الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 756 ] أما درجات دليل الخطاب فست :

                أولها : مد الحكم إلى غاية بحتى أو إلى نحو : حتى تنكح زوجا غيره ثم أتموا الصيام إلى الليل فيفيد أن حكم ما بعد الغاية يخالف ما قبلها ، بدليل عدم حسن الاستفهام ، نحو : فإن نكحت ؟ أو جاء الليل ؟ وقالوا : حكم ما بعدها حكم ما قبل ابتدائها لأنه مسكوت عنه .

                الثانية : تعليق الحكم على شرط ، نحو وإن كن أولات حمل فأنفقوا يفيد انتفاء الإنفاق عند انتفاء الحمل ، وأنكره قوم ، إذ تعليقه بشرط لا يمنع تعليقه بشرطين ، ورد بأن الأصل عدم الثاني ، فإذا ثبت اعتبرناه .

                الثالثة : تعقيب ذكر الاسم العام بصفة خاصة في معرض الاستدلال ، نحو : في الغنم السائمة الزكاة ، و من باع نخلا مؤبرا فثمرته للبائع ، ونحوه : الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن - حجة طلبا لفائدة التخصيص والتقسيم .

                التالي السابق


                قوله : " أما درجات دليل الخطاب فست " ، يعني أن لدليل الخطاب ، وهو المفهوم في القوة والضعف - مراتب ودرجات ، لكن الشيخ أبو محمد خالف الشيخ أبا حامد في ترتيبها ; فقال : فأما ما هو من دليل الخطاب ; فعلى درجات ست ، وذكر ترتيبها ، كما في " المختصر " .

                والشيخ أبو حامد قال : القول في درجات دليل الخطاب : اعلم أن توهم النفي من الإثبات على مراتب ودرجات ، وهي ثمانية ، وذكر مفهوم [ ص: 757 ] اللقب ، ثم الاسم المشتق الدال على جنس ، نحو : لا تبيعوا الطعام ، ثم تخصيص الأوصاف التي تطرأ وتزول ، نحو : الثيب أحق بنفسها ، ثم تعقيب الاسم العام بالصفة الخاصة ، نحو : في الغنم السائمة الزكاة ، ثم مفهوم الشرط ، ثم مفهوم الحصر بـ " إنما " ونحوها ، نحو : إنما الماء من الماء ، و الأعمال بالنية ، ثم مفهوم الغاية بحتى ، وإلى ، ثم مفهوم الحصر بالنفي ، نحو : لا عالم في البلد إلا زيد .

                قلت : فالخلاف بينهما في الترتيب بين .

                أما اختلافهما في العدد ; فلأن الشيخ أبا محمد قد قدم مفهوم الحصر بإنما وبالنفي ; فبقيت المراتب بعد ذلك ستا كما ذكر ، والأشبه ترتيب أبي حامد ، لكنا نجري في الكلام على ترتيب " المختصر " ، وهو وفق ترتيب الشيخ أبي محمد .

                قوله : " أولها " ، أي : أول درجات دليل الخطاب : " مد الحكم إلى غاية بحتى أو إلى " ، ويسمى مفهوم الغاية ، نحو قوله سبحانه وتعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ، وقوله عز [ ص: 758 ] وجل : ولا تقربوهن حتى يطهرن [ البقرة : 222 ] ، وقوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله عز وجل : من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ التوبة : 29 ] ، وقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل [ البقرة : 187 ] ، وقوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين [ المائدة : 6 ] ، وهو مذهب القاضي أبي بكر ، والقاضي عبد الجبار ، وأبي الحسين البصري ، وأكثر الفقهاء ، " فيفيد أن حكم ما بعد الغاية يخالف ما قبلها " ، كالحل بعد نكاح زوج غيره ، وجواز القربان بعد التطهر ، ومنع القتال بعد أداء الجزية ، وأن لا صيام بعد دخول الليل ، ولا غسل واجب بعد المرافق والكعبين .

                قوله : " بدليل عدم حسن الاستفهام " ، أي : الغاية تفيد أن حكم ما بعدها يخالف حكم ما قبلها بدليل عدم حسن الاستفهام ، مثل أن يقال : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ; فلا يحسن الاستفهام بأن يقال : فإن نكحت زوجا غيره ; فما الحكم ؟ لأن الحكم قد فهم ، والسؤال عما فهم تحصيل الحاصل ، والدليل على أن الحكم مفهوم هو أن : حتى تنكح ليس مستقلا بنفسه ; فهو إذن متعلق بما قبله ، وهو قوله عز وجل : فلا تحل له ، وهو يدل على إضمار ثبوت الحل بعدها ، [ ص: 759 ] وأن التقدير : فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ; فتحل له ، إذ لو أضمر بعدها نفي الحل ، لكان تطويلا بغير فائدة .

                وكذلك إذا قال : ثم أتموا الصيام إلى الليل [ البقرة : 187 ] ، لم يحسن أن يقال : فإذا جاء الليل ; فما الحكم ؟ فدل على أن الحكم بعد مجيء الليل معلوم ، وهو عدم وجوب الصوم ، ولأن حتى وإلى موضوعتان للغاية في اللغة ، وغاية الشيء منتهاه ومنقطعه ، فإذا انتهى وانقطع ، لم يكن بعده إلا ضده ، وإلا لم يكن منقطعا ، وضد التحريم الحل ، ووجوب الصوم عدم وجوبه .

                وقول القائل : اضربه حتى يتوب ، يقتضي ترك الضرب بعد التوبة ، وقولهم : لألزمنك حتى أو إلى أن تقضيني حقي ونحوه - يفيد ذلك في اللسان ، وهو المطلوب .

                قوله : " قالوا : " يعني منكري المفهوم ، وأصحاب أبي حنيفة : لا مفهوم للغاية ، " بل حكم ما بعد " الغاية " حكم ما قبل ابتدائها لأنه " يعني ما بعدها " مسكوت عنه " ، كما قالوا في المستثنى من النفي ، وقرروه بأن ما له ابتداء ; فغايته منقطع ابتدائه ، كالسطح ، مبدؤه طرفه ، وغايته منقطع ذلك المبدأ ; فيرجع الحكم بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية ، وقبل البداية لم [ ص: 760 ] يكن هناك دليل بنفي ولا إثبات ; فكذلك بعد الغاية .

                قلت : وهذا وإن كان لهم فيه نوع تمسك من الوجه الذي ذكروه ، لكنه حجة عليهم من الوجه الذي أشرنا إلى تقريره ، وذلك لأن الشيء ، لا يثبت قبل مبدئه ، ولا بعد منتهاه ، كالجسم ، والسطح ، والخط ، وذلك ظاهر محسوس . وإذا لم يثبت قبل مبدئه ، ولا بعد منتهاه ; فالثابت حينئذ : إما ضده ، أو مثله ، أو لا واحد منهما ، وهذا الثالث باطل ; لأنه يوجب خلو المكان ، وعدم خلوه عن شاغل في مبادئ الأجسام ونهاياتها ، وهو محال ; لأن ذلك اجتماع الضدين ، والقائل قائلان : إما بالخلاء أو بالملاء ، أما اجتماعهما ; فلا قائل به .

                واعلم أن في تحقيق هذا نظرا بينا ، وأما في مبادئ الأحكام ونهاياتها ; فيوجب تعطيل ما قبلها وما بعدها عن الأحكام ، وهو خلاف الأصل ، إذ الأصل ثبوت الأحكام ; إما قبل الشرع بالإباحة ، أو الحصر كما سبق ، أو بعده بأحد الأحكام السابق ذكرها .

