الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 671 ] المبين

                المبين : يقابل المجمل .

                أما البيان ; فقيل : الدليل ، وهو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري .

                وقيل : ما دل على المراد مما لا يستقل بنفسه في الدلالة ، وهما تعريف للمبين المجازي لا للبيان . فقيل : إيضاح المشكل ، فورد البيان الابتدائي ، فإن زيد بالفعل أو القوة زال ، ويحصل البيان بالقول ، والفعل ، كالكتابة ، والإشارة ، نحو : الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، ونحو : صلوا ، وخذوا ، وبالإقرار على الفعل ، وكل مقيد من الشارع بيان ، والبيان الفعلي أقوى من القولي ، وتبيين الشيء بأضعف منه كالقرآن بالآحاد جائز ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع إلا على تكليف المحال ، وعن وقت الخطاب إلى وقتها جائز عند القاضي ، وابن حامد ، وأكثر الشافعية ، وبعض الحنفية ، ومنعه أبو بكر عبد العزيز ، والتميمي ، والظاهرية ، والمعتزلة .

                التالي السابق


                قوله : " المبين : يقابل المجمل " ، وقد سبق للمجمل تعريفان ; فخذ ضدهما في المبين .

                فإن قلت : المجمل : هو اللفظ المتردد بين محتملين فصاعدا على السواء ، قل في المبين : هو اللفظ الناص على معنى ، غير متردد ، متساو .

                وإن قلت : المجمل : ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى معين ، قل : المبين ما فهم منه عند الإطلاق معنى معين ، من نص أو ظهور ، بالوضع أو بعد البيان .

                [ ص: 672 ] قال القرافي : المبين : هو اللفظ الدال بالوضع على معنى ; إما بالأصالة ، وإما بعد البيان .

                وقال الآمدي : المبين قد يراد به الخطاب المستغني بنفسه عن البيان ، وقد يراد به ما يحتاج إلى البيان عند وروده عليه ، كالمجمل وغيره .

                قلت : المعاني متقاربة .

                قوله : " أما البيان ; فقيل : الدليل " ، يعني أن الكلام السابق كان في المبين ، وهذا في البيان ، والفرق بينهما ظاهر ، يقال : مجمل وإجمال ، ومبين وبيان .

                فالمجمل : اللفظ المتردد .

                والإجمال : إرادة التردد من المتكلم ، أو النطق باللفظ على وجه يقع فيه التردد .

                والمبين : اللفظ الدال من غير تردد .

                والبيان : نحن الآن في الكلام فيه .

                " فقيل " : هو " الدليل " ، وهو قول القاضي أبي بكر ، والجبائي وابنه ، وأبي الحسين البصري ، والغزالي ، وأكثر الأشعرية ، واختيار الآمدي .

                وقال أبو عبد الله البصري : وهو العلم الحاصل عن دليل .

                وقال الصيرفي : هو التعريف .

                والأقوال متقاربة ، والمسألة لفظية ، أو كاللفظية ; لأن التعريف من آثار [ ص: 673 ] الدليل ; فاستوت ، أو تقاربت الأقوال جدا ، ويجمع الكل معنى الظهور ، إذ يقال في اللغة : بان الشيء يبين بيانا ، إذا ظهر واتضح ، والدليل يوضح ما دل عليه ، ويظهره ، ويعرفه .

                قوله : " وهو " ، يعني الدليل ، " ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري " .

                فقولنا : " ما يمكن التوصل به " ، يعني ما كانت له صلاحية الاتصال إلى المطلوب ، ليعم الدليل بالقوة والفعل ، أي : ما استعمل في التوصل إلى المطلوب ، وما صلح للتوصل إلى المطلوب ، وإن لم يستعمل في التوصل إليه ، كقولنا : يصلح أن يستدل بقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام [ البقرة : 188 ] ، على أن حكم الحاكم لا يحيل الشيء عن صفته في الباطن ; لأنه سبحانه وتعالى سمى الأموال مأكولة بالباطل ، مع الإدلاء بها إلى الحكام .

                وقولنا : " بصحيح النظر " : احتراز مما يوصل بفاسد النظر فيه إلى مطلوب ، فإن ذلك المطلوب ، إن قدرناه صحيحا ، كان التوصل إليه بفاسد النظر ممتنعا ، وإن قدرناه باطلا ، لم يكن ما توصلنا به إليه دليلا .

                وقولنا : " إلى مطلوب خبري " : يعم ما أوصل إلى علم ، كقولنا : الإنسان حيوان ، وكل حيوان جسم ; فالإنسان جسم . أو إلى ظن ، كغالب مسائل الفروع .

                ثم اختلفوا ; فمنهم من سماه دليلا ، سواء أوصل إلى علم أو ظن ، ومنهم من خص الدليل بما أوصل إلى علم ، وسمى ما أوصل إلى ظن أمارة ، - بفتح [ ص: 674 ] الهمزة وهي العلامة - ولعله أقرب إلى التحقيق ، والخلاف اصطلاحي .

                - قوله : " وقيل : ما دل " ، أي : وقيل : البيان ما دل " على المراد ، مما لا يستقل بنفسه في الدلالة " ، يعني إذا ورد لفظ لا يستقل بنفسه في الدلالة كالقرء ونحوه ; فما دل على المراد من ذلك اللفظ ، هو البيان كما سبق مثاله في المجمل . فهذان تعريفان للبيان :

                أحدهما : بأنه الدليل .

                والثاني : بما ذكر ههنا .

                قوله : " وهما تعريف للمبين المجازي ، لا للبيان " ، يعني أن تعريف البيان بالدليل ، وبما دل على المراد ، مما لا يستقل بنفسه ، ليس تعريفا للبيان ، بل للمبين المجازي .

                وكشف هذا : بأنه لابد لنا من مبين ، بكسر الياء ، ومبين بفتحها ، ومبين به ، وبيان .

                فالمبين في الحقيقة هو الشارع ، إذ عنه تظهر الأحكام ، ويطلق مجازا على المبين به ، وهو الدليل ، وهو خطاب الشارع الدال على المراد مما لا يستقل بنفسه .

                والمبين : هو المتضح بنفسه ، أو المجمل المحتاج إلى البيان . فقد اتضح بهذا أن التعريفين المذكورين للبيان ليسا تعريفا له ، بل للمبين المجازي ، أي : الذي يسمى مبينا بطريق المجاز .

                قوله : " فقيل إيضاح المشكل ، فورد البيان الابتدائي " أي : لما لم [ ص: 675 ] يتحصل لنا تعريف البيان بالحقيقة مما سبق ، احتجنا إلى أن نذكر تعريفه .

                وقد قيل : هو إيضاح المشكل ، وهذا مختصر ما حكاه الشيخ أبو محمد فيه ، أنه إخراج الشيء من الإشكال إلى الوضوح ، فلما عرف بهذا ، ورد عليه البيان الابتدائي ، أي : الخطاب الدال على المراد به ابتداء ، من غير احتياج إلى بيان خارج ، كالنصوص والظواهر ، وما عرف المراد منه بالتعليل بفحوى الخطاب ، أو باللزوم ، كالدلالة على الشروط والأسباب ، كدلالة الصلاة على وجوب الوضوء ، ودلالة الملك على تقدم سببه ، من بيع ، أو هبة ، أو اكتساب ، فإن هذا كله مبين ببيان ، ولم يوجد فيه إيضاح مشكل ; فتعريف البيان بإيضاح مشكل غير جامع .

                - قوله : " فإن زيد بالفعل أو القوة ، زال " ، أي : فإن زيد هذا على التعريف المذكور ، زال ورود البيان الابتدائي ، واستقام التعريف ; فيقال : البيان : هو إيضاح المشكل بالقوة أو الفعل ، وذلك لأن الكلام قد يكون مشكلا بالفعل ، أي : إشكاله ظاهر موجود ، وقد يكون مشكلا بالقوة ، أي : هو قابل لأن يرد مشكلا ، وذلك لأن مادة الكلام لذاتها قابلة للإشكال ، بحسب اختلاف نظمه وصيغه ، ومقاصد المتكلمين به .

                ومثال هذا : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ، وهذا كلام بين بنفسه ، صحيح على قواعد الشريعة . ونقل [ ص: 676 ] بعض الحنفية عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال : لا يدخل النار إلا مؤمن ، وظاهر هذا مع قوله عليه السلام : لا يدخل الجنة إلا المؤمنون - مشكل ; لأنه يقتضي أن أهل الجنة والنار جميعا مؤمنون ، وليس كذلك ، للاتفاق على أن أكثر أهل النار كفار ، وأنه لا يخلد فيها إلا كافر ، لكن أبو حنيفة رحمه الله ألحق بكلامه بيانا بينه ، وأظهر معناه المراد له ، بأن قال : لا يدخل النار إلا مؤمن ; لأن الكفار حينئذ يعاينون ما كانوا يوعدون ; فيؤمنون به ، أي : يصدقون ، لكن إيمانا لا ينفعهم ; لأنه اضطراري لا اختياري ، ولقوله عز وجل : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا [ غافر : 85 ] ، وقوله عز وجل لفرعون حين قال لما أدركه الغرق : آمنت - : آلآن وقد عصيت قبل [ يونس : 91 ] .

                فقد حصل من هذا أن كلام أبي حنيفة مشكل بالفعل ; فاحتاج إلى البيان ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، بين بالفعل ، وهو مشكل بالقوة ، إذ قد كان يمكنه صلى الله عليه وسلم ، أن يورده على نظم يستشكل ، نحو كلام أبي حنيفة .

                وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : لا عدوى ولا طيرة . كلام متضح

                [ ص: 677 ] بين ، إذ معناه : لا فاعل للنفع والضر إلا الله .

                ثم عرض لهذا الحديث بعينه الإشكال ، بقوله عليه الصلاة والسلام : لا يورد ممرض على مصح ، أي : من له إبل مراض على من له إبل صحاح . وقوله : فر من المجذوم فرارك من الأسد . لأن المتبادر من هذا إثبات العدوى ، وهو يناقض نفيها في الحديث الأول ; فاحتيج إلى بيان المزيل للإشكال ، بالجمع بينهما على وجه صحيح ، وهو أن الحديث الأول ناف للعدوى ، أي : لا يعدي مريض صحيحا ، وأما الثاني ، فلم ينه فيه عن إيراد الممرض على المصح لكونه يعدي الإبل ، بل خشية أن يحدث الله تعالى في إبل مصح مرضا ; فيعتقد أنه من العدوى ; فيكون بذلك مشركا مع الله فاعلا غيره ; فزال الإشكال .

                وقد جمع بينهما بغير هذا الوجه ; فقد رأيت كيف كان الحديث الأول بينا بنفسه ، ثم عرض له الإشكال ; فكذلك قد يرد الكلام بينا بالفعل ، وهو [ ص: 678 ] مع ذلك مشكل بالقوة ، أي : قابل لعروض الإشكال له من ذاته ، بتقدير تغير صفته أو من أمر خارج .



                قوله : " ويحصل البيان بالقول والفعل " ، إلى آخره . لما فرغ من الكلام على تعريف البيان ، وتحقيق ماهيته ، أخذ في ذكر المبين به ، وهو ما يحصل به البيان .

                والذي يحصل به البيان أمور :

                أحدها : " القول " : بأن يقول المتكلم ، أو من علم مراد المتكلم : المراد بهذا الكلام كذا ، كقوله تعالى : القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة [ القارعة : 1 ، 2 ، 3 ] ; فهذا إجمال ، ثم بينه بقوله : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث [ القارعة : 4 ] ; فبين أن القارعة تكون ذلك اليوم ، بهذه الصفة العظيمة .

                وكذا قوله عز وجل : وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين [ الانفطار : 17 ، 18 ] ، ثم بينه سبحانه وتعالى بما بعده .

                وقوله عز وجل : عليها تسعة عشر [ المدثر : 30 ] ; فهذا مجمل لاحتمال أن هؤلاء ملائكة ، أو آدميون ، أو شياطين ، أو غيرهم من المخلوقات ، ثم بينهم بقوله عز وجل : وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة [ المدثر : 31 ] .

                ونظائر هذا في القرآن الكريم ، والسنة الشريفة كثير .

                ولما قال سبحانه وتعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل [ ص: 679 ] [ الأنفال : 60 ] ، كانت القوة مجملة ; فبينها النبي صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي . لأن القول لما كان بينا في نفسه ، جاز أن يبين غيره ، كما قلنا في الماء الطهور : لما كان يدفع النجاسة عن نفسه ، جاز أن يدفعها عن غيره ، إذا كان كثيرا .

                الثاني : من الأمور التي يحصل بها البيان : الفعل ; فمنه الكتابة ، ككتابة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء الراشدين بعده ، وغيرهم من أهل الولايات إلى عمالهم في الصدقات ، وغيرها من السياسات ، ولأن الكتابة تقوم مقام اللسان في تأدية ما في النفس ; فكانت بيانا .

                وقد دل على ذلك قوله تعالى : الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان [ الرحمن : 1 - 4 ] ، ثم بين هذا البيان بقوله عز وجل : الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم [ العلق : 4 ، 5 ] ; فالبيان بالقلم من جملة البيان الذي علمه الإنسان ، وهو بيان نطق ، وبيان كتابة ، والله تعالى أعلم .

                ومنه ، أي : من البيان الفعلي ، الإشارة كما روي عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه آلى من نسائه شهرا ; فأقام في مشربة له تسعا وعشرين ، ثم دخل عليهن ; فقيل له : إنك آليت شهرا ; فقال : الشهر هكذا وهكذا وأشار بأصابعه العشر ، وقبض إبهامه في الثالثة ، يعني تسعة وعشرين .

                وجاء في حديث صحيح أنه قال : الشهر تسع وعشرون ، هكذا بلفظه [ ص: 680 ] وهو بيان قولي ; فقد تضمن هذا الحديث نوعي البيان ، القولي والفعلي .

                ومن البيان الفعلي قوله عليه أفضل الصلاة والسلام : صلوا كما رأيتموني أصلي . و خذوا عني مناسككم ، أي : انظروا إلى فعلي في الصلاة والحج ; فافعلوا مثله ; فكان فعله عليه الصلاة والسلام فيهما مبينا لقوله عز وجل : أقيموا الصلاة [ الأنعام : 72 ] ، وأتموا الحج والعمرة لله [ البقرة : 196 ] .

                فإن قيل : بيان الصلاة والحج إنما حصل بقوله : صلوا ، و : خذوا .

                قلنا : ليس كذلك ، إذ هذا اللفظ لا يعلم منه تفاصيل أفعال الصلاة والحج ، بل هو عليه السلام بين بقوله : صلوا ، و خذوا أن فعله مبين لتفاصيل الصلاة والمناسك ، ولهذا قضى مناسكه في حجته راكبا ، ليتعلم منه الناس .

                نعم ، يرد على الاستدلال بقوله : صلوا ، و خذوا عني ، سؤال أصح من السؤال المذكور ، وهو أن يقال : إنما أمرهم بذلك أن يسألوه عن أحكام الصلاة والحج ; فيجيبهم عنها ; فيكون البيان قوليا لا فعليا ، كما نقل عن علي رضي الله عنه أنه قال : سلوني قبل أن تفقدوني . وكما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قام مقاما ; فقال فيه : لا تسألوني في مقامي هذا عن شيء إلا أجبتكم ، [ ص: 681 ] والقصة مشهورة ; فقوله : خذوا عني ، يعني بالسؤال ، لا بالاقتداء بالأفعال .

                والجواب عنه : أن هذا وإن كان محتملا ، لكنه خلاف الظاهر ; لأن المنقول عنه عليه السلام ، أنه قال لهم : خذوا عني مناسككم ، وهو متلبس بفعل المناسك ، كالطواف والسعي وغيره ، وأمره لهم بذلك في هذه الحالة ، دليل على أن مراده اقتداؤهم بأفعاله ، عملا بقرينة الحال ، والله تعالى أعلم .

                الثالث من الأمور التي يحصل بها البيان : " الإقرار على الفعل " فيكون ذلك تبيانا لجوازه .

                وبالجملة فقد سبق في الكلام على السنة ، أن القول ، والفعل ، والإقرار على الفعل أو الترك - سنة ، وهي دليل وحجة ، وما كان دليلا في نفسه ، صلح أن يكون بيانا لغيره .



                قوله : " وكل مقيد من الشارع بيان " ، هذه قاعدة كلية فيما يحصل به البيان ، يتناول ما سبق ، وما يأتي بعد ، إن شاء الله تعالى ، وذلك من وجوه :

                أحدها : أن يستدل الشارع استدلالا عقليا ; فيبين به العلة ، أو مأخذ الحكم ، أو فائدة ما ، كما قال تعالى في صفة ماء السحاب : فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور [ فاطر : 9 ] ، وفي موضع آخر : كذلك الخروج [ ق : 11 ] ، ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ الروم : 19 ] ، ونظائره كثيرة .

                فبين سبحانه وتعالى لنا بذلك طريق الاستدلال على إمكان البعث [ ص: 682 ] والمعاد ، ولولا هذا الطريق الذي فتحه الله للمؤمنين ، لما اجترأ متكلموهم أن يستدلوا عليه ، ولا يتكلمون مع الفلاسفة المنكرين له فيه .

                وقال سبحانه وتعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء : 22 ] ، وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض [ المؤمنون : 91 ] ; فبين سبحانه بذلك طريق الاستدلال على توحيده عز وجل ، ونفي الشريك له سبحانه وتعالى .

                وبين بقوله عز وجل : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم [ الروم : 28 ] ، الآية ، قبح الإشراك ، ومنعه وتحريمه ، وجميع استدلالات القرآن عقلية ، وهي مفيدة للبيان .

                و قال النبي صلى الله عليه وسلم ، لعمر رضي الله عنه حين قال له : قبلت وأنا صائم : أرأيت لو تمضمضت . فقاس القبلة على المضمضة ، وبين بذلك أن الفطر إنما يكون بما يجاوز الحلق إلى الجوف ، أو بما يحصل منه مقصوده الموضوع له من المفطرات ، والقبلة لم يحصل منها مقصود جنسها وهو الإنزال ، كما أن المضمضة لم يحصل منها مقصود الشرب ، وهو الري .

                وقال للخثعمية : أرأيت لو كان على أبيك دين . فبين أن دين الله كدين [ ص: 683 ] الآدمي ، في وجوب القضاء ، وقبول النيابة ، وأولى ، وهذا كثير في الشرع .

                الوجه الثاني : الترك : مثل أن يترك فعلا قد أمر به ، أو قد سبق منه فعله ; فيكون تركه له مبينا لعدم وجوبه .

                وذلك كما أنه قيل له : وأشهدوا إذا تبايعتم [ البقرة : 282 ] ، ثم إنه كان يبايع ولا يشهد ، بدليل الفرس الذي اشتراه من الأعرابي ، ثم أنكره البيع ; فشهد له خزيمة بن ثابت لا عن حضور ، بل عن تصديقه عليه الصلاة والسلام ; فعلم أن الإشهاد في البيع غير واجب . وصلى النبي صلى الله عليه وسلم ، التراويح في رمضان ، ثم تركها خشية أن تفرض عليهم ; فدل على عدم وجوبها ، إذ يمتنع منه ترك الواجب .

                الوجه الثالث : السكوت بعد السؤال عن حكم الواقعة . فيعلم أن لا حكم للشرع فيها ، كما روي ، أن زوجة سعد بن الربيع رضي الله عنه ، جاءت بابنتيها إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ; فقالت : يا رسول الله ، هاتان ابنتا سعد ، قتل أبوهما [ ص: 684 ] معك يوم أحد ، وقد أخذ عمهما مالهما ، ولا ينكحان إلا بمال ; فقال : " اذهبي حتى يقضي الله فيك ; فذهبت ، ثم نزلت آية الميراث : يوصيكم الله في أولادكم [ النساء : 11 ] ; فبعث خلف المرأة وابنتيها وعمهما ; فقضى فيهم بحكم الآية . فدل ذلك على أن قبل نزول الآية لم يكن في المسألة حكم ، وإلا لما جاز تأخيره عن وقت الحاجة إليه ، كما سيذكر بعد إن شاء الله تعالى ، والقاعدة المذكورة تحتمل وجوها غير ما ذكرنا إن وجدت ، والله أعلم .



                قوله : " والبيان الفعلي أقوى من القولي " ، أي : البيان بالفعل أقوى من البيان بالقول ، ولا خلاف في جواز البيان بهما ، إلا عند شذوذ من الناس في البيان الفعلي .

                والدليل على أنه أقوى من القولي : أن الفعلي فيه مشاهدة وعيان لصورة الفعل ، وذلك زيادة على ما يفيده مجرد القول ; فالبيان الفعلي مدرك بالتصور الذهني ، والإدراك الحسي ، بخلاف القولي ، إذ ليس فيه إلا التصور الذهني فقط ; فكان الفعلي أقوى .

                ولهذا كان غالب الناس عالما بأفعال الصلاة ، لتكرر أفعالها عليهم في اليوم والليلة خمس مرات ، بخلاف أفعال الحج ، فإن صبيان مكة - شرفها الله تعالى - أعلم بها من كثير من فقهاء الآفاق المبرزين في العلم ، لدربة أولئك الصبيان بها دونهم .

                وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، لما أراد أن يعرف أصحابه مثل ابن آدم ، وأجله ، وأمله ، خط لهم خطا مربعا ، صور لهم ذلك فيه ، كما صح في السنة .

                [ ص: 685 ] وخط لهم مرة خطا مستقيما وإلى جانبه خطوط ، ثم قال : هذا سبيل الله ، وهذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان ، ثم قرأ : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ الأنعام : 153 ] .

                وكذلك المهندسون وأصحاب علم الهيئة وضعوا في كتبهم صور الأكر ، والزوايا ، وغيرها من الأشكال ، لتكون أسرع إلى فهم المتعلم .



                قوله : " وتبيين الشيء بأضعف منه ، كالقرآن بالآحاد جائز " .

                اعلم أن البيان ; إما أن يكون أقوى من المبين ، أو مساويا له ، أو أضعف منه في الدلالة ، ولا خلاف في جواز البيان بالأقوى .

                واختلفوا في البيان بالأضعف ; فأجازه أبو الحسين بالأضعف والمساوي ، واشترط أن يكون البيان راجحا . واحتج بأنه لو لم يكن راجحا ، لكان إما مساويا ، أو مرجوحا .

                والأول يلزم منه الوقف ، إذ ليس أحد المتساويين بأولى بأن يكون بيانا للآخر من العكس .

                والثاني : يلزم منه ترك الراجح بالمرجوح ، وهو ممتنع . وهذا حجة الكرخي على منع البيان بالأضعف .

                ومع ذلك لا يتجه قول أبي الحسين ; لأن تبيين اللفظ بما هو أضعف [ ص: 686 ] دلالة منه غير معقول ; لأن التبيين تخليص ، وتمييز لبعض الاحتمالات من بعض ، والضعيف لا يخلص القوي ، وما ذاك إلا بمثابة تعديل الفاسق للعدل ، وتصيير الماء الطاهر طهورا بإضافة الماء النجس إليه ، والتعريف بالأخفى ، كقولنا : الأسد هو الغضنفر ، أو الدلهمس ، والعنكبوت : هو الخدرنق ، والأرنب : الخرنق ، وأشباه ذلك ، وهو ممتنع ، اللهم إلا أن يقال : إن البيان بالأضعف يجوز بالإضافة إلى من ذلك الأضعف عنده أقوى ، لكن بالإضافة إلى هذا الشخص ليس بيانا بالأضعف بل بالأقوى ، كما يقال للعراقي : الفول الباقلا ; لأن الباقلا أشهر عنه ، وبعكس ذلك في المصري ونحوه ; لأن الفول عندهم أشهر .

                واعلم أن هذه ليست مسألة " المختصر " ; لأن الكلام ههنا في تبيين الأقوى بالأضعف من جهة الدلالة ، ومسألة " المختصر " و " الروضة " ممثلة بتبيين القرآن بخبر الواحد ، وذلك أضعف في الرتبة لا في الدلالة ، ولا يلزم من ضعف الرتبة ضعف الدلالة ، لجواز أن يكون الأضعف رتبة أقوى دلالة ، كتخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ; لأنه أخص ; فيكون أدل .

                فحاصل هذا أن الضعف إن كان في الدلالة ، لم يجز تبيين القوي بالضعيف ، لما سبق ، وإن كان في الرتبة ، جاز إذا كان أقوى دلالة ، ومن أجاز [ ص: 687 ] البيان بالأضعف ، أجازه بالمساوي ، ولا عكس ، ومن اشترط الرجحان في البيان ، لم يجزه بواحد منهما ، كما سبق والله أعلم .

                فائدة : قد يكون البيان متصلا كما سبق ، وقد يكون منفصلا كتبيينه سبحانه المراد من الخيط الأبيض والأسود ، بقوله عز وجل : من الفجر [ البقرة : 187 ] ، وكقول كعب بن زهير :


                فلا يغرنك ما منت

                فإنه متردد بين أنه من المن ، وهو الإنعام بالوصل ، أو الوعد الصادق به ، أو من التمني ، ثم بين متصلا بقوله :


                إن الأماني والأحلام تضليل

                [ ص: 688 ] فبين أن ذلك من التمني ، الذي هو كأحلام النائم ، لا من المن .



                قوله : " وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع ، إلا على تكليف المحال " ، يعني تكليف ما لا يطاق ; فمن أجازه ، أجاز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ومن منعه ، منعه ، وصورته أن يقول : صلوا غدا ، ثم لا يبين لهم في غد كيف يصلون ، أو : آتوا الزكاة عند رأس الحول ، ثم لا يبين لهم عند رأس الحول كم يؤدون ، أو إلى من يؤدون ونحو ذلك ; لأنه تكليف ما لا يطاق ، والتفريع على امتناعه .



                قوله : " وعن وقت الخطاب إلى وقتها جائز " ، أي : وتأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز عند القاضي ، وابن حامد ، وأكثر الشافعية ، وبعض الحنفية ، ومنع أبو بكر عبد العزيز ، وأبو الحسن التميمي ، والظاهرية ، والمعتزلة ، والصيرفي ، وأبو إسحاق المروزي ، وذهب بعض الأصوليين إلى جواز تأخير بيان الأمر دون الخبر ، وذهب الجبائي وابنه ، والقاضي عبد الجبار ، إلى جواز تأخير بيان النسخ دون غيره .

                وقال أبو الحسين البصري : ما ليس له ظاهر ، كالمجمل يجوز تأخير بيانه ، وما له ظاهر ، والمراد به غيره ، يجوز تأخير بيانه التفصيلي ، لا الإجمالي ، بأن يقول وقت الخطاب مثلا : هذا العموم مخصوص ، ولا يجب تفصيل أحكام تخصيصه ببيان غير المخصص ومقدار ما يخص منه .

                وقال الكرخي وجماعة من الفقهاء : يجوز تأخير بيان المجمل ، دون [ ص: 689 ] غيره كالظاهر والعموم والنسخ ، ونحو ذلك من صور البيان . والصحيح جوازه مطلقا .

                وصورته : أن يقول وقت الفجر مثلا : صلوا الظهر ، ثم يؤخر بيان أحكام الظهر إلى وقت الزوال ، أو يقول : حجوا في عشر ذي الحجة ، ثم يؤخر بيان أحكام الحج إلى دخول العشر .




                الخدمات العلمية