الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 734 ] ثم ههنا صور أنكروها بناء على أنها من قبيل المفهوم : إحداهن : نحو : لا عالم إلا زيدا ، قالوا : هو سكوت عن المستثنى ، لا إثبات العلم له ، وهذه مسألة : الاستثناء من النفي إثبات ، والعادة ذكرها في الاستثناء ، وعمدتهم أن المستثنى غير محكوم عليه بنفي ولا إثبات .

                ولنا : الإجماع على إفادة : لا إله إلا الله ، إثبات الإلهية لله .

                وفيه نظر ، والمعتمد أن الاستثناء والمستثنى منه إما في تقدير جملتين أو جملة واحدة .

                والأول يستلزم الإثبات في المستثنى ، إذ الجملة الثانية إما نافية ; فهو تطويل بغير فائدة ، أو مثبتة ، وهو المطلوب .

                والثاني يمنع الواسطة ، إذ بعض الجملة لا يكون خاليا عن حكم ، ثم تصور الواسطة في الكلام مع استلزامه التركيب الإسنادي الإفادي - محال ; فأما : لا صلاة إلا بطهور ونحوه فهو من باب انتفاء الشيء لانتفاء شرطه .

                التالي السابق


                قوله : " ثم ههنا صور أنكروها " ، يعني منكري المفهوم " بناء على أنها من قبيل المفهوم :

                إحداهن : نحو : لا عالم إلا زيدا . قالوا : هو سكوت عن المستثنى " ، وهو زيد ، " لا إثبات العلم له ، وهذه مسألة الاستثناء من النفي [ ص: 735 ] إثبات ، والعادة ذكرها في الاستثناء ، ولكني تابعت الأصل في ذكرها ههنا ، " وعمدتهم " ، يعني الخصوم ، " أن المستثنى غير محكوم عليه بنفي ولا إثبات " ، وإنما هو نطق بالمستثنى منه ، أما المستثنى ; فمسكوت عنه .

                " ولنا " يعني على أن الاستثناء من النفي إثبات : " الإجماع على أن قولنا : لا إله إلا الله " يفيد " إثبات الإلهية لله " سبحانه وتعالى ، وهو استثناء إثبات من نفي ، إذ تقديره : لا إله موجود إلا الله .

                قوله : " وفيه " ، أي : في هذا الاستدلال " نظر " ، أي : هو لا يتحقق ، ولا يلزم منه المطلوب ، إذ للخصم أن يقول : لا نسلم أن قولنا : لا إله إلا الله أفاد إثبات الآلهية بمجرده ، بل الله سبحانه وتعالى في هذا الكلام مسكوت عن ثبوت إلهيته ونفيها ، وإنما ثبتت بدليل العقل ، وهو خارج عن هذا اللفظ .

                قوله : " والمعتمد " ، أي : الذي يعتمد عليه في دليل المسألة " أن الاستثناء ، والمستثنى منه إما في تقدير جملتين ، أو " في تقدير " جملة واحدة . والأول " وهو كونه في تقدير جملتين " يستلزم الإثبات " ، في الجملة الثانية ; فيكون الاستثناء من النفي إثباتا .

                وإنما قلنا ذلك ; لأن " الجملة الثانية إما نافية " ، أو مثبتة ، فإن كانت نافية ، لزم منه " التطويل بغير فائدة " ، وهو باطل ، مناف لحكمة واضع اللغة .

                وإنما قلنا : إن ذلك يلزم منه التطويل بلا فائدة ; لأن الجملة الأولى [ ص: 736 ] نافية ; فلو كانت الثانية كذلك ، لزم ما ذكرناه ، إذ الاقتصار على الأول يفيد نفي الثانية .

                مثاله : إذا قلنا : لا إله ; فهذه جملة نافية ; فقولنا : إلا الله ، لو كانت نافية أيضا ، لكان في قولنا : لا إله ، غنية عنها ، إذ قد فهمنا عموم نفي الإله منها ، فلم يحتج إلى ما بعدها . وكذلك لو قلنا : ما قام أحد ، هي جملة نافية ; فقولنا : إلا زيد ، لو أفاد نفي قيام زيد ، لكان قولنا : ما قام أحد ، كافيا عنه ; فبان بهذا التقدير أن الجملة الثانية في الاستثناء ليست نافية ; فتعين أن تكون مثبتة ، إذ لا واسطة بين النفي والإثبات ، وهو المعني بقولنا : الاستثناء من النفي إثبات ، " وهو المطلوب " . هذا كله على تقدير أن يكون الاستثناء والمستثنى منه في تقدير جملتين .

                قوله : " والثاني " ، يعني كون الاستثناء والمستثنى منه في تقدير جملة واحدة " يمنع الواسطة " ، أي : يمنع أن يكون المستثنى واسطة بين النفي والإثبات ، غير محكوم عليه بأحدهما ; لأن التقدير أنهما جملة واحدة ، والمستثنى بعضها ، وبعض الجملة لا يخلو عن حكم ; إما نفي أو إثبات . وقد اتفقنا على أن صدر الجملة منفي ، وهو المستثنى منه ; فوجب أن يكون آخرها كذلك لاستحالة كون بعض الجملة نفيا ، وبعضها إثباتا .

                قوله : " ثم تصور الواسطة في الكلام ، مع استلزامه التركيب الإسنادي الإفادي - محال " . هذا دليل آخر على امتناع تصور الواسطة في الكلام ، وهو الذي يدعيه الخصم ; فيقول : المستثنى من النفي لا مثبت ولا منفي ، بل [ ص: 737 ] واسطة بينهما .

                وبيان امتناع الواسطة في ذلك : هو أن الكلام ههنا في المستثنى من النفي ، وهو جزء من الجملة الاستثنائية ، والجملة الاستثنائية مستلزمة للتركيب الإسنادي الإفادي ، أي : هي مشتملة على جزءين فصاعدا ، أسند أحدهما إلى الآخر للإفادة ، كقولنا : القوم قيام إلا زيدا ، وقام القوم إلا زيدا ، وما قام أحد إلا زيد ، وكل ما اشتمل على التركيب الإسنادي الإفادي ; فهو كلام ; فالجملة الاستثنائية كلام ، وكل كلام فلا يخلو من أن يكون مثبتا أو منفيا ; لأنه لابد فيه من محكوم به ، ومحكوم عليه ، والحكم إما بنفي ، أو إثبات ، نحو : زيد قائم ، وقام زيد ، وما زيد قائم ، وما قام زيد . وإذا كانت الجملة الاستثنائية تستلزم التركيب الإفادي ، الذي هو الكلام ، والكلام يستلزم الحكم ، والحكم منحصر في النفي والإثبات ، كانت الواسطة مع ذلك في التركيب الإفادي محالا ، وإذا انتفت الواسطة ، بقي المستثنى من النفي مترددا بين أن يكون منفيا أو مثبتا ، وقد اتفقنا على أنه غير منفي ; فتعين أن يكون مثبتا ، وهو المطلوب .

                قوله : " فأما : لا صلاة إلا بطهور . . . " إلى آخره . هذا جواب عن سؤال مقدر ، تذكره الحنفية ، مستدلين به على أن الاستثناء من النفي ليس بإثبات .

                وتقريره : أنه لو كان إثباتا ، لكان قوله عليه السلام : لا صلاة إلا بطهور ، [ ص: 738 ] و لا نكاح إلا بولي يقتضي صحة الصلاة عند وجود الطهور ، والنكاح عند وجود الولي ; لأنه مستثنى من نفي الصلاة والنكاح ، والاستثناء عندكم من النفي إثبات ; فيلزم منه الصحة ، لكن ذلك باطل باتفاق لجواز تخلف صحة الصلاة عند وجود الطهور ، لانتفاء شرط آخر ، وكذلك صحة النكاح مع وجود الولي .

                والجواب أن هذا الذي ذكرتموه ليس من باب الاستثناء ; لأن الاستثناء يصدق على المستثنى فيه بعد " إلا " اسم المستثنى منه ، وهو ما قبلها ، أو يكون ما بعد " إلا " جزءا مما قبلها ، نحو : ما قام أحد إلا زيد ; فزيد أحد ، وما قام القوم إلا زيد ; فزيد جزء من القوم .

                وإذا عرفت هذا ; فالطهور والولي لا يصدق عليهما اسم ما قبلهما ، ولا هما جزء منه ، إذ الطهور ليس بصلاة ولا جزئها ، والولي ليس بنكاح ولا جزئه ; فدل على أن قوله عليه السلام : لا صلاة إلا بطهور . ليس من باب الاستثناء ، بل من باب انتفاء الحكم " لانتفاء شرطه " ، فالطهور شرط الصلاة ، والولي شرط النكاح ; فينتفيان لانتفاء شرطهما ، ولا يلزم من وجوده وجودهما ، والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية