الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            [ ص: 144 ] كتاب الغصب

                                                                                                                            ( هو ) لغة : أخذ الشيء ظلما ، وقيل بشرط المجاهرة . وشرعا ( الاستيلاء ) ومداره على العرف كما يظهر بالأمثلة الآتية ، فليس منه منع المالك من سقي زرعه أو ماشيته حتى تلف فلا ضمان لانتفاء الاستيلاء سواء أقصد منعه عنه أم لا على الأصح ، وفارق هذا هلاك ولد شاة ذبحها بأنه ثم أتلف غذاء الولد المتعين له بإتلاف أمه بخلافه هنا ، وبهذا الفرق يتأيد ما يأتي عن ابن الصلاح وغيره قبيل والأصح أن السمن ويأتي قبيل قول المصنف : فإن أراد قوم سقي أرضهم فيمن عطل شرب ماء الغير ما يؤيد ذلك ( على حق الغير ) ولو كلبا وخمرا محترمين ، [ ص: 145 ] وشمل الاختصاصات كحق متحجر ومن قعد بنحو مسجد أو شارع لا يزعج عنه وجعل المصنف في دقائقه حبة البر غير مال مراده به غير متمول لما قدمه في الإقرار أنها مال ، وعبر عنه أصله بالمال إذ هو المترتب عليه الضمان الآتي ، وعدل عنه إلى أعم منه ليكون التعريف جامعا لأفراد الغصب المحرم الواجب فيه الرد ، وأما الضمان فسيصرح بانتفائه عن غير المال بقوله ولا يضمن الخمر ، فما صنعه هنا أحسن من أصله وإن عكسه بعضهم ( عدوانا ) أي وجه الظلم والتعدي فخرج به نحو مأخوذ بسوم وعارية وما كان أمانة شرعية كثوب طيرته الريح إلى داره أو حجره ، ولا يرد على ذلك ما لو أخذ مال غيره يظنه ماله حيث ضمنه ضمان الغصب لأن الثابت في هذه الصورة حكم الغصب لا حقيقته ، قاله الرافعي نظرا إلى أن المتبادر والغالب من الغصب ما يقتضي الإثم ،

                                                                                                                            واستحسن تعبيره في الروضة بغير حق لشمولها هذه الصورة واقتضائها أن الثابت فيها حقيقة الغصب نظرا إلى أن حقيقته صادقة مع انتفاء التعدي ، إذ القصد بالحد ضبط جميع صور الغصب التي فيها إثم والتي لا إثم فيها ، وما استحسنه الرافعي من زيادة قهرا لإخراج السرقة وغيرها ومن زيادة لا على وجه اختلاس أو نحوه رد بخروج الثلاثة بالاستيلاء ، فإنه ينبئ عن القهر والغلبة ، والتنظير فيه بادعاء أن السرقة نوع من الغصب أفرد بحكم خاص فيه نظر ، وصنيعهم [ ص: 146 ] بإفرادها بباب مستقل وجعلها من مباحث الجنايات قاض بخلافه ، وقد أفاد الوالد رحمه الله تعالى أن الذي يتحصل من كلام الأصحاب في تعريف الغصب أنه حقيقة وإثما وضمانا الاستيلاء على مال الغير عدوانا ، وضمانا الاستيلاء على مال الغير بغير حق ، وإنما الاستيلاء على حق الغير عدوانا ، ولو أخذ مال غيره بالحياء كان له حكم الغصب ، فقد قال الغزالي : من طلب من غيره مالا في الملا فدفعه إليه لباعث الحياء فقط لم يملكه ولا يحل له التصرف فيه والأصل في الباب الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهو كبيرة ، قالا نقلا عن الهروي إن بلغ نصابا ، لكن نقل ابن عبد السلام الإجماع على أن غصب الحبة وسرقتها كبيرة ، وتوقف فيه الأذرعي ، ويوافقه إطلاق الماوردي الإجماع على أن فعله مع الاستحلال مما لا يخفى عليه كفر ومع عدمه فسق ، ولعل هذا التفصيل إنما هو من جهة حكاية الإجماع عليه ، وإلا فصريح مذهبنا أن استحلال ما تحريمه ضروري كفر وما لا فلا وإن فعله فتفطن له

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            [ ص: 144 ] كتاب الغصب ( قوله : ومداره ) أي الاستيلاء ( قوله : فليس منه منع المالك ) أي أو غيره منعا خاصا كمنع المالك وأتباعه مثلا ، أما المنع العام كأن منع جميع الناس عن سقيها فيضمن بذلك ، ونقل عن شيخنا الشبشيري بالدرس ما يوافقه ( قوله : من سقي زرعه ) أي كأن حبسه مثلا فيترتب عليه عدم السقي فلا ينافي قوله بعد سواء أقصد منعه أم لا ( قوله : بأنه ثم ) أي في الشاة ( قوله : ما يأتي عن ابن الصلاح ) لم يذكر في ذلك الموضع عن ابن الصلاح شيئا ، وفي حج ثم ما نصه : وأفتى أيضا : أي ابن الصلاح بضمان شريك غور ماء عين ملك له ولشركائه فيبس ما كان يسقي بها من الشجر ونحوه أفتى الفقيه إسماعيل الحضرمي ونظر فيه بعضهم وكأنه نظر لقولهم لو أخذ ثيابه مثلا فهلك بردا لم يضمنه وإن علم أن ذلك مهلك له ، ومر أول الباب ما يرده : أي النظر فتأمله ا هـ . وأما قول الشارح ويأتي قبيل قول المصنف فإن أراد قوم إلخ لعله أراد به قوله ثم والأوجه أن من لأرضه شرب من ماء مباح فعطله آخر بأن أحدث ما ينحدر به الماء عنه تأثيم فاعله ولا تلزمه أجرة منفعة الأرض مدة تعطيلها لو سقيت بذلك الماء أخذا مما مر في المساقاة ا هـ إلا أنه يتأمل حينئذ كون هذا مؤيدا للفرق ، فإن المتبادر منه رده لا تأييده . إلا أن يقال : وجه التأييد أنه يجعل علة عدم الضمان فيما يأتي أن سقي الأرض لم يتعين له ذلك الماء بل يمكن السقي بغيره ، بخلاف الشاة فإنه ليس ثم ما يصلح لغذاء ولد الشاة سوى لبن أمه أو أن ما يأتي عن ابن الصلاح مؤيد لضمان ولد الشاة وما بعده مؤيد لعدم ضمان الزرع ، والأولى أن يقال : إن وجه تأييد ما هنا لما يأتي عن ابن الصلاح أن لبن الشاة من حيث نسبته إليها متعين لولدها ، وكذلك العين التي أعدت بخصوصها لسقي زرع فإنها معدة بحسب القصد ممن هيأها لذلك الزرع . وعليه فيتعين فرض ما ذكره من عدم الضمان هنا في مسألة الزرع فيما إذا لم يكن الماء معدا له كماء الأمطار والسيول ونحوهما ( قوله : ولو كلبا ) أي نافعا ، وخرج به العقور : أي وكذا ما لا نفع فيه ولا ضرر كالفواسق [ ص: 145 ] الخمس فلا بد عليها ولا يجب ردها بر ا هـ سم على منهج . وهو ظاهر لكن قد يشكل عليه قولهم في الإقرار ولو قال له عندي شيء قبل تفسيره بنجس لا يقتنى ، بخلاف ما لو قال علي فإنه ظاهر في ثبوت اليد عليه وأنه تسوغ المطالبة به . وأجيب ثم بأن قبول التفسير به إنما هو لصدق الشيء عليه ووصفه بكونه عنده لا يستدعي أن له عليه يدا ( قوله : وشمل ) أي التعريف أو ألحق الاختصاصات : أي فيكون غصبها كبيرة فيما يظهر أخذا مما يأتي في حبة البر بل أولى لأن النفع بها أكثر من النفع بحبة البر ، وقوله صلى الله عليه وسلم وأموالكم جرى على الغالب ( قوله : ومن قعد ) أي وشمل من إلخ ( قوله : لا يزعج عنه ) أي قعود لا يزعج عنه ( قوله : مراده به غير متمول ) بفتح الواو أخذا من قول المصباح تمول اتخذ مالا وموله غيره . قال الأزهري : تمول مالا اتخذه قنية ، فقول الفقهاء ما يتمول ما يعد مالا في العرف والمال عند أهل البادية النعم ا هـ . فإنه صريح في أن ما كان صفة للمال اسم مفعول وما كان صفة للفاعل اسم فاعل ( قوله : وعبر عنه ) أي الحق ( قوله والتعدي ) عطف تفسير ( قوله : أو حجره ) أي بخلاف ما لو طيرته إلى محل قريب منه وليس له عليه يد كالمسجد ( قوله : فإنه ينبئ عن القهر ) في إخراجه للانتهاء نظر ، فإن الآخذ فيه يعد مستوليا بالقهر والغلبة بل قد يتوقف في إخراجه للجميع ، سيما وقد جعل الشارح الاستيلاء شاملا لما قبضه لسوم أو أمانة كثوب طيرته الريح إلى دار أو حجره ( قوله والتنظير فيه ) أي في إخراج السرقة ونحوها [ ص: 146 ] قوله : قاض بخلافه ) أي لكنه يقتضي تخلف أحكام الغصب عنها كالضمان بأقصى القيم والأجرة وهو خلاف الواقع ( قوله : بغير حق ) أي حيث ظنه ماله ( قوله : وإنما الاستيلاء إلخ ) زاد في العباب ولا إثما ولا ضمانا ا هـ . وصورته أن يستولي على اختصاص غيره يظنه اختصاصه ، وقوله أيضا أو تحامل برجله زاد حج : أي وإن اعتمد معها على الرجل الأخرى فيما يظهر ( قوله : كان له حكم الغصب ) أي وإن لم يحصل طلب من الآخذ فالمدار على مجرد العلم بأن صاحب المال دفعه حياء لا مروءة أو رغبة في خير ، ومنه ما لو جلس عند قوم يأكلون مثلا وسألوه في أن يأكل معهم وعلم أن ذلك لمجرد حيائهم من جلوسه عندهم ( قوله : وهو كبيرة ) إطلاقه شامل للمال وإن قل وللاختصاصات وما لو أقام إنسانا من نحو مسجد أو سوق فيكون كبيرة وهو ظاهر جلي ، بل هو أولى من غصب نحو حبة البر لأن المنفعة به أكثر والإيذاء الحاصل بذلك أشد ( قوله : ومع عدمه ) أي الاستحلال ( قوله : ولعل هذا التفصيل ) أي ولعل نسبة هذا التفصيل للماوردي إلخ ، وإلا فصريح المذهب يفيد ذلك ولا حاجة لعزوه للماوردي ( قوله : وإن فعله ) أي وعلم بحرمته .



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            [ ص: 143 - 144 ] كتاب الغصب ( قوله : وفارق هذا هلاك ولد شاة إلخ ) قضية السياق أن هذا يسمى غصبا والظاهر أنه غير مراد ، وسيعيد المسألتين مع فرق آخر أظهر من هذا . ( قوله : يتأيد ما يأتي عن ابن الصلاح إلخ ) هو تابع في هذا لما في التحفة ، لكنه أغفل ما في التحفة في المحل الذي أحال عليه عن ابن الصلاح وهو ضمان شريك غور ماء عين ملك له ولشركائه فيبس ما كان يسقي بها من الشجر ، وقوله : قبيل قول المصنف فإن أراد قوم إلخ أي : في باب إحياء الموات [ ص: 145 ] قوله : وشمل الاختصاصات ) لعل لفظ شمل محرف عن لفظ سائر من الكتبة ، وعبارة التحفة : وسائر الحقوق والاختصاصات كحق متحجر ( قوله : ومن قعد بنحو مسجد ) أي : وكحق من قعد بنحو مسجد ، وعبارة التحفة : وكإقامة من قعد بسوق أو مسجد لا يزعج منه ، والجلوس محله انتهت . وقوله : لا يزعج منه وصف لمسجد أو شارع : أي بأن كان جلوسه بحق ( قوله : نظرا إلى المتبادر والغالب ) صريح في أن هناك صورا من الغصب الحقيقي لا إثم فيها ، وهو قد ينافي ما مر ، بل قد تدخل الصورة المذكورة بادعاء أنها من غير الغالب ( قوله : وما استحسنه الرافعي إلخ ) عبارة التحفة : واستحسن الرافعي زيادة قهرا ليخرج السرقة ، وغيره زيادة لا على وجه اختلاس أو انتهاب وردا بأن الثلاثة إلخ ( قوله : والتنظير فيه ) أي : في الرد المذكور [ ص: 146 ] قوله : أن الذي يتحصل من كلام الأصحاب في تعريف الغصب أنه حقيقة وإثما وضمانا إلخ ) لا يخفى ما في هذا العطف وعبارة العباب : وحقيقته ضمانا وإثما الاستيلاء على مال غيره عدوانا ، وضمانا فقط الاستيلاء بلا تعد كلبس مودع غلطا وإثما فقط الاستيلاء على محترم ولا مالية له عدوانا انتهت . فجعل الكل حقائق للغصب لكن باعتبارات وزاد الشهاب سم عليه : وحقيقة لا ضمانا ولا إثما بل وجوب رد فقط الاستيلاء بلا تعد على محترم غير مال كأخذ سرجين الغير يظنه له ، قال : وبقي حقيقته الأعم من الضمان والإثم والرد وهو الاستيلاء على محترم الغير بغير حق مطلقا ا هـ .

                                                                                                                            وهذا الأخير قد يشمل الاستيلاء على زوجة الغير والظاهر أنه غير مراد ( قوله : وضمانا الاستيلاء على مال الغير بغير حق ) صريح السياق كما لا يخفى أن حقيقة الضمان غير موجودة فيه ، وفيه نظر من جهة المعنى ، ومن جهة أن المقسم الغصب فتأمل ، وكذا يقال في الذي بعده




                                                                                                                            الخدمات العلمية