الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : وهي على ثلاث درجات . الدرجة الأولى : مشاهدة معرفة ، تجري فوق حدود العلم ، في لوائح نور الوجود ، منيخة بفناء الجمع .

هذا بناء على أصول القوم ، وأن المعرفة فوق العلم ، فإن العلم عندهم هو إدراك المعلوم ، ولو ببعض صفاته ولوازمه ، والمعرفة عندهم إحاطة بعين الشيء على ما هو به كما حدها الشيخ ولا ريب أنها بهذا الاعتبار فوق العلم ، لكن على هذا الحد لا يتصور أن يعرف الله أحد من خلقه ألبتة ، وسيأتي الكلام على هذا الحد في موضعه إن شاء الله تعالى ، وليست المعرفة عند القوم مشروطة بما ذكروا ، وسنذكر كلامهم إن شاء الله .

وقد ذكر بعضهم : أن أعمال الأبرار بالعلم ، وأعمال المقربين بالمعرفة .

وهذا كلام يصح من وجه ، ويبطل من وجه ، فالأبرار والمقربون عاملون بالعلم ، واقفون مع أحكامه ، وإن كانت معرفة المقربين أكمل من معرفة الأبرار ، فكلاهما أهل علم ومعرفة ، فلا يسلب الأبرار المعرفة ، ولا يستغني المقربون عن العلم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل إنك تأتي قوما أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه : شهادة أن لا إله إلا الله ، فإذا هم عرفوا الله ، فأخبرهم : أن الله قد فرض [ ص: 224 ] عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فجعلهم عارفين بالله قبل إتيانهم بفرض الصلاة والزكاة ، بل جعلهم في أول أوقات دخولهم في الإسلام عارفين بالله ، ولا ريب أن هذه المعرفة ليست كمعرفة المهاجرين والأنصار ، فالناس متفاوتون في درجات المعرفة تفاوتا بعيدا .

قوله : " في لوائح نور الوجود " يعني : أن شواهد المعرفة بوارق تلوح من نور الوجود ، والوجود عند الشيخ ثلاث مراتب : وجود علم ، ووجود عين ، ووجود مقام ، كما سيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى .

وهذه اللوائح التي أشار إليها : تلوح في المراتب الثلاث ، وقد ذكروا عن الجنيد ، أنه قال : علم التوحيد مباين لوجوده ، ووجوده مباين لعلمه .

ومعنى ذلك : أن العبد قد يصح له العلم بانفراد الحق في ذاته وصفاته وأفعاله علما جازما ، لا يشك ولا يرتاب فيه ، ولكن إذا اختلفت عليه الأسباب ، وتقاذفت به أمواجها لم يثبت قلبه في أوائل الصدمات ، ولم يبادر إذ ذاك إلى رؤية الأسباب كلها من الأول الذي دلت على وحدانيته وأوليته ؛ البراهين القطعية والمشاهدة الإيمانية ، فهذا عالم بالتوحيد غير واجد لمقامه ، ولا متصف بحال أكسبه إياها التوحيد ، فإذا وجد قلبه وقت اختلاف الأحوال وتباين الأسباب واثقا بربه ، مقبلا عليه ، مستغرقا في شهود وحدانيته في ربوبيته وإلهيته ، فإنه وحده هو المنفرد بتدبير عباده فقد وجد مقام التوحيد حاله .

وأهل هذا المقام متفاوتون في شهوده تفاوتا عظيما : من مدرك لما هو فيه متنعم متلذذ في وقت دون وقت ، ومن غالب عليه هذه الحال ، ومن مستغرق غائب عن حظه ولذته بما هو فيه من وجوده ، فنور الوجود قد غشي مشاهدته لحاله ، ولم يصل إلى مقام الجمع ، بل قد أناخ بفنائه ، والوجود عنده هو حضرة الجمع ، ويسمى حضرة الوجود .

[ ص: 225 ] قوله : " منيخة بفناء الجمع " يعني : قد شارفت مشاهدته لحاله منزل الجمع ، وأناخت به ، وتهيأ لدخوله ، وهذه استعارة ، فكأنه مثل المشاهد بالمسافر ، ومثل مشاهدته بناقته التي يسافر عليها ، فإنها الحاملة له ، وشبه حضرة الجمع بالمنزل والدار ، وقد أناخ المسافر بفنائها ، وهذا إشارة منه إلى إشرافه عليها ، وأن نور الوجود لا يلوح إلا منها .

التالي السابق


الخدمات العلمية