ، استصحابا للحال في ذلك ، إذ الأصل عدم جوازه .

                [ ص: 642 ] - قوله : " النافي " لحمل المطلق على المقيد ، إذا اختلف سببهما ، أي : احتج النافي بأن قال : " لعل إطلاق الشارع " الحكم في موضع ، " وتقييده " في آخر ، " لتفاوت الحكمين في الرتبة عنده " مثل أن يعلم أن المعصية في الظهار أخف منها في القتل ; فلذلك لم يقيد فيه الرقبة بالإيمان ، تغليظا على المكلف في الأغلظ ، وتخفيفا عنه في الأخف ، مناسبة منه وعدلا ; " فتسويتنا بينهما " ، بحمل المطلق على المقيد ، عكس مقصود الشارع إظهار تفاوت الحكمين ، وإن احتمل وجود المانع من الحمل وعدمه . والأصل عدم جوازه ، وجب أن يستصحب فيه حال عدم الجواز ، ولا يقدم على ما يحتمل الإفضاء إلى عكس مقصود الشارع .

                - قوله : " المثبت " ، أي : احتج المثبت لحمل المطلق على المقيد ، بوجوه :

                - أحدها : أن عادة العرب في لغتها إطلاق الكلام في موضع ، وتقييده في آخر ، والقرآن والسنة واردان بلغة العرب ; فيحمل أمرهما على عادة العرب في لغتها ، ويحمل المطلق منهما على المقيد .

                الوجه الثاني : أنه " قد علم من الشرع بناء قواعده بعضها على بعض " ، كتخصيص العام بالخاص ، وتبيين المجمل بالمبين " فكذا هاهنا " ، يحمل المطلق على المقيد ; لأنه منه ، أي : لأن المطلق من قبيل المجمل ، لاحتماله أمرين فأكثر ، كالرقبة التي تحتمل الإيمان والكفر ; فتحمل على المقيد ; لأنه كالمبين بل هو مبين على التحقيق ، بما اختص به من التقييد ، أو يكون معنى قوله : لأنه منه ، أن المطلق والمقيد من جملة قواعد الشرع ، التي ينبغي بناء [ ص: 643 ] بعضها على بعض . وقد شذ عني الآن ما أردت به عند الاختصار ، لكن المراد به لا يخرج عن المعنيين المذكورين .

                الوجه الثالث : أن حمل المطلق على المقيد قد وقع في الشرع ، واتفقنا على وجوبه ، حيث قيدنا مطلق قوله تعالى في المداينة : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) [ البقرة : 282 ] ، بقوله تعالى في المراجعة : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) [ الطلاق : 2 ] ، وحيث وجب في هذه الصورة ; فليجب في نظائرها ، إذ حكم الأمثال واحد .

                قلت : مأخذ الخلاف هاهنا : أن إطلاق المتكلم في موضع ، وتقييده في آخر ، هل هو ظاهر في إرادته تقييد المطلق ، بناء على ما ذكر من قاعدة أهل اللغة ، وأنهم يطلقون في موضع اتكالا على ما قيدوه في غيره ، أو هو ظاهر في عدم إرادته التقييد ، بناء على أنه لو أراد التقييد ، لقيد ، وهو استدلال يقرب من دلالة مفهوم المخالفة ; لأن القائل يقول : لما قيد الرقبة في القتل ، دون الظهار ، دل على أنه لم يشترط فيها الإيمان ، وإلا لقيد فيها ، كما قيد في القتل . وهو في الحقيقة استدلال بالسكوت عن تقييد المطلق ، وفيه ما فيه ، والبحث متقابل من الطرفين .



                قوله : " فإن اختلف الحكم ; فلا حمل " ، إلى آخره .

                هذا هو القسم الثالث من أقسام حمل المطلق على المقيد ، وهو أن [ ص: 644 ] يختلف حكمهما ; فلا يحمل أحدهما على الآخر ، سواء اتفق سببهما ، أو اختلف ، كتقييد الصوم بالتتابع في كفارة اليمين ، وإطلاق الإطعام فيها ، فإن سببهما واحد وهو كفارة اليمين ، و حكمهما مختلف ، وهو الصوم والإطعام .

                ومثال اختلاف السبب والحكم تقييد الصوم بالتتابع في كفارة اليمين ، وإطلاق الإطعام في كفارة الظهار ، أو فدية الصوم ; فلا يحمل أحدهما على الآخر ; لأن شرط إلحاق أحدهما بالآخر اتحاده ، أي : اتحاد الحكم ، وهو هاهنا مختلف ; فينتفي الإلحاق لانتفاء شرطه .

                وإنما قلنا : إن شرط الإلحاق اتحاد الحكم ; لأن المطلق والمقيد لما كان حكمهما بالنظر إلى كل منهما بانفراده مختلفا ، كان فائدة حمل أحدهما على الآخر اتحاد الحكم ، والتخلص من تعدده وتعارضه ، اللذين هما على خلاف الأصل ، وإذا كان حكمهما مختلفا بالنص ، انتفت الفائدة المذكورة ; فامتنع الإلحاق .

                وقد بان بقولنا : إن الحكم إذا اختلف ، امتنع الإلحاق ، سواء اتفق السبب أو اختلف ، أن أقسام حمل المطلق على المقيد أربعة ; لأن السبب والحكم ; إما أن يتفقا أو يختلفا ، أو يتفق الحكم ويختلف السبب ، أو يختلف الحكم ويتفق السبب ، وقد بانت أمثلتها ، وهذه أصح وأضبط من القسمة المذكورة قبل ، وإن كان الموجب لها أن ظاهر الأقسام في " المختصر " ثلاثة ، وإن كان الثالث ، وهو ما إذا اختلف الحكم ، يتضمن الرابع بتقدير اتفاق السبب واختلافه ; فاعلم ذلك .



                [ ص: 645 ] قوله : " ومتى اجتمع مطلق ومقيدان متضادان ، حمل " ، يعني المطلق " على أشبههما به " ، يعني يحمل على ما هو أشبه به من المقيدين المتضادين ، وهذا تفريع على القول بحمل المطلق على المقيد ، في صورة يتجه فيها ذلك ، كما إذا اتفق الحكم والسبب ، أو الحكم وحده ، وذلك لأنا : إما أن نحمله عليهما جميعا ; فيلزم التضاد ، كالصوم ، هو في كفارة الظهار مقيد بالتتابع ، وفي متعة الحج مقيد بالتفريق ; فلو حملنا الصوم في كفارة اليمين عليهما ، وهو مطلق ، لزم أن يجب فيه التتابع والتفريق معا ، وهو محال ، أو لا نحمله على واحد منهما ; فتبطل قاعدة إلحاق المطلق بالمقيد ، والتقدير أن هذا تفريع عليه ، أو نحمله على أحدهما اعتباطا ، بحسب الاختيار ، من غير اجتهاد ; فيكون ترجيحا بلا مرجح .

                وإذا انتفت هذه الأقسام ، تعين ما قلناه ، وهو حمله على الأشبه به منهما ، بطريق النظر لا اجتهاد .

                ومثاله الأصح : أن غسل الأيدي في الوضوء ، ورد مقيدا بالمرافق ، وقطعها في السرقة مقيد بالكوع بالإجماع ، ومسحها في التيمم ورد مطلقا ; فهل يلحق بالقطع في تقييده بالكوع ، أو بالغسل في تقييده بالمرافق ؟ ولهذا خرج الخلاف فيه .

                أما تردد صوم كفارة اليمين بين صوم الظهار والحج ; فمثال ذكره الشيخ أبو محمد ، وفيه نظر ; لأن الصوم في كفارة اليمين ما ورد عن الشرع إلا مقيدا بالتتابع ، بناء على أن العمل بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " [ ص: 646 ] وأنها إما قرآن ، أو خبر ، كما سبق . نعم يصح تمثيل الشيخ أبي محمد به ، بناء على قول من لا يرى التتابع فيه ، وضرب الأمثلة في أصول الفقه لا يختص بمذهب ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




                الخدمات العلمية