الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الخامس والتسعون بين قاعدة استقبال الجهة في الصلاة وبين قاعدة استقبال السمت )

اعلم أنه قد وقع في المذاهب عامة قولهم إن القاعدة أن استقبال الجهة يكفي وآخرون يقولون بل القاعدة أن استقبال سمت الكعبة لا بد منه ، وهذه المقالات والإطلاقات في غاية الإشكال بسبب [ ص: 152 ] أمور

أحدها أن الكلام في هذا إنما وقع فيمن بعد عن الكعبة أما من قرب فإن فرضه استقبال السمت قولا واحدا ، والذي بعد لا يقول أحد إن الله تعالى أوجب عليه استقبال عين الكعبة ومقابلتها ومعاينتها فإن ذلك تكليف ما لا يطاق بل الواجب عليه أن يبذل جهده في تعيين جهة يغلب على ظنه أن الكعبة وراءها ، وإذا غلب على ظنه بعد بذل الجهد في الأدلة الدالة على الكعبة أنها وراء الجهة التي عينتها أدلته ، وجب عليه استقبالها إجماعا فصارت الجهة مجمعا عليها والسمت الذي هو العين والمعاينة مجمع على عدم التكليف به ، وإذا كان الإجماع في الصورتين فأين يكون الخلاف [ ص: 153 ]

وثانيها أن الصف الطويل أجمع الناس على صحة صلاته مع أنه خرج بعضه عن السمت قطعا فإن الكعبة عرضها عشرون ذراعا وطولها خمسة وعشرون ذراعا على ما قيل ، والصف الطويل مائة ذراع فأكثر فبعضه خارج عن السمت قطعا فقولهم إن القاعدة استقبال السمت مشكل . وثالثها أن البلدين المتقاربين يكون استقبالهما واحدا مع أنا نقطع بأنهما أطول من سمت الكعبة ولم يقل أحد بأن صلاة أحدهما صحيحة والأخرى باطلة ولو قيل ذلك لكان ترجيحا من غير مرجح فإنه ليس إحداهما أولى من الأخرى بالبطلان فهذه أمور مجمع عليها كلها وجميعها يقتضي الإشكال على هاتين القاعدتين .

الجواب عنه وهو سر الفرق ما كان يذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى بعد أن كان يورد هذا الإشكال فلا يجيبه أحد عنه فكان يقول الشيء قد يجب إيجاب الوسائل ، وقد يجب إيجاب المقاصد فالأول كالنظر في أوصاف المياه فإنه واجب وجوب الوسائل فإنه يتوسل به إلى معرفة الطهورية وكالنظر في قيم المتلفات فإنه وسيلة إلى معرفة قيمة المتلف ، وكالسعي إلى الجمعة واجب ؛ لأنه وسيلة إلى إيقاعها في الجامع ، وكذلك السفر إلى الحج وهو كثير في الشريعة ، ومثال ما يجب وجوب المقاصد الصلوات الخمس وصوم رمضان والحج والعمرة والإيمان والتوحيد وغير ذلك مما هو واجب ؛ لأنه مقصد لنفسه لا ؛ لأنه وسيلة لغيره [ ص: 154 ] إذا تقررت هذه القاعدة فاختلف الناس في الجهة هل هي واجبة وجوب الوسائل ، وأن النظر فيها إنما هو لتحصيل عين الكعبة وهو مذهب الشافعي رحمه الله ، وإذا أخطأ في الجهة وجبت الإعادة ؛ لأن القاعدة أيضا أن الوسيلة إذا لم يحصل مقصدها سقط اعتبارها والنظر في الجهة واجب وجوب المقاصد ، وأن الكعبة لما بعدت عن الأبصار جدا ، وتعذر الجزم بحصولها جعل الشرع الاجتهاد في الجهة هو الواجب نفسه ، وهو المقصود دون عين الكعبة فإذا اجتهد ثم تبين خطؤه لا تجب عليه الإعادة .

وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى فعلى هذا التقرير يصير الخلاف في السمت هل يجب وجوب المقاصد أو لا يجب ألبتة لا وجوب المقاصد ولا وجوب الوسائل ؛ لأنه ليس وسيلة لغيره قولان وهل تجب الجهة وجوب المقاصد أم وجوب الوسائل قولان هذا هو توجيه القولين في كل واحدة [ ص: 155 ] من القاعدتين فعلى هذا تكون الجهة واجبة بالإجماع إنما الخلاف في صورة وجوبها هل وجوب الوسائل أو المقاصد ، ويكون السمت ليس واجبا مطلقا إلا على أحد القولين فإنه واجب وجوب المقاصد فقول العلماء هل الواجب الجهة أو السمت قولان يصح فيه قيد لطيف فيكون معناه هل الواجب وجوب المقاصد السمت أو الجهة ؟ قولان فبهذا القيد استقام حكاية الخلاف ، واتضح أيضا به تخريج الخلاف هل تجب الإعادة على من أخطأ في اجتهاده أم لا ؟ قولان مبنيان على أن الجهة واجبة وجوب المقاصد ، وقد حصل الاجتهاد فيها وهو الواجب عليه فقط لا شيء وراءه أو واجبة وجوب الوسائل فتجب الإعادة ؛ لأن الوسيلة إذا لم تفض إلى مقصودها سقط اعتبارها واتضح الخلاف والتخريج ، واندفع الإشكال حينئذ بهذا القيد الزائد وبهذا التقرير [ ص: 156 ]

وأما الجواب عن الصف الطويل فهو أن الله تعالى إنما أوجب علينا أن نستقبل الكعبة الاستقبال العادي لا الحقيقي ، والعادة أن الصف الطويل إذا قرب من الشيء القصير الذي يستقبل يكون أطول منه ، ويجد بعضهم نفسه خارجة عن ذلك الشيء المستقبل الذي هو أقصر من الصف الطويل ، وإذا بعد ذلك الصف الطويل بعدا كثيرا عن ذلك الشيء القصير يجد كل واحد ممن في ذلك الصف الطويل نفسه مستقبلا لذلك الشيء القصير في نظر العين بسبب البعد ، ألا ترى أن النخلة البعيدة أو الشجرة إذا استقبلها الركب العظيم الكثير العدد من البعد يجد كل واحد من أهل الركب أو القافلة نفسه قبالة تلك الشجرة ، ويقول الركب بجملته نحن قبالة تلك الشجرة ، ونحن سائرون إليها وإذا قربوا من الشجرة جدا لم يبق قبالتها إلا النفر اليسير من ذلك الركب فكذلك الصف الطويل بمصر أو بخراسان لو كشف الغطاء بينهم وبين الكعبة المعظمة بحيث كان كل واحد منهم يبصر الكعبة لرأى نفسه قبالة الكعبة بسبب البعد كما قلنا في الركب مع الشجرة فقد حصل في حقهم الاستقبال العادي ، وهو المطلوب الشرعي وكذلك نقول في البلدين المتقاربين لو كشف الغطاء بينهما وبين الكعبة لرأى كل واحد منهم نفسه قبالة الكعبة ، فهما كالصف الطويل سواء والجميع مبني على هذه القاعدة وهي أن [ ص: 157 ] الله تعالى إنما أمر بالاستقبال العادي دون الحقيقي مع البعد ومع القرب الواجب الاستقبال الحقيقي .

حتى إنه إذا صف صف مع حائط الكعبة فصادف أحدهم نصفه قبالة الكعبة ونصفه خارجا عنها بطلت صلاته ؛ لأنه مأمور بأن يستقبل بجملته الكعبة فإذا لم يحصل ذلك استدار ، وكذلك الصف الطويل بقرب الكعبة يصلون دائرة أو قوسا إن قصروا عن الدائرة وفي البعد يصلون خطا مستقيما بسبب ما تقدم من التقرير ، وأنهم إذا كانوا خطا مع البعد يكونون مستقبلين عادة بخلافهم مع القرب فقد ظهر الفرق بين قاعدة استقبال السمت وبين قاعدة استقبال الجهة .

وصح جريان الخلاف في ذلك واندفعت الإشكالات التي عليها وهو من المواطن الجليلة التي يحتاج إليها الفقهاء ، ولم أر أحدا حرره هذا التحرير إلا الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله وقدس روحه فلقد كان شديد التحرير لمواضع كثيرة في الشريعة معقولها ومنقولها ، وكان يفتح عليه بأشياء لا توجد لغيره رحمه الله رحمة واسعة .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال : ( الفرق الخامس والتسعون بين قاعدة استقبال الجهة في الصلاة وبين قاعدة استقبال السمت إلى قوله [ ص: 152 ] وإذا كان الإجماع في الصورتين فأين يكون الخلاف ) قلت أما معاين الكعبة فلا خلاف في أن فرضه استقبال سمتها كما ذكر .

وأما غير المعاين فنقل الخلاف فيه معروف هل فرضه استقبال السمت كالمعاين أم فرضه استقبال الجهة وظاهر المنقول عن القائلين بالسمت أنهم يريدون بذلك أن المستقبل للكعبة فرضه أن يكون بحيث لو قدر خروج خط مستقيم على زوايا قائمة من بين عينيه نافذا إلى غير نهاية لمر بالكعبة قاطعا لها لا أنهم يريدون أن فرضه استقبال عينها ومعاينتها فإن ذلك كما قال من تكليف ما لا يطاق ولا قائل به فالذي يظهر أنه مرادهم يلزم منه تكليف ما لا يطاق إذ فيه تكليف المعاينة مع عدمها ، والوجه الآخر ليس فيه ذلك فالخلاف معجم في الجهة هل هي المطلوب أم لا وفي السمت هل هو المطلوب أم لا ، لكن ترجيح القول بالجهة من الإجماع على صحة صلاة الصف المستقيم الطويل وما في معناه من الموضعين المتحاذيين أو المواضع ، ويرجح أيضا بأن التوصل إلى تحقيق الجهة متيسر على المكلفين أو أكثرهم بخلاف التوصل إلى تحقيق السمت ، والحنيفية سمحة ودين الله يسر [ ص: 153 ]

قال ( وثانيها أن الصف الطويل أجمع الناس على صحة صلاته إلخ ) قلت هو أقوى حجج القائلين بالجهة قال : ( والجواب عنه وهو سر الفرق ما كان يذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى إلى قوله لا أنه وسيلة لغيره ) . قلت : ما ذكره حاكيا له عن عز الدين من أن الواجب على ضربين : واجب وجوب الوسائل ، وواجب وجوب المقاصد صحيح كما ذكر [ ص: 154 ]

قال ( إذا تقررت هذه القاعدة فاختلف الناس في الجهة هل هي واجبة وجوب الوسائل ، وأن النظر فيها إنما هو لتحصيل عين الكعبة ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله وإذا أخطأ في الجهة وجبت الإعادة لأن القاعدة أيضا أن الوسيلة إذا لم يحصل مقصدها سقط اعتبارها ، والنظر في الجهة واجب وجوب المقاصد ، وأن الكعبة لما بعدت من الأبصار جدا وتعذر الجزم بحصولها جعل الشرع الاجتهاد في الجهة هو الواجب نفسه وهو المقصود دون عين الكعبة ، فإذا اجتهد ثم تبين خطؤه لا تجب عليه الإعادة ، وهو مذهب مالك ) قلت : ينبغي أن يكون مراده بالخطأ خطأ عين الكعبة لا خطأ الجهة فإن خطأ الجهة خطأ المقصود فتلزم الإعادة على المذهب كما تقدم في خطأ العين في مذهب الشافعي .

قال : ( فعلى هذا التقرير يصير الخلاف في السمت هل يجب وجوب المقاصد أو لا يجب ألبتة لا وجوب المقاصد ولا وجوب الوسائل ؛ لأنه ليس وسيلة لغيره قولان وهل تجب الجهة وجوب المقاصد أم وجوب الوسائل ؟ قولان هذا هو توجيه القولين في كل واحدة [ ص: 155 ] من القاعدتين ، فعلى هذا تكون الجهة واجبة بالإجماع إنما الخلاف في صورة وجوبها هل وجوب الوسائل أو المقاصد ، ويكون السمت ليس واجبا مطلقا إلا على أحد القولين فإنه واجب وجوب المقاصد ، فقول العلماء هل الواجب الجهة أو السمت ؟ قولان يظهر فيه قيد لطيف فيكون معناه هل الواجب وجوب المقاصد السمت أو الجهة قولان فبهذا القيد استقام حكاية الخلاف ، واتضح أيضا به تخريج الخلاف هل تجب الإعادة على من أخطأ في اجتهاده أم لا ؟ قولان مبنيان على أن الجهة واجبة وجوب المقاصد ، وقد حصل الاجتهاد فيها وهو الواجب عليه فقط لا شيء وراءه ، أو واجبة وجوب الوسائل فتجب الإعادة ؛ لأن الوسيلة إذا لم تفض إلى مقصودها سقط اعتبارها ، واتضح الخلاف والتخريج واندفع الإشكال حينئذ بهذا القيد الزائد وبهذا التقرير ) قلت جميع ما قاله في هذا الفصل تحرير خلاف ولا كلام فيه غير أن الصحيح من الأقوال أن الجهة واجبة وجوب المقاصد ، وأن الإعادة لازمة عند الخطأ والله أعلم [ ص: 156 ] قال : ( وأما الجواب عن الصف الطويل إلى آخر ما قاله في هذا الفرق ) .

قلت : هذا الجواب إنما هو جواب القائلين بالسمت دفعا لاستدلال القائلين بالجهة عليهم بالصف الطويل ، وللقائلين بالجهة أن يقولوا سلمنا صحة هذا الجواب ؛ لأنه محصل لمقصودنا من القول بالجهة وغير محصل لمقصودكم من القول بالسمت الحقيقي الذي هو العين من غير شرط المعاينة لتعذر ذلك مع البعد ومآل قولكم بالسمت العادي غير الحقيقي إلى قولنا بالجهة ، فعلى التحقيق ذلك الجواب ليس بجواب [ ص: 157 ] بل تسليم لقول المخالف والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الخامس والتسعون بين قاعدة استقبال الجهة في الصلاة وبين قاعدة استقبال السمت ) لا خلاف في أن فرض من قرب من الكعبة وعاينها استقبال السمت أي عينها فإذا صف صف مع حائط الكعبة فصلاة الخارج عنها ببدنه أو ببعضه باطلة ؛ لأنه مأمور بأن يستقبل بجملته الكعبة فإن لم يحصل له ذلك استدار ، وكذلك الصف الطويل بقرب الكعبة يصلون دائرة وقوسا إن قصروا عن الدائرة قال ابن الحاجب أما لو خرج عن السمت بالمسجد الحرام لم يصح أي لكونه خالف ما أمر به ، وكذا من بمكة أي فتجب عليه المسامتة لقدرته على ذلك بأن يطلع على سطح أو غيره ، ويعرف سمت الكعبة بالمحل الذي هو فيه فإن لم يقدر استدل أي إن من كان في بيته ولم يقدر على الخروج أو كان بليل مظلم فإنه يستدل بأعلام البيت مثل جبل أبي قبيس ونحو ذلك ، أو يستدل بالمطالع أو المغارب إن كان له علم بذلك فإن قدر بمشقة أي على المسامتة كما لو كان يحتاج إلى صعود السطح ، وهو شيخ كبير أو مريض ففي الاجتهاد نظر أي تردد حكاه ابن شاس عن بعض المتأخرين .

قال ابن رشد الصواب المنع ا هـ بتوضيح من شرحي خليل وابن فرحون قال الحطاب هذا ما نعرفه لأصحابنا ، وما حكي عن مالك أنه قال الكعبة قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة أهل مكة والحرم قبلة أهل الدنيا فهذا النقل عنه غريب ، وما أخرجه البيهقي في سننه من حديث عمر بن حفص المكي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض } فقال الترمذي تفرد به عمر بن حفص [ ص: 170 ] وهو ضعيف لا يحتج به والحمل فيه عليه ا هـ .

وإنما الخلاف فيمن بعد عن الكعبة بأن كان بغير مكة هل فرضه استقبال السمت كالمعاين أو فرضه استقبال الجهة قولان في المذهب وخارجه ، ويرجع للثاني أمران

أحدهما أن الأول وإن كان ظاهر المنقول عن القائلين به أنهم لا يريدون بذلك أن المستقبل للكعبة فرضه استقبال عينها ومعاينتها حتى يقال إنه من تكليف ما لا يطاق ولا قائل به ، وإنما يريدون أن فرضه أن يكون بحيث لو قدر خروج خط مستقيم على زوايا قائمة من بين عينيه نافذا إلى غير نهاية لمر بالكعبة قاطعا لها إلا أنه يلزم من هذا الذي يظهر أنه مرادهم تكليف ما لا يطاق إذ فيه تكليف السمت والمعاينة مع عدمها بخلاف القول بالجهة فإنه ليس فيه ذلك ، وإنما فيه التكليف بتحقيق الجهة ، والتوصل إليه متيسر على جميع المكلفين أو أكثرهم . وثانيهما إجماع الناس على صحة صلاة الصف المستقيم الطويل الذي طوله مائة ذراع فأكثر ، وصحة صلاة ما في معناه من الموضعين المتحاذيين أو المواضع مع أن بعض الصف وأحد الموضعين أو المواضع خارج عن السمت قطعا فإن الكعبة على ما قيل عرضها عشرون ذراعا وطولها خمسة وعشرون ذراعا ، والجواب عن الأمر الثاني بأن القول بالسمت مبني على قاعدة : إن الله تعالى إنما أوجب علينا أن نستقبل الكعبة الاستقبال العادي لا الحقيقي ، والعادة أن الصف الطويل إذا قرب من الشيء القصير الذي يستقبل يكون أطول منه ، ويجد بعضهم نفسه خارجة عن ذلك الشيء المستقبل الذي هو قصير من الصف الطويل .

وإذا بعد ذلك الصف الطويل بعدا كثيرا عن ذلك الشيء القصير بأن كان بمصر أو خراسان يجد كل واحد ممن في ذلك الصف الطويل نفسه مستقبلا لذلك الشيء القصير في نظر العين بسبب البعد ، ألا ترى أن النخلة البعيدة أو الشجرة إذا استقبلهما الركب العظيم الكثير العدد من البعد يجد كل واحد من أهل الركب نفسه قبالة تلك الشجرة أو النخلة ، ويقول الراكب بجملته نحن قبالة تلك الشجرة أو النخلة ونحن سايرون إليها .

وإذا قربوا منها جدا لم يبق قبالتها إلا النفر اليسير من ذلك الركب ، وكذلك البلدان المتقاربان لو كشف الغطاء بين من فيهما وبين الكعبة لرأى كل واحد منهم نفسه قبالة الكعبة فيه نظر ؛ لأن القول بالسمت العادي دون الحقيقي مآله إلى القول بالجهة فهو على التحقيق تسليم لقول المخالف وتحرير الخلاف المذكور وسر الفرق بين قاعدة : إن استقبال الجهة يكفي عند القائلين بها وبين قاعدة : إن استقبال السمت لا بد منه عند القائلين بها هو ما كان يذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى جوابا عن استشكاله أن من بعد عن مكة لا يقول أحد إن الله تعالى أوجب عليه استقبال عين الكعبة ومقابلتها ومعاينتها ، فإن ذلك تكليف ما لا يطاق بل الواجب عليه أن يبذل جهده في تعيين جهة يغلب على ظنه أن الكعبة وراءها ، وإذا غلب على ظنه بعد ذلك أنها وراء الجهة التي عينتها أدلته ، وجب عليه استقبالها إجماعا فصارت الجهة مجمعا عليها والسمت الذي هو العين والمعاينة مجمع على عدم التكليف به ، وإذا كان الإجماع في الصورتين فأين يكون الخلاف بقوله الشيء قد يجب إيجاب الوسائل وهو كثير في الشريعة كالنظر [ ص: 171 ] في أوصاف المياه المتوسل به إلى معرفة الطهورية ، وفي قيم المتلفات المتوسل به إلى معرفة قيمة المتلف والسعي إلى الجمعة المتوسل به إلى إيقاعها في الجامع ، والسفر إلى الحج المتوسل به إلى إيقاعه بعرفة وحول الكعبة .

وقد يجب إيجاب المقاصد وهو كثير في الشريعة أيضا كالصلوات الخمس وصوم رمضان والحج والعمرة وغير ذلك مما هو واجب ؛ لأنه مقصد لنفسه لا لأنه وسيلة لغيره فعلى قاعدة أن استقبال الجهة يكفي يكون النظر في الجهة واجبا وجوب المقاصد ، وذلك لأن الكعبة لما بعدت عن الإبصار جدا وتعذر الجزم بحصولها جعل الشرع الاجتهاد في الجهة هو الواجب نفسه وهو المقصود دون عين الكعبة ، فلا يجب ألبتة فإذا اجتهد ثم تبين أنه أخطأ عين الكعبة لا تجب عليه الإعادة أما إذا أخطأ الجهة فقد أخطأ المقصود فيلزم الإعادة ، وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى وعلى قاعدة أن استقبال السمت لا بد منه يكون النظر في الجهة واجبا وجوب الوسائل ، وذلك لأنه إنما هو لتحصيل عين الكعبة الذي هو الواجب المقصود لنفسه فإذا أخطأ العين في اجتهاده في الجهة وجبت الإعادة ؛ لأن القاعدة أن الوسيلة إذا لم يحصل مقصدها سقط اعتبارها ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى وبالجملة فالخلاف في كل من السمت والجهة أما في السمت فهو أنه هل يجب وجوب المقاصد أو لا يجب مطلقا لا وجوب المقاصد ولا وجوب الوسائل ؛ لأنه ليس وسيلة لغيره ؟ قولان ، وأما في الجهة فهو أنها هل تجب وجوب المقاصد أو وجوب الوسائل ؟ قولان فالجهة واجبة بالإجماع ، وإنما الخلاف في صورة وجوبها هل وجوب الوسائل أو المقاصد وفي السمت هل يجب وجوب المقاصد أو لا مطلقا .

فقول العلماء : هل الواجب الجهة أو السمت ؟ قولان فيه قيد محذوف تقديره هل الواجب وجوب المقاصد السمت أو الجهة ؟ قولان وبهذا القيد يتضح أن القولين في أنه هل تجب الإعادة على من أخطأ في اجتهاده أم لا مبنيان على الخلاف في أن الجهة هل تجب وجوب المقاصد ، فإذا حصل الاجتهاد فيها فلا إعادة ، وإن أخطأ العين لأنه قد أدى الواجب عليه أو تجب وجوب الوسائل فإذا حصل الاجتهاد فيها وأخطأ العين وجبت الإعادة ؛ لأن الوسيلة إذا لم تفض إلى مقصودها سقط اعتبارها ، والصحيح من الأقوال أن الجهة واجبة وجوب المقاصد ، وأن الإعادة لازمة عند تبين الخطأ فيها لا في العين فافهم والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية