الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 111 ] سورة قريش

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      آ. (1-2) قوله : لإيلاف قريش : في متعلق هذه اللام، أوجه، أحدها: أنه ما في السورة قبلها من قوله فجعلهم كعصف . قال الزمخشري : "وهذا بمنزلة التضمين في الشعر"، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به، وهما في مصحف أبي سورة واحدة بلا فصل. وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب وفي الأولى بسورة "والتين" انتهى. وإلى هذا ذهب أبو الحسن الأخفش، إلا أن الحوفي قال: "ورد هذا القول جماعة: بأنه لو كان كذا لكان "لإيلاف" بعض سورة "ألم تر". وفي إجماع الجميع على الفصل بينهما ما يدل على عدم ذلك".

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنه مضمر تقديره: فعلنا ذلك، أي: إهلاك أصحاب الفيل لإيلاف قريش. وقيل: تقديره اعجبوا. الثالث: أنه قوله "فليعبدوا" .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 112 ] وإنما دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط، أي: فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لإيلافهم فإنها أظهر نعمه عليهم، قاله الزمخشري وهو قول الخليل قبله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عامر "لإلاف" دون ياء قبل اللام الثانية، والباقون "لإيلاف" بياء قبلها، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني، وهو "إيلافهم" ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين أن القراء اختلفوا في سقوط الياء وثبوتها في الأول، مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطا، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها فيه خطا، فهو أدل دليل على أن القراء متبعون الأثر والرواية لا مجرد الخط.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قراءة ابن عامر ففيها وجهان، أحدهما: أنه مصدر لألف ثلاثيا يقال: ألفته إلافا، نحو: كتبته كتابا. يقال: ألفته إلفا وإلافا. وقد جمع الشاعر بينهما في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      4647 - زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاف



                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه مصدر آلف رباعيا نحو: قاتل قتالا. وقال [ ص: 113 ] الزمخشري : "أي: لمؤالفة قريش" .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة الباقين فمصدر آلف رباعيا بزنة أكرم يقال: آلفته أولفه إيلافا. قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      4648 - من المؤلفات الرمل أدماء حرة     شعاع الضحى في متنها يتوضح



                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عاصم في رواية "إإلافهم" بهمزتين: الأولى مكسورة والثانية ساكنة، وهي شاذة، لأنه يجب في مثله إبدال الثانية حرفا مجانسا كإيمان. وروي عنه أيضا بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة. وخرجت على أنه أشبع كسرة الهمزة الثانية فتولد منها ياء، وهذه أشذ من الأولى. ونقل أبو البقاء أشذ منها فقال: "بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة; بعدها همزة مكسورة. وهو بعيد. ووجهها أنه أشبع الكسرة فنشأت الياء، وقصد بذلك الفصل بين الهمزتين كالألف في أأنذرتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 114 ] وقرأ أبو جعفر "لإلف قريش" بزنة قرد. وقد تقدم أنه مصدر لألف كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      4649 - . . . . . . . . . . . . . . . . .     لهم إلف وليس لكم إلاف



                                                                                                                                                                                                                                      وعنه أيضا وعن ابن كثير "إلفهم" وعنه أيضا وعن ابن عامر "إلافهم" مثل: كتابهم. وعنه أيضا "ليلاف" بياء ساكنة بعد اللام; وذلك أنه لما أبدل الثانية حذف الأولى على غير قياس. وقرأ عكرمة "لتألف قريش" فعلا مضارعا وعنه "ليألف على الأمر، واللام مكسورة، وعنه فتحها مع الأمر وهي لغية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقريش اسم لقبيلة. قيل: هم ولد النضر بن كنانة، وكل من ولده النضر فهو قرشي دون كنانة، وهو الصحيح . وقيل: هم ولد فهر بن مالك ابن النضر بن كنانة. فمن لم يلده فهر فليس بقرشي، فوقع الوفاق على أن بني فهر قرشيون. وعلى أن كنانة ليسوا بقرشيين. ووقع الخلاف في النضر ومالك.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في اشتقاقه على أوجه، أحدها: أنه من التقرش وهو التجمع سموا بذلك لاجتماعهم بعد افتراقهم. قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      4650 - أبونا قصي كان يدعى مجمعا     به جمع الله القبائل من فهر



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 115 ] والثاني: أنه من القرش وهو الكسب. وكانت قريش تجارا. يقال: قرش يقرش أي: اكتسب. والثالث: أنه من التفتيش. يقال: قرش يقرش عني، أي: فتش. وكانت قريش يفتشون على ذوي الخلان ليسدوا خلتهم. قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      4651 - أيها الشامت المقرش عنا     عند عمرو فهل له إبقاء



                                                                                                                                                                                                                                      وقد سأل معاوية ابن عباس. فقال: سميت بدابة في البحر يقال لها: القرش، تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى وأنشد قول تبع:


                                                                                                                                                                                                                                      4652 - وقريش هي التي تسكن البحـ     ـر به سميت قريش قريشا
                                                                                                                                                                                                                                      تأكل الغث والسمين ولا تت     رك فيها لذي جناحين ريشا
                                                                                                                                                                                                                                      هكذا في البلاد حي قريش     يأكلون البلاد أكلا كميشا
                                                                                                                                                                                                                                      ولهم آخر الزمان نبي     يكثر القتل فيهم والخموشا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 116 ] ثم قريش: إما أن يكون مصغرا من مزيد على الثلاثة، فيكون تصغيره تصغير ترخيم. فقيل: الأصل: مقرش. وقيل: قارش، وإما أن يكون مصغرا من ثلاثي نحو القرش. وأجمعوا على صرفه هنا مرادا به الحي ولو أريد به القبيلة لامتنعت من الصرف كقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      4653 - غلب المساميح الوليد سماحة     وكفى قريش المعضلات وسادها



                                                                                                                                                                                                                                      قال سيبويه في معد وقريش وثقيف وكنانة: "هذه للأحياء" وإن جعلتها اسما للقبائل فهو جائز حسن" .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إيلافهم مؤكد للأول تأكيدا لفظيا; ولذلك اتصل بضمير ما أضيف إليه الأول كما تقول: لقيام زيد لقيامه أكرمته. وأعربه أبو البقاء بدلا والأول أولى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: رحلة مفعول به بالمصدر، والمصدر مضاف لفاعله، أي: لأن ألفوا رحلة. والأصل: رحلتي الشتاء والصيف، ولكنه أفرد لأمن اللبس كقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 117 ]

                                                                                                                                                                                                                                      4654 - كلوا في بعض بطنكم تعفوا      . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      قاله الزمخشري وفيه نظر; لأن سيبويه يجعل هذا ضرورة كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      4655 - حمامة بطن الواديين ترنمي      . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: "رحلة" اسم جنس. وكانت لهم أربع رحل. وجعله بعضهم غلطا وليس كذلك. وقرأ العامة بكسر الراء وهي مصدر. وأبو السمال بضمها وهي الجهة التي يرحل إليها.

                                                                                                                                                                                                                                      والشتاء لامه واو لقولهم: الشتوة وشتا يشتو. وشذوا في النسب إليه فقالوا فيه: شتوي. والقياس: شتائي أو شتاوي ككسائي وكساوي.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية