الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        8 - الحديث الثامن : عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال { شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فدعا بتور من ماء ، فتوضأ لهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكفأ على يديه من التور ، فغسل يديه ثلاثا ، ثم أدخل يده في التور ، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات ، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا ، ثم أدخل يده في التور ، فغسلهما مرتين إلى المرفقين ثم أدخل يده في التور ، فمسح رأسه ، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ثم غسل رجليه وفي رواية بدأ بمقدم رأسه ، حتى ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه } . [ ص: 90 ]

                                        وفي رواية { أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر }

                                        التور : شبه الطست .

                                        التالي السابق


                                        عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني المدني : ثقة . روى له الجماعة . وكذلك أبوه ثقة ، اتفقوا عليه .

                                        فيه وجوه :

                                        أحدها عبد الله بن زيد هو زيد بن عاصم : وهو غير زيد بن عبد ربه .

                                        وهذا الحديث لعبد الله بن زيد بن عاصم ، لا لعبد الله بن زيد بن عبد ربه .

                                        وحديث الأذان ورؤيته في المنام لعبد الله بن زيد بن عبد ربه لا لعبد الله بن زيد بن عاصم . فليتنبه لذلك .

                                        فإنه مما يقع فيه الاشتباه والغلط .

                                        الثاني : قوله " فدعا بتور " التور : بالتاء المثناة : الطست . والطست - بكسر الطاء وبفتحها ، وبإسقاط التاء - لغات .

                                        الثالث : فيه دليل على جواز الوضوء من آنية الصفر .

                                        والطهارة جائزة من الأواني الطاهرة كلها ، إلا الذهب والفضة ، للحديث الصحيح الوارد في النهي عن الأكل والشرب فيهما .

                                        وقياس الوضوء على ذلك .



                                        الرابع : ما يتعلق بغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء : قد مر .

                                        وقوله " فمضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات " تعرض لكيفية المضمضة والاستنشاق بالنسبة إلى الفصل والجمع ، وعدد الغرفات . والفقهاء اختلفوا في ذلك فمنهم من اختار الجمع . ومنهم من اختار الفصل .

                                        والحديث يدل - والله أعلم - على أنه تمضمض واستنشق من غرفة ، ثم فعل كذلك مرة أخرى ، ثم فعل كذلك مرة أخرى .

                                        وهو محتمل من حيث اللفظ غير ذلك . وهو أن يفاوت بين العدد في المضمضة والاستنشاق ، مع اعتبار ثلاث غرفات ، إلا أنا لا نعلم قائلا به .

                                        مثال ذلك : أن يغرف غرفة ، فيتمضمض بها مرة مثلا . ثم يأخذ غرفة أخرى . فيتمضمض بها مرتين ، ثم يأخذ غرفة أخرى ، فيستنشق بها ثلاثا ، وغير ذلك من الصور التي تعطي هذا المعنى .

                                        فيصدق على هذا أنه : تمضمض ثلاثا ، واستنشق [ ص: 91 ] ثلاثا من ثلاث غرفات .



                                        الخامس : قوله " ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا " قد تقدم القول فيه . وقوله " ويديه إلى المرفقين مرتين " فيه دليل على جواز التكرار ثلاثا في بعض الأعضاء ، واثنتين في بعضها ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء مرة مرة ، ومرتين مرتين ، وثلاثا ثلاثا ، وبعضه ثلاثا ، وبعضه مرتين . وهو هذا الحديث .



                                        السادس : قوله " ثم أدخل يده في التور ، فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة " فيه دليل على التكرار في مسح الرأس ، مع التكرار في غيره ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة .

                                        وورد المسح في بعض الروايات مطلقا ، وفي بعضها مقيدا بمرة واحدة . وقوله " فأقبل بهما وأدبر " اختلف الفقهاء في كيفية الإقبال والإدبار ، على ثلاثة مذاهب .

                                        أحدها : أن يبدأ بمقدم الرأس الذي يلي الوجه ، ويذهب إلى القفا ، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه ، وهو مبدأ الشعر في حد الوجه ، وعلى هذا يدل ظاهر قوله " بدأ بمقدم رأسه ، حتى ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه " وهو مذهب مالك والشافعي . إلا أنه ورد على هذا الإطلاق - أعني إطلاق قوله " فأقبل بهما وأدبر " - إشكال من حيث إن هذه الصيغة تقتضي أنه أدبر بهما وأقبل ; لأن ذهابه إلى جهة القفا إدبار ، ورجوعه إلى جهة الوجه إقبال .

                                        فمن الناس من اعتقد أن هذه الصيغة المتقدمة التي دل عليها ظاهر الحديث المفسر وهو قوله " بدأ بمقدم رأسه . .. إلخ " .

                                        وأجاب عن هذا السؤال بأن " الواو " لا تقتضي الترتيب . فالتقدير : أدبر وأقبل . وعندي فيه جواب آخر ; وهو أن " الإقبال والإدبار " من الأمور الإضافية أعني : أنه ينسب إلى ما يقبل إليه ، ويدبر عنه ، فيمكنه حمله على هذا .

                                        ويحتمل أن يريد بالإقبال : الإقبال على الفعل لا غير ويضعفه قوله " وأدبر مرة واحدة " . ومن الناس من قال : يبدأ بمؤخر رأسه ويمر إلى جهة الوجه ، ثم يرجع إلى [ ص: 92 ] المؤخر ، محافظة على ظاهر قوله " أقبل وأدبر " وينسب الإقبال : إلى مقدم الوجه ، والإدبار : إلى ناحية المؤخر .

                                        وهذا يعارضه الحديث المفسر لكيفية الإقبال والإدبار . وإن كان يؤيده ما ورد في حديث الربيع { أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بمؤخر رأسه } فقد يحمل ذلك على حالة ، أو وقت .

                                        ولا يعارض ذلك الرواية الأخرى ، لما ذكرناه من التفسير . ومن الناس من قال : يبدأ بالناصية ، ويذهب إلى ناحية الوجه ، ثم يذهب إلى جهة مؤخر الرأس ثم يعود إلى ما بدأ منه ، وهو الناصية .

                                        وكأن هذا قد قصد المحافظة على قوله " بدأ بمقدم الرأس " [ مع المحافظة على ظاهر " أقبل وأدبر " ] فإنه إذا بدأ بالناصية صدق أنه بدأ بمقدم رأسه ، وصدق أنه أقبل أيضا .

                                        فإنه ذهب إلى ناحية الوجه ، وهو القبل . إلا أن قوله في الرواية المفسرة " بدأ بمقدم رأسه ، حتى ذهب بهما إلى قفاه " قد يعارض هذا .

                                        فإنه جعله بادئا بالمقدم إلى غاية الذهاب إلى قفاه . وهذه الصفة التي قالها هذا القائل - تقتضي أنه بدأ بمقدم رأسه ، غير ذاهب إلى قفاه ، بل إلى ناحية وجهه : وهو مقدم الرأس .

                                        ويمكن أن يقول هذا القائل - الذي اختار هذه الصفة الأخيرة - : إن البداءة بمقدم الرأس ممتد إلى غاية الذهاب إلى المؤخر ، وابتداء الذهاب من حيث الرجوع من منابت الشعر من ناحية الوجه إلى القفا . والحديث إنما جعل البداءة بمقدم الرأس ممتدا إلى غاية الذهاب إلى القفا ، لا إلى غاية الوصول إلى القفا وفرق بين الذهاب إلى القفا ، وبين الوصول إليه . فإذا جعل هذا القائل الذهاب إلى القفا من حيث الرجوع من مبتدأ الشعر من ناحية الوجه إلى جهة القفا : صح أنه ابتدأ بمقدم الرأس ممتدا إلى غاية الذهاب إلى جهة القفا .

                                        وقد تقدم ما يتعلق بغسل الرجلين والعدد فيهما ، أو عدم العدد . والرواية الأخيرة : مصرحة بالوضوء من الصفر .

                                        وهي رواية عبد العزيز بن أبي سلمة . وهي مصرحة بالحقيقة في قوله " تور من صفر " وفي الرواية الأولى مجاز ، أعني قوله " من تور من ماء " ويمكن أن يحمل الحديث على : من إناء [ ص: 93 ] ماء ، وما أشبه ذلك .




                                        الخدمات العلمية