                والثاني وهو ثبوت مثل الشيء قبل مبدئه وبعد منتهاه باطل ; لأنهم لا يقولون به في الأحكام ; فتعين الأول ، وهو أن الثابت بعد انقطاع الشيء ضده ، وضد التحريم قبل نكاح الزوج الثاني ، الحل بعده ، وضد تحريم قربان الحائض قبل التطهر ، جوازه بعده ، وكذلك باقيها .

                [ ص: 761 ] قلت : وللخصم أن يلتزم أن بعد نهاية الشيء لا يثبت مثله ولا ضده ، بل هو مجرد عن شاغل وحكم ، ولا نسلم تعطل ما بعد الغاية عن حكم ، بل حكمها حكم ما قبل الشرع ، وإن سلمنا تعطلها ، لكن تعطلها عن حكم لا محال فيه .

                واعلم أن هذه المسألة محل نظر وتردد ; فلا سبيل فيها إلى القطع بشيء ، أما من حيث الظن ; فالظاهر مع مثبتي مفهوم الغاية لغة وعرفا .



                " الثانية " : أي : من درجات دليل الخطاب " تعليق الحكم على شرط نحو : وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن [ الطلاق : 6 ] ، يفيد انتفاء " ، وجوب " الإنفاق عند انتفاء الحمل " ، وهو مفهوم الشرط ، ونحو : إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه ، وإذا كان كذا ; فافعل كذا ، وهو قول ابن سريج ، والهراسي من الشافعية ، والكرخي ، وأبي الحسين البصري ، إذ حكم الشرط انتفاء الحكم عند انتفائه ، وبعضهم يترجم هذه المسألة ، بأن المعلق [ ص: 762 ] على شيء بحرف ( إن ) الشرطية ، عدم عند عدم ذلك الشيء ، " وأنكره قوم " وهو قول القاضي أبي بكر ، والقاضي عبد الجبار ، وأبي عبد الله البصري ، والغزالي ، واختيار الآمدي .

                قوله : " إذ تعليقه بشرط لا يمنع تعليقه بشرطين " . هذه من حجج المنكرين لمفهوم الشرط .

                وتقريره : أن تعليق الحكم بشرط لا يمنع تعليقه بشرطين فأكثر ، وإذا جاز تعليقه بشرطين ، لم يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الحكم ، لوجود الشرط الآخر .

                مثاله : قوله : أحكم بالمال إن شهد به شاهدان ، أو شاهد واحد مع يمين المدعي ، أو أقر به المدعى عليه ; فلا يلزم من انتفاء شاهدين ، أو شاهد ويمين ، انتفاء الحكم بالمال ، لجواز ثبوته بالإقرار ، وبالعكس .

                قوله : " ورد " ، أي : ورد هذا الاستدلال ، بأن الأصل عدم الشرط الثاني ، والأصل التعليق على شرط واحد ; لأنه مستقل بتصحيح تأثير المؤثر ; فالزائد خلاف الأصل ; فلا يعتبر تقريره . وحينئذ يصح ما ذكرناه ، من انتفاء الحكم لانتفاء شرطه المعلق به ، فإن " ثبت " تعليقه على شرط ثان فصاعدا ، لدعوى الحاجة إليه ; " اعتبرناه " ، ولم نحكم بانتفاء الحكم إلا بانتفاء جميع شروطه ، كانتفاء الحكم عند انتفاء البينة والإقرار . [ ص: 763 ] قلت : الشرط الذي تعلق عليه الحكم إما مفرد ، نحو : إن دخلت الدار ; فأنت طالق ; فلزم انتفاء الطلاق عند انتفاء الدخول . أو متعدد ، ثم تعليق الحكم عليه : إما على الجميع ، أو على البدل ، فإن كان على الجميع ، نحو : إن قمت ، وأكلت ، وشربت ، ودخلت الدار ، وكلمت زيدا ; فأنت طالق ; فلا يقع الطلاق إلا عند جميع هذه الأفعال ، وينتفي بانتفاء بعضها ; لأن جميعها شرط واحد ، مركب من أجزاء ; فلا يؤثر إلا وجود جميعها ، وإن كان على البدل ، نحو : إن قمت ، أو أكلت ، أو شربت ، أو دخلت الدار ، أو كلمت زيدا ; فأنت طالق - طلقت بوجود أيها كان ، وانتفى وقوع الطلاق بانتفاء جميعها . وعند هذا يظهر أن احتجاجهم بجواز تعليقه بشرطين ، يخلف أحدهما الآخر لا معنى له ، كما بينا ، لكن لهم في المسألة حجج أخرى ، لا يتسع لنا ذكرها ، إذ نحن شارحون لهذا " المختصر " لا مستوعبون لأقوال الناس وحججهم .

                فائدة : قال القرافي : ليس النزاع في المسألة ، في أن المشروط لا يجب انتفاؤه عند انتفاء الشرط ; فإنه متفق عليه ، بل في أن ذلك الانتفاء هل دل عليه اللفظ ، أو الاستصحاب في نحو قوله : أنت طالق إن دخلت الدار ؟ وذلك أن في الشرط نحو هذه الصيغة أمورا أربعة :

                [ ص: 764 ] أحدها : ارتباط الطلاق بالدخول .

                وثانيها : ارتباط عدم الطلاق بعدم الدخول .

                وثالثها : دلالة لفظ التعليق على ارتباط الطلاق بالدخول .

                ورابعها : دلالة لفظ التعليق على ارتباط عدم الطلاق بعدم الدخول .

                والثلاثة الأول متفق عليها ، والنزاع في الرابع ، وهو أنها إذا لم تدخل الدار ، لم تطلق استصحابا للعصمة السابقة ، والاستصحاب المذكور مع دلالة التعليق ، وهو معنى قولنا : المفهوم هنا حجة .

                قلت : وهذا تحقيق حسن جدا .



                " الثالثة " : يعني من درجات دليل الخطاب " تعقيب ذكر الاسم العام بصفة خاصة ، في معرض الاستدلال " ، هكذا وقع فيما رأيته من النسخ ، والصواب في معرض الاستدراك والبيان ، كذا في " المستصفى " أي : بذكر الصفة الخاصة عقيب ذكر الاسم العام ; فيكون مستدركا لعمومه بخصوص الصفة ، مبينا أن المراد بعمومه الخصوص ، نحو قوله عليه السلام : في الغنم السائمة الزكاة ; فالغنم اسم عام يتناول السائمة والمعلوفة ; فاستدرك عمومه بخصوص السائمة ، وبين أنها المراد من عموم الغنم .

                وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : من باع نخلا مؤبرا ; فثمرته للبائع . فالنخل عام في المؤبر وغيره ; فاستدرك عمومه بخصوص المؤبر ، [ ص: 765 ] وبين أنه المراد من عموم النخل .

                قوله : " ونحوه : الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن . حجة " أي : ومما يلحق بتعقيب ذكر الاسم العام بصفة خاصة ، وهو في معناه - تقسيم الاسم أو الصنف إلى قسمين ، وتخصيص كل قسم منهما بحكم ; فإنه يدل على انتفاء ذلك الحكم عن القسم الآخر ، كقوله عليه السلام : الأيم ، أي التي فارقت زوجها ، أحق بنفسها من وليها ، والبكر تستأذن . فخص البكر بالاستئذان ; فدل على نفيه في الأيم .

                قوله : " طلبا لفائدة التخصيص والتقسيم " ، أي : إنما قلنا : إن مفهوم الصفة والتقسيم حجة ، طلبا لفائدة التخصيص ، في نحو قوله عليه السلام : في الغنم السائمة الزكاة ، ولفائدة التقسيم ، أي : تقسيم المرأة إلى أيم وبكر ، وتخصيص كل واحدة بحكم ، إذ لو سوينا بين السائمة وغيرها في وجوب الزكاة ، وبين الأيم والبكر في الاستئذان أو عدمه ، لبطلت فائدة التخصيص والتقسيم المذكورين .




                الخدمات العلمية