الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال الشيخ : " المشاهدة : سقوط الحجاب بتا " أي : قطعا ، بحيث لا يبقى منه شيء ، والمشاهدة هي المسقطة للحجاب ، وهي التي تكون عند سقوط الحجاب ، وليست هي نفس سقوط الحجاب ، لكن عبر عن الشيء بلازمه ، فإن سقوط الحجاب يلازم حصول المشاهدة .

قوله : " وهي فوق المكاشفة " هذا يدلك على أن مراد الشيخ ومن وافقه من أهل الاستقامة بالمكاشفة والمشاهدة قوة اليقين ، ومزيد العلم ، وارتفاع الحجب المانعة من ذلك ، لا نفس معاينة الحقيقة ، فإن المكاشفة لو كانت هي معاينة الحقيقة ، لما كان فوقها مرتبة أخرى ، وإنما كانت المشاهدة عنده فوق المكاشفة لما ذكره من قوله ؛ لأن المكاشفة ولاية النعت ، وفيه شيء من بقايا الرسم ، والمشاهدة ولاية العين والذات .

يريد : أن المكاشفة تتعلق بالصفات الإلهية ، فولايتها ولاية النعوت والأوصاف ؛ أي : سلطانها وما يتعلق به ، هو النعوت والصفات وسلطان المشاهدة وما يتعلق به ، هو نفس الذات الجامعة للنعوت والصفات ، فلذلك كانت فوقها ، وأكمل منها .

والفرق بين ولاية النعت وولاية العين والذات أن النعت صفة ، ومن شاهد الصفة فلا بد أن يشاهد متعلقاتها ، فإن النظر في متعلقاتها يكسبه التعظيم للمتصف بها ، فإن من شاهد العلم القديم الأزلي متعلقا بسائر المعلومات التي لا تتناهى من واجب ، وممكن ، ومستحيل ومن شاهد الإرادة الموجبة لسائر الإرادات على تنوعها من الأفعال والأعيان والحركات والأوصاف التي لا تتناهى وشاهد القدرة التي هي كذلك ، وشاهد صفة الكلام ، الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر ، وأشجار العالم كلها أقلام يكتب بها كلام الرب جل جلاله ، لفنيت البحار ، ونفدت [ ص: 220 ] الأقلام ، وكلام الله عز وجل لا ينفد ولا يفنى .

فمن شاهد الصفات كذلك ، وجال قلبه في عظمتها فهو مشغول بالصفات ، ومتفرق قلبه في متعلقاتها في أنفسها ، بخلاف من قصر نظره على نفس الذات ، وشاهد قدمها وبقاءها ، واستغرق قلبه في عظمة تلك الذات ، بقطع النظر عن صفاتها ، فهو مشاهد للعين ، والأول مشاهد للصفات ، فالأول في فرق ، وهذا في جمع ، فمن استغرق قلبه في هذا المشهد استحق اسم المشاهد ، ووصف المشاهدة عند القوم إذا غاب عن إدراك رسمه ، وكل ما فيه من علم أو عمل أو حال ، هذا تقرير كلامه .

وبعد ، فإن ولاية ! النعوت والصفات التي جعلها دون ولاية العين والذات ليس الأمر فيها كما زعم ، بل لا نسبة بينهما ألبتة ، فإن الله سبحانه وتعالى دعا عباده في كتبه الإلهية إلى الأول دون الثاني ، وبذلك نطقت كتبه ورسله ، فهذا القرآن من أوله إلى آخره إنما يدعو الناس إلى النظر في صفات الله وأفعاله وأسمائه ، دون الذات المجردة ، فإن الذات المجردة لا يلحظ معها وصف ، ولا يشهد فيها نعت ، ولا تدل على كمال ولا جلال ، ولا يحصل من شهودها إيمان ، فضلا عن أن يكون من أعلى مقامات العارفين .

ويا سبحان الله ! أين يقع شهود صفات الكمال وتنوعها وكثرتها ، وما تدل عليه من عظمة الموصوف بها وجلاله وكماله ، وأنه ليس كمثله شيء في كماله ؛ لكثرة أوصافه ونعوته وأسمائه ، وامتناع أضدادها عليه ، وثبوتها له على أكمل الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه ما من شهود ذات قد غاب مشاهدها عن كل صفة ونعت واسم ؟ !

فبين هذين المشهدين من التفاوت ما لا يحصيه إلا الله ، وهذا هو مشهد من تأله وفني من الجهمية والمعطلة صرحوا بذلك ، وقالوا : إن كمال هذا المشهد هو قصر النظر القلبي على عين الذات ، وتنزيهها عن الأعراض والأبعاض والأغراض والحدود والجهات .

ومرادهم بالأعراض : الصفات التي تقوم بالحي ، كالسمع والبصر ، والقدرة والإرادة ، والكلام ، فلا سمع له ولا بصر ، ولا إرادة ، ولا حياة ولا علم ، ولا قدرة .

ومرادهم بالأبعاض : أنه لا وجه له ولا يدان ، ولم يخلق آدم بيده ، ولا يطوي سماواته بيده ، ولا يقبض الأرض باليد الأخرى ، ولا يمسك السماوات على إصبع ولا الأرضين على إصبع ، ولا الشجر على إصبع ، ونحو ذلك مما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله الصادق صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 221 ] ومرادهم بالأغراض : أنه لا يفعل لحكمة ، ولا لعلة غائية ، ولا سبب لفعله ، ولا غاية مقصودة .

ومرادهم بالحدود والجهات : مسألة المباينة والعلو ، وأنه غير بائن عن خلقه ، ولا مستو على عرشه ، ولا ترفع إليه الأيدي ، ولا تصعد إليه الأعمال ، ولا ينزل من عنده شيء ، ولا يصعد إليه شيء ، وليس فوق العرش إله يعبد ، ولا رب يصلى له ويسجد ، بل ليس هناك إلا العدم المحض الذي هو لا شيء !

فكمال الشهود عندهم : أن يشهد العبد ذاتا مجردة عن كل اسم ووصف ونعت .

وشيخ الإسلام عدو هذه الطائفة ، وهو بريء منهم براءة الرسل منهم ، ولكن بقيت عليه مثل هذه البقية ، وهي جعل مشهد العين والذات فوق مشهد الصفات على أنه لا سبيل للقوى البشرية إلى شهود الذات الإلهية ألبتة ، ولا يقع الشهود على تلك الحقيقة ، ولا جعل ذلك إليها ، وإنما إليها شهود الصفات والأفعال ، وأما حقيقة الذات والعين : فغير معلومة للبشرية ، ولما سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقيقة ربه سبحانه : من أي شيء هو ؟ أنزل الله عز وجل قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ولذلك لما سأل فرعون موسى عن حقيقة ربه ، بقوله : وما رب العالمين أجابه موسى بقوله : رب السماوات والأرض وما بينهما إذ لا وصول للبشر إلى حقيقة ذاته ، فدلهم على نفسه بصفاته الثبوتية ؛ من كونه صمدا ، وصفاته السلبية المتضمنة للثبوت ؛ من كونه " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " لم يجعل لهم سبيلا إلى معرفة الذات والكنه .

فما هذا الشهود العيني الذاتي الذي جعلتموه للمشاهد ، وجعلتموه فوق [ ص: 222 ] المكاشفة ، وجعلتم ولاية المكاشفة النعت وولاية المشاهدة العين ؟

فاعلم أن مراد الشيخ وأمثاله من العارفين أهل الاستقامة : أن لا يقصر نظر القلب على صفة من الصفات ، بحيث يستغرق فيها وحدها ، بل يكون التفاته وشهوده واقعا على الذات الموصوفة بصفات الكمال المنعوتة بنعوت الجلال ، فحينئذ يكون شهوده واقعا على الذات والصفات جميعا .

ولا ريب أن هذا فوق مشهد الصفة الواحدة أوالصفات .

ولكن يقال : الشهود لا يقع على الصفة المجردة ، ولا يصح تجردها في الخارج ولا في الذهن ، بل متى شهد الصفة شهد قيامها بالموصوف ولا بد ، فما هذا الشهود الذاتي الذي هو فوق الشهود الوصفي ؟

والأمر يرجع إلى شيء واحد ، وهو أن من كان بصفات الله أعرف ولها أثبت ، ومعارض الإثبات منتف عنده كان أكمل شهودا ، ولهذا كان أكمل الخلق شهودا من قال : لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ، ولكمال معرفته بالأسماء والصفات : استدل بما عرفه منها على أن الأمر فوق ما أحصاه وعلمه .

فمشهد الصفات : مشهد الرسل والأنبياء وورثتهم ، وكل من كان بها أعرف كان بالله أعلم ، وكان مشهده بحسب ما عرف منها ، وليس للعبد في الحقيقة مشاهدة ولا مكاشفة ، لا للذات ولا للصفات ، أعني مشاهدة عيان وكشف عيان ، وإنما هو مزيد إيمان وإيقان .

ويجب التنبه هاهنا على أمر ، وهو : أن المشاهدة نتائج العقائد ، فمن كان معتقده ثابتا في أمر من الأمور ، فإنه إذا صفت نفسه وارتاضت ، وفارقت الشهوات والرذائل ، وصارت روحانية تجلت لها صورة معتقدها كما اعتقدته ، وربما قوي ذلك التجلي حتى يصير كالعيان ، وليس به ، فيقع الغلط من وجهين .

أحدهما : ظن أن ذلك ثابت في الخارج ، وإنما هو في الذهن ، ولكن لما صفا الارتياض وانجلت عنه ظلمات الطبع ، وغاب بمشهوده عن شهوده ، واستولت عليه أحكام القلب ، بل أحكام الروح ظن أنه الذي ظهر له في الخارج ، ولا تأخذه في ذلك لومة لائم ، ولو جاءته كل آية في السماوات والأرض ، وذلك عنده بمنزلة من عاين الهلال ببصره جهرة ، فلو قال له أهل السماوات والأرض : لم تره ، لم يلتفت إليهم .

[ ص: 223 ] ولعمر الله إنا لا نكذبه فيما أخبر به عن رؤيته ، ولكن إنما نوقن أنه إنما رأى صورة معتقده في ذاته ونفسه ، لا الحقيقة في الخارج ، فهذا أحد الغلطين .

وسببه : قوة ارتباط حاسة البصر بالقلب ، فالعين مرآة القلب شديدة الاتصال به ، وتنضم إلى ذلك قوة الاعتقاد ، وضعف التمييز ، وغلبة حكم الهوى والحال على العلم ، وسماعه من القوم : أن العلم حجاب .

والغلط الثاني : ظن أن الأمر كما اعتقده ، وأن ما في الخارج مطابق لاعتقاده ،

فيتولد من هذين الغلطين مثل هذا الكشف والشهود .

ولقد أخبر صادق الملاحدة ، القائلين بوحدة الوجود : أنهم كشف لهم أن الأمر كما قالوه ، وشهدوه في الخارج كذلك عيانا ، وهذا الكشف والشهود : ثمرة اعتقادهم ونتيجته ، فهذه إشارة ما إلى الفرقان في هذا الموضع ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية