الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 44 ] فصل منزلة الغيرة

ومن منازل " إياك نعبد وإياك نستعين " منزلة الغيرة

قال الله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن وفي الصحيح عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أحد أغير من الله ، ومن غيرته : حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . وما أحد أحب إليه المدح من الله . ومن أجل ذلك أثنى على نفسه . وما أحد أحب إليه العذر من الله . من أجل ذلك : أرسل الرسل مبشرين ومنذرين .

وفي الصحيح أيضا ، من حديث أبي سلمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال إن الله يغار ، وإن المؤمن يغار ، وغيرة الله : أن يأتي العبد ما حرم عليه .

وفي الصحيح أيضا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أتعجبون من غيرة سعد ؟ ! لأنا أغير منه . والله أغير مني .

ومما يدخل في الغيرة قوله تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا .

قال السري لأصحابه : أتدرون ما هذا الحجاب ؟ حجاب الغيرة . ولا أحد أغير من الله . إن الله تعالى لم يجعل الكفار أهلا لفهم كلامه ، ولا أهلا لمعرفته وتوحيده ومحبته . فجعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده حجابا مستورا عن العيون ، غيرة عليه أن يناله من ليس أهلا به .

[ ص: 45 ] والغيرة منزلة شريفة عظيمة جدا ، جليلة المقدار . ولكن الصوفية المتأخرين منهم من قلب موضوعها . وذهب بها مذهبا باطلا . سماه غيرة فوضعها في غير موضعها . ولبس عليه أعظم تلبيس . كما ستراه .

والغيرة نوعان : غيرة من الشيء . وغيرة على الشيء .

والغيرة من الشيء : هي كراهة مزاحمته ومشاركته لك في محبوبك .

والغيرة على الشيء : هي شدة حرصك على المحبوب أن يفوز به غيرك دونك أو يشاركك في الفوز به .

والغيرة أيضا نوعان : غيرة العبد من نفسه على نفسه ، كغيرته من نفسه على قلبه ، ومن تفرقته على جمعيته ، ومن إعراضه على إقباله ، ومن صفاته المذمومة على صفاته الممدوحة .

وهذه الغيرة خاصية النفس الشريفة الزكية العلوية . وما للنفس الدنية المهينة فيها نصيب . وعلى قدر شرف النفس وعلو همتها تكون هذه الغيرة .

ثم الغيرة أيضا نوعان : غيرة الحق تعالى على عبده ، وغيرة العبد لربه لا عليه . فأما غيرة الرب على عبده : فهي أن لا يجعله للخلق عبدا . بل يتخذه لنفسه عبدا . فلا يجعل له فيه شركاء متشاكسين . بل يفرده لنفسه . ويضن به على غيره . وهذه أعلى الغيرتين .

وغيرة العبد لربه ، نوعان أيضا : غيرة من نفسه . وغيرة من غيره . فالتي من نفسه : أن لا يجعل شيئا من أعماله وأقواله وأحواله وأوقاته وأنفاسه لغير ربه ، والتي من غيره : أن يغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون . ولحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون .

وأما الغيرة على الله : فأعظم الجهل وأبطل الباطل . وصاحبها من أعظم الناس جهلا . وربما أدت بصاحبها إلى معاداته وهو لا يشعر . وإلى انسلاخه من أصل الدين والإسلام .

وربما كان صاحبها شرا على السالكين إلى الله من قطاع الطريق . بل هو من قطاع طريق السالكين حقيقة . وأخرج قطع الطريق في قالب الغيرة . وأين هذا من الغيرة لله ؟ التي توجب تعظيم حقوقه ، وتصفية أعماله وأحواله لله ؟ فالعارف يغار لله . والجاهل يغار على الله . فلا يقال : أنا أغار على الله . ولكن أنا أغار لله .

وغيرة العبد من نفسه : أهم من غيرته من غيره . فإنك إذا غرت من نفسك صحت لك غيرتك لله من غيرك ، وإذا غرت له من غيرك ، ولم تغر من نفسك : فالغيرة مدخولة [ ص: 46 ] معلولة ولا بد . فتأملها وحقق النظر فيها .

فليتأمل السالك اللبيب هذه الكلمات في هذا المقام ، الذي زلت فيه أقدام كثير من السالكين . والله الهادي والموفق المثبت .

كما حكي عن واحد من مشهوري الصوفية ، أنه قال : لا أستريح حتى لا أرى من يذكر الله . يعني غيرة عليه من أهل الغفلة وذكرهم .

والعجب أن هذا يعد من مناقبه ومحاسنه .

وغاية هذا : أن يعذر فيه لكونه مغلوبا على عقله . وهو من أقبح الشطحات . وذكر الله على الغفلة وعلى كل حال خير من نسيانه بالكلية . والألسن متى تركت ذكر الله - الذي هو محبوبها - اشتغلت بذكر ما يبغضه ويمقت عليه . فأي راحة للعارف في هذا ؟ وهل هو إلا أشق عليه ، وأكره إليه ؟

وقول آخر : لا أحب أن أرى الله ولا أنظر إليه . فقيل له : كيف ؟ قال : غيرة عليه من نظر مثلي .

فانظر إلى هذه الغيرة القبيحة ، الدالة على جهل صاحبها ، مع أنه في خفارة ذله وتواضعه وانكساره واحتقاره لنفسه .

ومن هذا ما يحكى عن الشبلي : أنه لما مات ابنه دخل الحمام ونور لحيته ، حتى أذهب شعرها كله . فكل من أتاه معزيا ، قال : إيش هذا يا أبا بكر ؟ قال : وافقت أهلي في قطع شعورهم . فقال له بعض أصحابه : أخبرني لم فعلت هذا ؟ فقال : علمت أنهم يعزونني على الغفلة ويقولون : آجرك الله . ففديت ذكرهم لله على الغفلة بلحيتي .

فانظر إلى هذه الغيرة المحرمة القبيحة ، التي تضمنت أنواعا من المحرمات : حلق الشعر عند المصيبة ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليس منا من حلق وسلق وخرق [ ص: 47 ] أي حلق شعره ، ورفع صوته بالندب والنياحة . وخرق ثيابه .

ومنها : حلق اللحية ، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإعفائها وتوفيرها .

ومنها : منع إخوانه من تعزيته ونيل ثوابها .

ومنها : كراهته لجريان ذكر الله على ألسنتهم بالغفلة . وذلك خير بلا شك من ترك ذكره .

فغاية صاحب هذا : أن تغفر له هذه الذنوب ويعفى عنه . وأما أن يعد ذلك في مناقبه ، وفي الغيرة المحمودة فسبحانك هذا بهتان عظيم .

ومن هذا : ما ذكر عن أبي الحسين النوري : أنه سمع رجلا يؤذن . فقال : طعنه وسم الموت .

وسمع كلبا ينبح ، فقال : لبيك وسعديك . فقالوا له : هذا ترك للدين .

وصدقوا والله ، يقول للمؤذن في تشهده : طعنه . وسم الموت . ويلبي نباح الكلب ؟

فقال : أما ذاك فكان يذكر الله عن رأس الغفلة . وأما الكلب : فقد قال تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده .

فيالله ! ! ماذا ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواجه هذا القائل لو رآه يقول ذلك ، أو عمر بن الخطاب ، أو من عد ذلك في المناقب والمحاسن ؟ ! .

وسمع الشبلي رجلا يقول : جل الله . فقال : أحب أن تجله عن هذا .

وأذن مرة . فلما بلغ الشهادتين ، قال : لولا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك . وقال بعض الجهال من القوم : لا إله إلا الله من أصل القلب ، ومحمد رسول الله من القرط .

ونحن نقول : محمد رسول الله ، من تمام قول لا إله إلا الله . فالكلمتان يخرجان من أصل القلب ، من مشكاة واحدة . لا تتم إحداهما إلا بالأخرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية