الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 6401 ) مسألة : قال : ( والمطلقة ثلاثا ، تتوقى الطيب ، والزينة ، والكحل بالإثمد ) اختلفت الرواية عن أحمد ، في وجوب الإحداد على المطلقة البائن ; فعنه ، يجب عليها . وهو قول سعيد بن المسيب ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي . والثانية ، لا يجب عليها . وهو قول عطاء ، وربيعة ، ومالك ، وابن المنذر ونحوه قول الشافعي ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ، أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال ، إلا على زوج ، أربعة أشهر وعشرا } . وهذه عدة الوفاة ، فيدل على أن الإحداد إنما يجب في عدة الوفاة ; ولأنها معتدة عن غير وفاة ، فلم يجب عليها الإحداد ، كالرجعية ، والموطوءة بشبهة ، ولأن الإحداد في عدة الوفاة لإظهار الأسف على فراق زوجها وموته ، فأما الطلاق فإنه فارقها باختيار نفسه ، وقطع نكاحها ، فلا معنى لتكليفها الحزن عليه ; ولأن المتوفى عنها لو أتت بولد ، لحق الزوج ، وليس له من ينفيه ، فاحتيط عليها بالإحداد ، لئلا يلحق بالميت من ليس منه ، بخلاف المطلقة ، فإن زوجها باق ، فهو يحتاط عليها بنفسه ، وينفي ولدها إذا كان من غيره .

                                                                                                                                            ووجه الرواية الأولى ، أنها معتدة بائن من نكاح ، فلزمها الإحداد ، كالمتوفى عنها زوجها ، وذلك لأن العدة تحرم النكاح ، فحرمت دواعيه . ويخرج على هذا الرجعية ، فإنها زوجة ، والموطوءة بشبهة ليست معتدة من نكاح ، فلم تكمل [ ص: 132 ] الحرمة . فأما الحديث ، فإنما مدلوله تحريم الإحداد على ميت غير الزوج ، ونحن نقول به ; ولهذا جاز الإحداد هاهنا بالإجماع ، فإذا قلنا يلزمها الإحداد ، لزمها شيئان ; توقي الطيب ، والزينة في نفسها ، على ما قدمنا فيها ، ولا تمنع من النقاب ، ولا من الاعتداد في غير منزلها ، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس ، أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم . على ما سنذكره ، إن شاء الله تعالى . ( 6402 )

                                                                                                                                            فصل : وإذا كانت المبتوتة حاملا ، وجب لها السكنى ، رواية واحدة . ولا نعلم بين أهل العلم خلافا فيه ، وإن لم تكن حاملا ففيها روايتان ; إحداهما ، لا يجب لها ذلك . وهو قول ابن عباس ، وجابر . وبه قال عطاء ، وطاووس ، والحسن ، وعمرو بن ميمون ، وعكرمة ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود . والثانية يجب لها ذلك ، وهو قول ابن مسعود ، وابن عمر ، وعائشة ، وسعيد بن المسيب ، والقاسم ، وسالم ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وخارجة بن زيد ، وسليمان بن يسار ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ; لقول الله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } .

                                                                                                                                            وقال تعالى { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } . فأوجب لهن السكنى مطلقا ، ثم خص الحامل بالإنفاق عليها . ولنا ما روت فاطمة بنت قيس ، { أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة ، وهو غائب ، فأرسل إليها وكيله بشعير ، فتسخطته ، فقال والله ما لك علينا من شيء . فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، فقال لها : ليس لك عليه نفقة ولا سكنى . فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، ثم قال : إن تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي في بيت ابن أم مكتوم } متفق عليه . فإن قيل : فقد أنكر عليها عمر ، وقال ما كنا لندع كتاب ربنا ، وسنة نبينا ، لقول امرأة ، لا ندري أصدقت أم كذبت .

                                                                                                                                            وقال عروة : لقد عابت عائشة ذلك أشد العيب ، ؟ وقال : إنها كانت في مكان وحش ، فخيف على ناحيتها . ؟ وقال : سعيد بن المسيب ، تلك امرأة فتنت الناس ، إنها كانت لسنة ، فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى . قلنا : أما مخالفة الكتاب ، فإن فاطمة لما أنكروا عليها ، قالت : بيني وبينكم كتاب الله ، قال الله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } . فأي أمر يحدث بعد الثلاث ؟ فكيف تقولون : لا نفقة لها ، إذا لم تكن حاملا فعلام تحبسونها ؟ فكيف تحبس امرأة بغير نفقة ؟ وأما قولهم : إن عمر قال : لا ندع كتاب ربنا .

                                                                                                                                            فقد أنكر أحمد هذا القول عن عمر ، قال ولكنه قال : لا نجيز في ديننا قول امرأة . وهذا مجمع على خلافه ، وقد أخذنا بخبر فريعة ، وهي امرأة ، وبرواية عائشة وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام ، وصار أهل العلم إلى خبر فاطمة هذا في كثير من الأحكام ، مثل سقوط نفقة المبتوتة إذا لم تكن حاملا ، ونظر المرأة إلى الرجال ، وخطبة الرجل ، على خطبة أخيه إذا لم تكن سكنت إلى الأول . [ ص: 133 ]

                                                                                                                                            وأما تأويل من تأول حديثها ، فليس بشيء فإنها تخالفهم في ذلك ، وهي أعلم بحالها ، ولم يتفق المتأولون على شيء ، وقد رد على من رد عليها ، فقال ميمون بن مهران لسعيد بن المسيب ، لما قال : تلك امرأة فتنت الناس : لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فتنت الناس ، وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، مع أنها أحرم الناس عليه ، ليس له عليها رجعة ، ولا بينهما ميراث . وقول عائشة : إنها كانت في مكان وحش . لا يصح ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل بغير ذلك ، فقال : { يا ابنة آل قيس ، إنما السكنى والنفقة ما كان لزوجك عليك الرجعة } . هكذا رواه الحميدي ، والأثرم . ولأنه لو صح ما قالته عائشة أو غيرها من التأويل ، ما احتاج عمر في رده إلى أن يعتذر بأنه قول امرأة .

                                                                                                                                            ثم فاطمة صاحبة القصة ، وهي أعرف بنفسها وبحالها ، وقد أنكرت على من أنكر عليها ، وردت على من رد خبرها ، أو تأوله بخلاف ظاهره ، فيجب تقديم قولها ; لمعرفتها بنفسها ، وموافقتها ظاهر الخبر ، كما في سائر ما هذا سبيله .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية