الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم كتاب العارية قال : ( العارية جائزة ) ; لأنها نوع إحسان وقد { استعار النبي عليه الصلاة والسلام دروعا من صفوان } ( وهي تمليك المنافع بغير عوض ) وكان الكرخي رحمه الله يقول : هو إباحة الانتفاع بملك الغير ، [ ص: 4 ] لأنها تنعقد بلفظة الإباحة ، ولا يشترط فيها ضرب المدة ، ومع الجهالة لا يصح التمليك ولذلك يعمل فيها النهي ، ولا يملك الإجارة من غيره ، ونحن نقول : إنه ينبئ عن التمليك ، فإن العارية من العرية وهي العطية ولهذا تنعقد بلفظ التمليك ، والمنافع قابلة للملك كالأعيان . والتمليك نوعان : بعوض ، وبغير عوض . ثم الأعيان تقبل النوعين ، فكذا [ ص: 5 ] المنافع ، والجامع دفع الحاجة ، ولفظة الإباحة استعيرت للتمليك ، كما في الإجارة ، فإنها تنعقد بلفظة الإباحة ، وهي تمليك .

[ ص: 6 ] والجهالة لا تفضي إلى المنازعة ; لعدم اللزوم فلا تكون ضائرة . ولأن الملك يثبت بالقبض وهو الانتفاع . وعند ذلك لا جهالة ، والنهي منع عن التحصيل فلا يتحصل المنافع على ملكه . ولا يملك الإجارة لدفع زيادة الضرر على ما نذكره إن شاء الله تعالى . قال ( وتصح بقوله أعرتك ) ; لأنه صريح فيه ( وأطعمتك هذه الأرض ) ; لأنه مستعمل فيه [ ص: 7 ] ( ومنحتك هذا الثوب وحملتك على هذه الدابة إذا لم يرد به الهبة ) ; لأنهما لتمليك العين ، وعند عدم إرادته الهبة تحمل على تمليك المنافع تجوزا . قال ( وأخدمتك هذا العبد ) ; لأنه أذن له في استخدامه ( وداري لك سكنى ) ; لأن معناه سكناها لك ( وداري لك عمرى سكنى ) ; لأنه جعل سكناها له مدة عمره . وجعل قوله سكنى تفسيرا لقوله لك ; لأنه يحتمل تمليك المنافع فحمل عليه بدلالة آخره .

[ ص: 3 ]

التالي السابق


[ ص: 3 ] كتاب العارية ) . قد مر وجه مناسبة هذا الكتاب لما قبله في أول الوديعة ، ثم إنه قد وقع الاختلاف في تفسير العارية لغة وشريعة ، أما لغة فقد قال الجوهري في الصحاح : العارية بالتشديد كأنها منسوبة إلى العار ، لأن طلبها عار وعيب ، والعارة مثل العارية انتهى . وقال المطرزي في المغرب : العارية أصلها عورية فعلية منسوبة إلى العارة اسم من الإعارة كالغارة من الإغارة ، وأخذها من العار العيب أو العرى خطأ . انتهى . وفي بعض الشروح ما ذكره في المغرب هو المعول عليه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم باشر الاستعارة فلو كان في طلبها عار لما باشرها . وفي القاموس والمغرب : وقد تخفف العارية .

وفي المبسوط قيل : هي مشتقة من التعاور وهو التناوب فكأنه يجعل للغير نوبة في الانتفاع بملكه على أن تعود النوبة إليه بالاسترداد متى شاء ، ولهذا كانت الإعارة في المكيل والموزون قرضا ; لأنه لا ينتفع بها إلا باستهلاك العين فلا تعود النوبة إليه في تلك العين لتكون عارية حقيقة ، وإنما تعود النوبة إليه في مثلها . وأما شريعة فقال عامة العلماء : هي عبارة عن تمليك المنافع بغير عوض . وقال الكرخي والشافعي : هي عبارة عن إباحة الانتفاع [ ص: 4 ] بملك الغير ، وسيأتي دليل الطرفين في الكتاب ( قوله : ونحن نقول إنه ينبئ عن التمليك فإن العارية من العرية ، وهي العطية ولهذا تنعقد بلفظ التمليك إلخ ) أقول : فيه بحث من وجهين : أحدهما أن للخصم أن يمنع كون العارية من العرية التي هي العطية ، ويقول بل هي من العار كما ذكر في الصحاح ، أو من العارة كما ذكر في المغرب ، أو من التعاور كما ذكر في المبسوط . وعلى هذه الوجوه المروية عن ثقات الأئمة لا يثبت إنباء لفظ العارية عن التمليك .

وثانيهما أن للخصم أن يقول : انعقاد العارية بلفظ التمليك لا يدل على كونها بمعنى التمليك دون الإباحة لجواز أن يكون لفظ التمليك هناك مستعارا لمعنى الإباحة لعلاقة لزوم الإباحة للتمليك كما قلتم في الجواب عن انعقادها بلفظة الإباحة : إن لفظة الإباحة استعيرت للتمليك على ما سيأتي في الكتاب . وقال صاحب العناية : فيه بحث من أوجه : الأول أنه استدلال في التعريفات وهي لا تقبله ; لأن المعرف إذا عرف شيئا بالجامع والمانع ، فإن سلم من النقض فذاك ، وإن انتقض بكونه غير جامع أو مانع يجاب عن النقض إن أمكن ، وأما الاستدلال فإنما يكون في التصديقات .

والثاني أنه قياس في الموضوعات ، وهو غير صحيح ; لأن من شروط القياس تعدية الحكم الشرعي الثابت بالنص بعينه إلى فرع هو نظيره ولا نص فيه ، والموضوعات ليست بحكم شرعي وموضعه أصول الفقه . والثالث أن من شرط القياس أن يكون الحكم الشرعي متعديا إلى فرع هو نظيره ، والمنافع ليست نظير الأعيان ، إلى هنا كلامه . أقول : كل واحد من أوجه [ ص: 5 ] بحثه ساقط . أما الأول فلأن ما ذكر ليس باستدلال على نفس التعريف الذي هو من قبيل التصورات بل على الحكم الضمني الذي يقصده المعرف ، كأن يقال هذا التعريف هو الصحيح أو هو الحق ، ولا شك أن مثل هذا الحكم من قبيل التصديقات التي يجري فيها الاستدلال ، وقد صرحوا في موضعه بأن الاعتراضات الموردة في التعريفات من المنع والنقض والمعارضة إنما تورد على الأحكام الضمنية بأن هذا التعريف صحيح جامع مانع لا على نفس التعريفات التي هي من التصورات ، ولا ريب أن أمر الاستدلال هنا أيضا كذلك . وأما الثاني فلأن المصنف لم يقصد إثبات كون لفظ العارية موضوعا في عرف الشرع لتمليك المنافع بغير عوض بالقياس حتى يرد عليه أنه قياس في الموضوعات ، بل أراد إثبات قبول المنافع لنوعي التمليك بالقياس على قبول الأعيان لهما ، وقصد بإثبات هذا دفع توهم الخصم أن المنافع أعراض لا تبقى فلا تقبل التمليك كما صرح به الشارح المذكور . ولا يخفى أن قبول الأعيان لنوعي التمليك حكم شرعي ثابت بالنص الدال على جواز البيع والهبة فيصح تعديته إلى قبول المنافع لهما أيضا .

وأما الثالث فلأنه إن أراد بقوله والمنافع ليست نظير الأعيان أنها ليست نظيرها من كل الوجوه فهو مسلم ، ولكن لا يجدي نفعا إذ لا يشترط في صحة القياس اشتراك الفرع مع الأصل في جميع الجهات ، بل يكفي اشتراكهما في علة الحكم على ما عرف في أصول الفقه ، وإن أراد أنها ليست نظيرها في علة الحكم فهو ممنوع ، فإن علة الحكم الذي هو القبول لنوعي التمليك فيما نحن فيه إنما هي دفع الحاجة ، وهما أي الأعيان والمنافع مشتركتان في هذه العلة كما يفصح عنه قول المصنف والجامع دفع الحاجة . ثم قال : ويمكن أن يجاب عنها بأن هذا التعريف إما لفظي أو رسمي ، فإن كان الأول فما ذكرته في بيانه يجعل لبيان المناسبة لا استدلالا على ذلك ، وإن كان الثاني جعل بيانا لخواص يعرف بها العارية انتهى . أقول : وفيه بحث من أوجه : الأول أن هذا التعريف إن كان لفظيا كان قابلا للاستدلال عليه ، إذ قد تقرر في محله أن مآل التعريف اللفظي إلى التصديق ، والحكم بأن هذا اللفظ بإزاء ذلك المعنى فلذلك كان قابلا للمنع ، بخلاف التعريف الحقيقي إذ لا حكم فيه بل هو تصور ونقش فلا معنى لقوله فإن كان الأول ، فما ذكر في بيانه يجعل لبيان المناسبة لا استدلالا على ذلك . والثاني أنه قد تقرر في موضعه أيضا أن التعريف الرسمي الذي بالخواص إنما يكون بالخواص اللازمة البينة ، ولا شك أن اللوازم البينة لا تحتاج إلى البيان فلا وجه لقوله وإن كان الثاني جعل بيانا لخواص يعرف بها العارية .

والثالث أن الظاهر أن ضمير عنها في قوله ويمكن أن يجاب عنها راجع إلى وجه بحثه مع أن ما ذكره في الجواب على تقرير تمامه إنما يكون جوابا عن الوجه الأول من تلك الأوجه دون غيره كما لا يخفى على الفطن . ثم قال : ولو جعلنا المذكور في الكتاب حكم العارية وعرفناها بأنها عقد على المنافع بغير عوض كان سالما من الشكوك ، وليس في كلام المصنف ما ينافيه ظاهرا فالحمل عليه أولى انتهى .

أقول : فيه نظر . أما أولا فلأنه لو جعل ما ذكر في الكتاب حكم العارية لبقي البحث الثالث قطعا فلم يتم قوله : كان سالما من الشكوك . وأما ثانيا فلأن قول المصنف هي تمليك المنافع بغير عوض بحمل التمليك عليها بالمواطأة ينافي ظاهرا كون المذكور في الكتاب حكم العارية ، إذ حكم الشيء لا يحمل عليه بالمواطأة فلم يتم قوله : وليس في كلام المصنف ما ينافيه ظاهرا . وأما ثالثا فلأن توجيهه هذا ينافي ما ذكره في أول كتاب العارية بطريق الجزم حيث قال : واختلف في تعريفها اصطلاحا ، فقال عامة العلماء : هي تمليك المنافع بغير عوض . وكان الكرخي يقول : هي إباحة الانتفاع بملك الغير وهو قول الشافعي انتهى . فإن توجيهه هذا يقتضي أن يكون الاختلاف المذكور في حكمها لا في تعريفها . وقال بعض الفضلاء على قوله كان سالما من الشكوك : أما من الأول فمسلم ، وأما من الأخيرين فلا انتهى .

أقول : سلامته من الثاني أيضا ظاهر إذ على تقدير أن يكون ما ذكر في الكتاب حكم العارية دون معناه شرعا لم يتصور وضع بينه وبين لفظ العارية حتى يتجه على دليله المذكور أنه قياس في الموضوعات ، وهو غير صحيح [ ص: 6 ] قوله : والجهالة لا تفضي إلى المنازعة ; لعدم اللزوم فلا تكون ضائرة ) جواب عن قول الكرخي ومع الجهالة لا يصح التمليك . ووجهه أن الجهالة المفضية إلى النزاع هي المانعة ، وهذه ليست كذلك ; لعدم اللزوم فلا تكون ضائرة ، كذا في الشروح . قال صاحب الكافي في تقرير هذا المحل : وإنما صحت العارية مع جهالة المدة ، وإن لم يصح التمليك مع جهالة المدة ; لأن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة ; لأن للمعير أن يفسخ العقد في كل ساعة ; لكونها غير لازمة ، والجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة لا تمنع صحة العقد انتهى كلامه .

أقول : فيه نوع خلل ; لأن قوله وإنما صحت العارية مع جهالة المدة وإن لم يصح التمليك مع جهالة المدة يشعر بأن عامة العلماء قالوا بصحة العارية مع جهالة المدة ، وإن اعترفوا بعدم صحة التمليك أصلا مع جهالة المدة فيلزم أن لا يتم هذا الكلام جوابا عن قول الخصم : ومع الجهالة لا يصح التمليك ; لأن مقصوده به الاستدلال على أن العارية هي الإباحة دون التمليك لا على أنها غير صحيحة مع الجهالة : فالأولى في العبارة أن يقول : وإنما صحت العارية مع جهالة المدة ، وإن كانت هي التمليك ; لأن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة إلخ تأمل . ( قوله : وتصح بقوله أعرتك ; لأنه صريح فيه وأطعمتك هذه الأرض ; لأنه مستعمل فيه ) قال صاحب العناية في تفسير قوله صريح فيه : أي حقيقة في عقد العارية ، وفي تفسير قوله مستعمل فيه : أي مجاز فيه ، ثم قال : وفي عبارته نظر ; لأنه إذا أراد بقوله مستعمل أنه مجاز فهو صريح ; لأنه مجاز متعارف ، والمجاز المتعارف صريح كما عرف في الأصول ، فلا فرق إذا بين العبارتين ، والجواب : كلاهما صريح لكن أحدهما حقيقة والآخر مجاز ، فأشار إلى الثاني بقوله مستعمل : أي مجاز ليعلم أن الآخر حقيقة إلى هنا كلامه . ورد عليه بعض الفضلاء بأن قال : فيه تأمل ، فإن تخصيص الأولى بكونها صريحة يوهم أن الثانية ليست كذلك فلا تنحسم مادة الإشكال انتهى .

أقول : هذا ساقط ; لأن الصريح عند علماء الأصول ما انكشف المراد منه [ ص: 7 ] في نفسه فيتناول الحقيقة الغير المهجورة والمجاز المتعارف كما عرف في موضعه ، وأراد المصنف بالصريح هاهنا الحقيقة فقط بقرينة ما ذكره في مقابله كما بينه صاحب العناية ، فإن أراد ذلك البعض أن تخصيص الأولى بكونها صريحة يوهم أن الثانية ليست كذلك : أي ليست بصريحة بالمعنى الذي ذكره علماء الأصول فهو ممنوع ، وإنما يكون كذلك لو لم يكن قرينة على أنه أراد بالصريح هاهنا معنى الحقيقة وليس فليس ، وإن أراد أن تخصيص الأولى بذلك يوهم أن الثانية ليست بصريحة بمعنى الحقيقة فهو مسلم ، ولكن لا إشكال فيه حتى لا تنحسم مادته ( قوله : ومنحتك هذا الثوب وحملتك على هذه الدابة إذا لم يرد به الهبة إلخ ) قال صاحب الكافي : كان ينبغي أن يقول : إذا لم يرد بهما بدليل التعليل . وقال : ويمكن أن يجاب عنه بأن الضمير يرجع إلى المذكور كقوله تعالى { عوان بين ذلك } انتهى .

وقال الشارح العيني بعد نقل الطعن والجواب : قلت : المذكور شيئان أحدهما قوله : ومنحتك هذا الثوب ، والآخر حملتك على هذه الدابة انتهى . أقول : مدار ما قاله على عدم الفرق بين المفهوم وبين ما صدق هو عليه ، فإن الشيئين هو الثاني دون الأول . ومبنى التأويل هاهنا وفي قوله تعالى { عوان بين ذلك } هو الأول ، وهو شيء واحد لا محالة فلا غبار في الجواب . لا يقال : يجوز أن يكون مراده بيان الواقع لا رد الجواب . ; لأنا نقول : كون المذكور شيئين مع كونه غنيا عن البيان جدا يأبى عنه قطعا ذكره لفظة قلت سيما بعد ذكر الطعن والجواب كما لا يخفى على ذوي الألباب




الخدمات العلمية