الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل المكاشفة

قال صاحب المنازل :

( باب المكاشفة ) قال الله تعالى : فأوحى إلى عبده ما أوحى .

وجه احتجاجه بإشارة الآية : أن الله سبحانه كشف لعبده صلى الله عليه وسلم ما لم يكشفه لغيره ، وأطلعه على ما لم يطلع عليه غيره ، فحصل لقلبه الكريم من انكشاف الحقائق التي لا تخطر ببال غيره ما خصه الله به ، والإيحاء هو الإعلام السريع الخفي ، ومنه الوحا الوحا ؛ أي : الإسراع الإسراع .

قوله : " ما أوحى " أبهمه لعظمه ، فإن الإبهام قد يقع للتعظيم ، ونظيره قوله تعالى : فغشيهم من اليم ما غشيهم أي : أمر عظيم فوق الصفة .

[ ص: 210 ] قال الشيخ : المكاشفة : مهاداة السر بين متباطنين ، يريد أن المكاشفة إطلاع أحد المتحابين المتصافيين صاحبه على باطن أمره وسره .

قوله : " مهاداة السر " أي : تردد السر على وجه الإلطاف والمودة .

قوله : " بين متباطنين " يعني بالمتباطنين : باطن المكاشف والمكاشف ، فيحمل سر كل منهما إلى الآخر ، كما يحمل إليه هديته ، فيسري سر كل واحد منهما إلى الآخر ، وإذا بلغ العبد في مقام المعرفة إلى حد كأنه يطالع ما اتصف به الرب سبحانه من صفات الكمال ، ونعوت الجلال ، وأحست روحه بالقرب الخاص الذي ليس هو كقرب المحسوس من المحسوس ، حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربه ، فإن حجابه هو نفسه ، وقد رفع الله سبحانه عنه ذلك الحجاب بحوله وقوته أفضى القلب والروح حينئذ إلى الرب ، فصار يعبده كأنه يراه ، فإذا تحقق بذلك ، وارتفع عنه حجاب النفس ، وانقشع عنه ضبابها ودخانها وكشطت عنه سحبها وغيومها ، فهناك يقال له :


بذلك سر طال عنك اكتتامه ولاح صباح كنت أنت ظلامه     فأنت حجاب القلب عن سر غيبه
ولولاك لم يطبع عليه ختامه     فإن غبت عنه حل فيه وطنبت
على منكب الكشف المصون خيامه     وجاء حديث لا يمل سماعه
شهي إلينا نثره ونظامه     إذا ذكرته النفس زال عناؤها
وزال عن القلب الكئيب قتامه

فلذلك قال الشيخ : وهي في هذا الباب : بلوغ ما وراء الحجاب وجودا .

قوله : " وجودا " احتراز من بلوغه سماعا وعلما ، وكثيرا ما يلتبس على العبد أحدهما بالآخر ، فأين وجود الحقيقة من العلم بها ومعرفتها ؟ كما تقدم ذلك مرارا ، فتعلق العلم بالقلب شيء ، واتصافه بالمعلوم شيء آخر .

فمن الناس من يتعلق به سماع ذلك دون فهمه ، ومنهم من يتعلق به فهمه دون حقيقته ، والتعلق الكامل أن يتعلق به وجوده ، فلذلك قال : بلوغ ما وراء الحجاب وجودا .

قال الشيخ : وهي على ثلاث درجات ؛ الدرجة الأولى : مكاشفة تدل على التحقيق الصحيح ، وهي لا تكون مستدامة ، فإذا كانت حينا دون حين ، ولم يعارضها [ ص: 211 ] تفرق ، غير أن الغين ربما شاب مقامه ، على أنه قد بلغ مبلغا لا يلفته قاطع ، ولا يلويه سبب ، ولا يقتطعه حظ ، وهي درجة القاصد ، فإذا استدامت فهي الدرجة الثانية .

المكاشفة الصحيحة : علوم يحدثها الرب سبحانه وتعالى في قلب العبد ، ويطلعه بها على أمور تخفى على غيره ، وقد يواليها وقد يمسكها عنه بالغفلة عنها ، ويواريها عنه بالغين الذي يغشى قلبه ، وهو أرق الحجب ، أو بالغيم ، وهو أغلظ منه أو بالران ، وهو أشدها .

فالأول : يقع للأنبياء عليهم السلام ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله أكثر من سبعين مرة .

والثاني : يكون للمؤمنين . والثالث : لمن غلبت عليه الشقوة ، قال الله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال ابن عباس وغيره : هو الذنب بعد الذنب يغطي القلب حتى يصير كالران عليه .

والحجب عشرة الأول : حجاب التعطيل ، ونفي حقائق الأسماء والصفات ، وهو أغلظها ، فلا يتهيأ لصاحب هذا الحجاب أن يعرف الله ، ولا يصل إليه ألبتة إلا كما يتهيأ للحجر أن يصعد إلى فوق .

الثاني : حجاب الشرك ، وهو أن يتعبد قلبه لغير الله .

الثالث : حجاب البدعة القولية ، كحجاب أهل الأهواء ، والمقالات الفاسدة على اختلافها .

الرابع : حجاب البدعة العملية ، كحجاب أهل السلوك المبتدعين في طريقهم وسلوكهم .

الخامس : حجاب أهل الكبائر الباطنة ، كحجاب أهل الكبر والعجب والرياء والحسد ، والفخر والخيلاء ونحوها .

السادس : حجاب أهل الكبائر الظاهرة ، وحجابهم أرق من حجاب إخوانهم من أهل الكبائر الباطنة ، مع كثرة عباداتهم وزهاداتهم واجتهاداتهم ، فكبائر هؤلاء أقرب إلى التوبة من كبائر أولئك ، فإنها قد صارت مقامات لهم لا يتحاشون من إظهارها وإخراجها في قوالب عبادة ومعرفة ، فأهل الكبائر الظاهرة أدنى إلى السلامة منهم . [ ص: 212 ] وقلوبهم خير من قلوبهم .

السابع : حجاب أهل الصغائر .

الثامن : حجاب أهل الفضلات ، والتوسع في المباحات .

التاسع : حجاب أهل الغفلة عن استحضار ما خلقوا له وأريد منهم ، وما لله عليهم من دوام ذكره وشكره وعبوديته .

العاشر : حجاب المجتهدين السالكين ، المشمرين في السير عن المقصود .

فهذه عشر حجب بين القلب وبين الله سبحانه وتعالى ، تحول بينه وبين هذا الشأن ، وهذه الحجب تنشأ من أربعة عناصر : عنصر النفس ، وعنصر الشيطان ، وعنصر الدنيا ، وعنصر الهوى ، فلا يمكن كشف هذه الحجب مع بقاء أصولها وعناصرها في القلب ألبتة .

وهذه الأربعة العناصر : تفسد القول والعمل والقصد والطريق بحسب غلبتها وقلتها ، فتقطع طريق القول والعمل والقصد : أن يصل إلى القلب ، وما وصل منه إلى القلب قطعت عليه الطريق : أن يصل إلى الرب ، فبين القول والعمل وبين القلب مسافة يسافر فيها العبد إلى قلبه ليرى عجائب ما هنالك ، وفي هذه المسافة قطاع الطريق المذكورون ، فإن حاربهم وخلص العمل إلى قلبه دار فيه ، وطلب النفوذ من هناك إلى الله ، فإنه لا يستقر دون الوصول إليه وأن إلى ربك المنتهى فإذا وصل إلى الله سبحانه أثابه عليه مزيدا في إيمانه ويقينه ، ومعرفته وعقله ، وجمل به ظاهره وباطنه ، فهداه به لأحسن الأخلاق والأعمال ، وصرف عنه به سيئ الأخلاق والأعمال ، وأقام الله سبحانه من ذلك العمل للقلب جندا يحارب به قطاع الطريق للوصول إليه ، فيحارب الدنيا بالزهد فيها وإخراجها من قلبه ، ولا يضره أن تكون في يده وبيته ، ولا يمنع ذلك من قوة يقينه بالآخرة ، يحارب الشيطان بترك الاستجابة لداعي الهوى ، فإن الشيطان مع الهوى لا يفارقه ، ويحارب الهوى بتحكيم الأمر المطلق والوقوف معه ، بحيث لا يبقى له هوى فيما يفعله ويتركه ، ويحارب النفس بقوة الإخلاص .

هذا كله إذا وجد العمل منفذا من القلب إلى الرب سبحانه وتعالى ، وإن دار فيه ولم يجد منفذا وثبت عليه النفس ، فأخذته وصيرته جندا لها ، فصالت به وعلت [ ص: 213 ] وطغت ، فتراه أزهد ما يكون ، وأعبد ما يكون ، وأشد اجتهادا ، وهو أبعد ما يكون عن الله ، وأصحاب الكبائر أقرب قلوبا إلى الله منه ، وأدنى منه إلى الإخلاص والخلاص .

فانظر إلى السجاد العباد الزاهد الذي بين عينيه أثر السجود ، كيف أ‍ورثه طغيان عمله أن أنكر على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأورث أصحابه احتقار المسلمين ، حتى سلوا عليهم سيوفهم ، واستباحوا دماءهم .

وانظر إلى الشريب السكير الذي كان كثيرا ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيحده على الشراب ، كيف قامت به قوة إيمانه ويقينه ، ومحبته لله ورسوله ، وتواضعه وانكساره لله حتى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لعنه .

فظهر بهذا : أن طغيان المعاصي أسلم عاقبة من طغيان الطاعات .

وقد روى الإمام أحمد في كتاب الزهد أن الله سبحانه أوحى إلى موسى صلى الله عليه وسلم : يا موسى ، أنذر الصديقين ، فإني لا أضع عدلي على أحد إلا عذبته من غير أن أظلمه ، وبشر الخطائين ، فإنه لا يتعاظمني ذنب أن أغفره ، فلنرجع إلى شرح كلامه .

قوله : " مكاشفة تدل على التحقيق الصحيح " كل يدعي أن التحقيق الصحيح معه .


وكل يدعون وصال ليلى     وليلى لا تقر لهم بذاك
[ ص: 214 ] إذا اشتبكت دموع في خدود     تبين من بكى ممن تباكى

فليس التحقيق الصحيح : إلا المطابق لما عليه الأمر في نفسه ، وهو في العلم الكشف المطابق لما أخبر به الرسل ، وفي الإرادة : الكشف المطابق لمراد الرب الديني من عبده ، وقولنا " الديني " احتراز من مراده الكوني ، فإن كل ما في الكون موجب هذه الإرادة .

فالكشف الصحيح : أن يعرف الحق الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه معاينة لقلبه ، ويجرد إرادة القلب له ، فيدور معه وجودا وعدما ، هذا هو التحقيق الصحيح ، وما خالفه فغرور قبيح .

قوله : " وهي لا تكون مستدامة " هكذا رأيته في نسخ وفي أخرى " وهي أن تكون مستديمة " وكأن هذا الثاني أصح ؛ لأن سياق الكلام يدل على ذلك ، وأنها غير مستدامة في الدرجة الأولى ، فإذا استدامت صارت في الدرجة الثانية ، وبذلك يحصل الاختلاف بين الدرجتين ، وإلا فلو كانت مستدامة فيهما لكانت الدرجتان واحدة .

قوله : فإذا كانت حينا دون حين ، ولم يعارضها تفرق .

يعني : فهي الدرجة الأولى ، بشرط أن لا يقطع حكمها تفرق ، ولهذا قال : لم يعارضها ، ولم يقل : لم يعرض لها ، فإن التفرق لا بد أن يعرض ، لكن لا يعارضها ويقاومها بحيث يزيلها ، فإن العارض إذا عرض للقلب كرهه ومحاه وأزاله بسرعة .

وأما المعارض : فإنه يزيل الحاصل ويخلفه ، فيصير الحكم له ، فلذلك قال : غير أن الغين ربما شاب مقامه ، على أنه قد بلغ مبلغا ، إلى آخره .

يعني : أن لوازم البشرية لا بد له منها ، ولو لم يكن إلا أخفها ، وهو الحجاب الرقيق الذي يعرض لقلبه ، وهو الغين لكنه لا يضره ؛ لأنه قد بلغ مبلغا لا يلفته قاطع أي : لا توجب له القواطع التفات قلبه عن مقامه إليها ، بل إذا لحظها بقلبه فر منها ، كما يفر الظبي من الكلب الصائد إذا أحس به ولا يلويه سبب ؛ أي : لا يعوج قصده للحق سبب من الأسباب ، ولا يرده عنه .

قوله : " ولا يقطعه حظ " أي : لا يقطعه عن بلوغ مقصوده حظ من الحظوظ النفسية ، و " القاصد " في هذه الدرجة : هو الذي قد ظفر بالقصد الذي لا يلقى سببا إلا قطعه ، ولا حائلا إلا منعه ، ولا تحاملا إلا سهله . فهذه درجة القاصد ، فإذا استدامت وتمكن فيها السالك فهي الدرجة الثانية .

[ ص: 215 ] قال الشيخ : وأما الدرجة الثالثة : فمكاشفة عين ، لا مكاشفة علم ، وهي مكاشفة لا تذر سمة تشير إلى التذاذ ، أو تلجئ إلى توقف ، أو تنزل إلى رسم ، وغاية هذه المكاشفة المشاهدة .

إنما كانت هذه الدرجة مكاشفة عين لغلبة نور الكشف على القلب ، فتنزلت هذه المكاشفة من القلب ، وحلت منه محل العلم الضروري الذي لا يمكن جحده ولا تكذيبه ، بل صارت للقلب بمنزلة المرئي للبصر ، والمسموع للأذن والوجدانيات للنفس ، وكما أن المشاهدة بالبصر لا تصح إلا مع صحة القوة المدركة ، وعدم الحائل من جسم أو ظلمة ، وانتفاء البعد المفرط فكذلك المكاشفة بالبصيرة تستلزم صحة القلب ، وعدم الحائل والشاغل ، وقرب القلب ممن يكاشفه بأسراره .

وليس مراد الشيخ في هذا الباب : الكشف الجزئي المشترك بين المؤمنين والكفار ، والأبرار والفجار ، كالكشف عما في دار إنسان ، أو عما في يده ، أو تحت ثيابه ، أو ما حملت به امرأته بعد انعقاده ذكرا أو أنثى ، وما غاب عن العيان من أحوال البعد الشاسع ونحو ذلك ، فإن ذلك يكون من الشيطان تارة ، ومن النفس تارة ، ولذلك يقع من الكفار ، كالنصارى ، وعابدي النيران والصلبان ، فقد كاشف ابن صياد النبي صلى الله عليه وسلم بما أضمره له وخبأه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنت من إخوان الكهان فأخبر أن ذلك الكشف من جنس كشف الكهان ، وأن ذلك قدره ، وكذلك مسيلمة الكذاب مع فرط كفره كان يكاشف أصحابه بما فعله أحدهم في بيته وما قاله لأهله ، يخبره به شيطانه ، ليغوي الناس ، وكذلك الأسود العنسي ، والحارث المتنبي الدمشقي الذي خرج في دولة عبد الملك بن مروان ، وأمثال هؤلاء ممن لا يحصيهم إلا الله ، وقد رأينا نحن وغيرنا منهم جماعة ، وشاهد الناس من كشف الرهبان عباد الصليب ما هو معروف .

والكشف الرحماني من هذا النوع : هو مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة رضي الله عنهما : إن امرأته حامل بأنثى ، وكشف عمر رضي الله عنه لما قال : يا سارية الجبل ، وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن .

والمقصود : أن مراد القوم بالكشف في هذا الباب أمر وراء ذلك ، وأفضله [ ص: 216 ] وأجله أن يكشف للسالك عن طريق سلوكه ليستقيم عليها ، وعن عيوب نفسه ليصلحها ، وعن ذنوبه ليتوب منها .

فما أكرم الله الصادقين بكرامة أعظم من هذا الكشف ، وجعلهم منقادين له عاملين بمقتضاه ، فإذا انضم هذا الكشف إلى كشف تلك الحجب المتقدمة عن قلوبهم ، سارت القلوب إلى ربها سير الغيث إذا استدبرته الريح .

فلنرجع إلى شرح كلامه .

فقوله : " الدرجة الثالثة : مكاشفة عين ، لا مكاشفة علم " أي : متعلق هذه المكاشفة عين الحقيقة ، بخلاف مكاشفة العلم ، فإن متعلقها الصورة الذهنية المطابقة للحقيقة الخارجية ، فكشف العلم : أن يكون مطابقا لمعلومه ، وكشف العيان : أن يصير المعلوم مشاهدا للقلب ، كما تشاهد العين المرئي .

ومن ظن من القوم أن كشف العين ظهور الذات المقدسة لعيانه حقيقة فقد غلط أقبح الغلط ، وأحسن أحواله : أن يكون صادقا ملبوسا عليه ، فإن هذا لم يقع في الدنيا لبشر قط ، وقد منع منه كليم الرحمن صلى الله عليه وسلم .

وقد اختلف السلف والخلف : هل حصل هذا لسيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه ؟ فالأكثرون على أنه لم ير الله سبحانه ، وحكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعا من الصحابة ، فمن ادعى كشف العيان البصري عن الحقيقة الإلهية فقد وهم وأخطأ ، وإن قال : إنما هو كشف العيان القلبي ، بحيث يصير الرب سبحانه كأنه مرئي للعبد ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : اعبد الله كأنك تراه فهذا حق ، وهو قوة يقين ، ومزيد علم فقط .

نعم ؛ قد يظهر له نور عظيم ، فيتوهم أن ذلك نور الحقيقة الإلهية ، وأنها قد تجلت له ، وذلك غلط أيضا ، فإن نور الرب تعالى لا يقوم له شيء ، ولما ظهر للجبل منه أدنى [ ص: 217 ] شيء ساخ الجبل وتدكدك ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : لا تدركه الأبصار قال : ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى به لم يقم له شيء .

وهذا النور الذي يظهر للصادق : هو نور الإيمان الذي أخبر الله عنه في قوله : مثل نوره كمشكاة فيها مصباح قال أبي بن كعب : مثل نوره في قلب المؤمن فهذا نور يضاف إلى الرب ، ويقال : هو نور الله ، كما أضافه الله سبحانه إلى نفسه ، والمراد : نور الإيمان الذي جعله الله له خلقا وتكوينا ، كما قال تعالى : ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور فهذا النور إذا تمكن من القلب ، وأشرق فيه فاض على الجوارح ، فيرى أثره في الوجه والعين ، ويظهر في القول والعمل ، وقد يقوى حتى يشاهده صاحبه عيانا ، وذلك لاستيلاء أحكام القلب عليه ، وغيبة أحكام النفس .

والعين شديدة الارتباط بالقلب تظهر ما فيه ، فتقوى مادة النور في القلب ويغيب صاحبه بما في قلبه عن أحكام حسه ، بل وعن أحكام العلم ، فينتقل من أحكام العلم إلى أحكام العيان .

وسر المسألة : أن أحكام الطبيعة والنفس شيء ، وأحكام القلب شيء ، وأحكام الروح شيء ، وأنوار العبادات شيء ، وأنوار استيلاء معاني الصفات والأسماء على القلب شيء ، وأنوار الذات المقدسة شيء وراء ذلك كله .

فهذا الباب يغلط فيه رجلان ؛ أحدهما : غليظ الحجاب ، كثيف الطبع ، والآخر : قليل العلم ، يلتبس عليه ما في الذهن بما في الخارج ، ونور المعاملات بنور رب الأرض والسماوات ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

قوله : " ولا مكاشفة الحال " مكاشفة الحال : هي المواجيد التي يجدها السالك بوارداته ، حتى يبقى الحكم لقلبه وحاله .

قوله : " وهي مكاشفة لا تذر سمة تشير إلى الالتذاذ " يريد : أن هذه المكاشفة تمحو رسوم المكاشف ، فلا يبقى منه ما يحس بلذة ، فإن الأحوال والمواجيد لها لذة [ ص: 218 ] عظيمة ، أضعاف اللذة الحسية ، فإن لذتها روحانية قلبية ، والمكاشفة العينية تغيب المكاشف عن إدراك تلك اللذة ، والسمة هي العلامة ، فالمعنى : أن هذه المكاشفة لا تذر له علامة تدل على لذة .

قوله : " أو تلجئ إلى توقف " يعني : لا تذر له بقية تلجئه إلى وقفة ، فإن البقية التي تبقى على السالك من نفسه : هي التي تلجئه إلى التوقف في سيره .

قوله : " ولا تنزل على رسم " أي : لا تنزل هذه المكاشفة على من بقي فيه رسم حجابا بينه وبين هذه المكاشفة ، فإنها بمنزلة نور الشمس ، فلا تنزل في بيت عليه سقف حائل ، فإن الرسم عند القوم هو الحجاب بينهم وبين مطلوبهم ، والرسم هو النفس وأحكامها وصفاتها ، وهذه المكاشفة إذا قويت واستحكمت صارت مشاهدة ، ولذلك قال : وغاية هذه المكاشفة هو مقام المشاهدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية