الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل القبض

قال صاحب المنازل :

( باب القبض ) قال الله تعالى : ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا .

قلت : قد أبعد في تعلقه بإشارة لآية إلى القبض الذي يريده ، ولا تدل عليه الآية بوجه ما ، وإنما يشارك القبض المترجم عليه في اللفظ فقط ، فإن القبض في الآية هو قبض الظل ، وهو تقلصه بعد امتداده ، قال الله تعالى : ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا فأخبر تعالى : أنه بسط الظل ومده ، وأنه جعله متحركا تبعا لحركة الشمس ، ولو شاء لجعله ساكنا لا يتحرك : إما بسكون المظهر له ، والدليل عليه ، وإما بسبب آخر ، ثم أخبر : أنه قبضه بعد بسطه قبضا يسيرا ، وهو شيء بعد شيء ، لم يقبضه جملة ، فهذا من أعظم آياته الدالة على عظيم قدرته ، وكمال حكمته ، فندب الرب سبحانه عباده إلى رؤية صنعته وقدرته ، وحكمته في هذا الفرد من مخلوقاته ، ولو شاء لجعله لاصقا بأصل ما هو ظل له من جبل وبناء وشجر وغيره ، فلم ينتفع به أحد .

فإن كان الانتفاع به تابعا لمده وبسطه ، وتحوله من مكان إلى مكان ، ففي مده وبسطه ، ثم قبضه شيئا فشيئا من المصالح والمنافع ما لا يخفى ولا يحصى ، فلو كان ساكنا دائما ، أو قبض دفعة واحدة لتعطلت مرافق العالم ومصالحه به وبالشمس ، فمد الظل وقبضه شيئا فشيئا لازم لحركة الشمس ، على ما قدرت عليه من مصالح العالم ، وفي دلالة الشمس على الظلال ما تعرف به أوقات الصلوات ، وما مضى من اليوم ، وما بقي منه ، وفي تحركه وانتقاله ما يبرد به ما أصابه من حر الشمس ، وينفع الحيوانات والشجر والنبات ، فهو من آيات الله الدالة عليه .

[ ص: 274 ] وفي الآية وجه آخر ، وهو : أنه سبحانه مد الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ، ودحا الأرض تحتها ، فألقت القبة ظلها عليها ، فلو شاء سبحانه لجعله ساكنا مستقرا في تلك الحال ، ثم خلق الشمس ونصبها دليلا على ذلك الظل ، فهو يتبعها في حركتها ، يزيد بها وينقص ، ويمتد ويتقلص ، فهو تابع لها تبعية المدلول لدليله .

وفيها وجه آخر ، وهو : أن يكون المراد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه ، وهي الأجرام التي تلقي الظلال . فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه ، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه .

وقوله تعالى : قبضناه إلينا كأنه يشعر بذلك ، وقوله : قبضا يسيرا يشبه قوله : ذلك حشر علينا يسير وقوله : " قبضناه " بصيغة الماضي لا ينافي ذلك ، كقوله : أتى أمر الله والوجه في الآية هو الأول .

وهذان الوجهان : إن أراد من ذكرهما دلالة الآية عليهما إشارة وإيماء فقريب ، وإن أراد أن ذلك هو المراد من لفظها فبعيد ؛ لأنه سبحانه جعل ذلك آية ودلالة عليه للناظر فيه ، كما في سائر آياته التي يدعو عباده إلى النظر فيها ، فلا بد أن يكون ذلك أمرا مشهودا تقوم به الدلالة ، وتحصل به التبصرة .

وأبعد من هذا ما تعلق به صاحب المنازل في باب القبض بقبض الظل كما أشار إليه في خطبة كتابه ، حيث يقول : الذي مد ظل التكوين على الخليقة مدا طويلا ، ثم جعل شمس التمكين لصفوته عليه دليلا ، ثم قبض ظل التفرقة عنهم إليه قبضا يسيرا فاستعار للتكوين لفظ الظل إعلاما بأن المكونات بمنزلة الظلال في عدم استقلالها بأنفسها ؛ إذ لا يتحرك الظل إلا بحركة صاحبه ، وقوله " مدا طويلا " إشارة إلى أنه سبحانه لا يزال يخلق شيئا بعد شيء خلقا لا يتناهى ، لسعة قدرته ، ووجوب أبديته .

ثم إن حقيقة الظل هي عدم الشمس في بقعة ما ، لساتر سترها ، فإنما تتعين تلك الحقيقة بالشمس ، فكذلك المكون إنما تتعين حقيقته بالمكون له سبحانه وتعالى ، و " شمس التمكين " هي التوحيد الجامع لقلوب صفوته عن التفرق في شعاب [ ص: 275 ] ظل التكوين " ثم قبض ظل التفرقة عنهم إليه قبضا يسيرا " ؛ أي : أخذ ظل التفرقة عنهم أخذا سهلا .

فالشيخ أحال باستشهاده بالآية في الباب المذكور على ما تقدم له في الخطبة ووجه الإشارة بالآية يعلم من قوله : ثم قبضناه إلينا والقبض في هذا الباب : لم يرد به قبض الإضافة .

ولهذا قال الشيخ :

القبض في هذا الباب اسم يشار به إلى مقام الضنائن الذين ادخرهم الحق اصطناعا لنفسه .

فالقبض نوعان : قبض في الأحوال ، وقبض في الحقائق ، فالقبض في الأحوال أمر يطرق القلب يمنعه عن الانبساط والفرح ، وهو نوعان أيضا .

أحدهما : ما يعرف سببه ، مثل تذكر ذنب ، أو تفريط ، أو بعد ، أو جفوة أو حدوث ما هو نحو ذلك .

والثاني : ما لا يعرف سببه . بل يهجم على القلب هجوما لا يقدر على التخلص منه ، وهذا هو القبض المشار إليه على ألسنة القوم ، وضده البسط ، فالقبض والبسط عندهم حالتان للقلب لا يكاد ينفك عنهما .

وقال أبو القاسم الجنيد : في معنى القبض والبسط معنى الخوف والرجاء . فالرجاء : يبسط إلى الطاعة ، والخوف : يقبض على المعصية .

فكلهم تكلم في القبض والبسط على هذا المنهج حتى جعلوه أقساما : قبض تأديب ، وقبض تهذيب ، وقبض جمع ، وقبض تفريق ، ولهذا يمتنع صاحبه إذا تمكن منه من الأكل ، والشرب ، والكلام ، وفعل الأوراد ، والانبساط إلى الأهل وغيرهم ،

فقبض التأديب : يكون عقوبة على غفلة ، أو خاطر سوء ، أو فكرة رديئة .

وقبض التهذيب : يكون إعدادا لبسط عظيم شأنه يأتي بعده ، فيكون القبض قبله كالتنبيه عليه والمقدمة له ، كما كان " الغت والغط " مقدمة بين يدي الوحي ، [ ص: 276 ] وإعدادا لوروده ، وهكذا الشدة مقدمة بين يدي الفرج ، والبلاء مقدمة بين يدي العافية ، والخوف الشديد مقدمة بين يدي الأمن ، وقد جرت سنة الله سبحانه أن هذه الأمور النافعة المحبوبة إنما يدخل إليها من أبواب أضدادها .

وأما قبض الجمع : فهو ما يحصل للقلب حال جمعيته على الله من انقباضه عن العالم وما فيه ، فلا يبقى فيه فضل ولا سعة لغير من اجتمع قلبه عليه ، وفي هذه الحال من أراد من صاحبه ما يعهده منه من المؤانسة والمذاكرة فقد ظلمه .

وأما قبض التفرقة : فهو القبض الذي يحصل من تفرق قلبه عن الله ، وتشتته عنه في الشعاب والأودية ، فأقل عقوبته : ما يجده من القبض الذي يتمنى معه الموت .

وأما القبض الذي أشار إليه صاحب المنازل : فهو شيء وراء هذا كله ، فإنه جعله من قسم الحقائق ، وذلك القبض الذي تقدم ذكره من قسم البدايات ، ولهذا قال : القبض في هذا الباب : اسم يشار به إلى مقام الضنائن ، ومن هنا حسن استشهاده بإشارة الآية ؛ لأنه تعالى أخبر عن قبض الظل إليه ، والقبض في هذا الباب يتضمن قبض القلب عن غيره إليه ، وجمعيته بعد التفرقة عليه ، والضنائن جمع ضنينة ، وهي الخاصة ، يضن بها صاحبها ؛ أي : يبخل ببذلها ويصطفيها لنفسه ، ولهذا قال : الذين ادخرهم الحق اصطناعا لنفسه .

والادخار افتعال من الذخر ، وهو ما يعده المرء لحوائجه ومصالحه ، والاصطناع بمعنى الاصطفاء . قال تعالى لموسى واصطنعتك لنفسي والاصطناع في الأصل : اتخاذ الصنيعة ، وهي الخير تسديه إلى غيرك ، قال الشاعر :


وإذا اصطنعت صنيعة فاقصد بها وجه الذي يولي الصنائع أودع

قال ابن عباس : اصطنعتك لوحيي ورسالتي ، وقال الكلبي : اخترتك بالرسالة لنفسي ، لكي تحبني وتقوم بأمري .

وقيل : اخترتك بالإحسان إليك لإقامة حجتي ، فتكلم عبادي عني .

قال أبو إسحاق : اخترتك بالإحسان إليك لإقامة حجتي ، وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في الخطاب والتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم .

[ ص: 277 ] وقيل : مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه وخصائص أهلا لكرامته وتقريبه ، فلا يكون أحد أقرب منه منزلة إليه ، ولا ألطف محلا ، فيصطنعه بالكرامة والأثرة ، ويستخلصه لنفسه ، بحيث يسمع به ، ويبصر به ، ويطلع على سره .

والمقصود : أن الرب سبحانه حال بين هؤلاء الضنائن وبين التعلق بالخلق ، وصرف قلوبهم وهممهم وعزائمهم إليه .

قال : وهم على ثلاث فرق : فرقة قبضهم إليه ؛ قبض التوقي ، فضن بهم عن أعين العالمين .

هذا الحرف في التوقي بالقاف من الوقاية ، وليس من الوفاة ؛ أي : سترهم عن أعين الناس ، وقاية لهم ، وصيانة عن ملابستهم ، فغيبهم عن أعين الناس ، فلم يطلعهم عليهم ، وهؤلاء هم أهل الانقطاع والعزلة عن الناس وقت فساد الزمان ، ولعلهم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم يوشك أن يكون خير مال المرء غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر ، وقوله : ورجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ، ويدع الناس من شره وهذه الحال تحمد في بعض الأماكن والأوقات دون بعضها ، وإلا فالمؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم : أفضل من هؤلاء ، فالعزلة : في وقت تجب فيه ، ووقت تستحب فيه ، ووقت تباح فيه ، ووقت تكره فيه ، ووقت تحرم فيه .

[ ص: 278 ] ويجوز أن يكون قبض التوفي بالفاء أجسادهم وقلوبهم من بين العالمين وهم في الدنيا ، لكن لما لم يخالطوا الناس كانوا بمنزلة من قد توفي وفارق الدنيا .

قال : وفرقة قبضهم بسترهم في لباس التلبيس ، وأسبل عليهم أكلة الرسوم ، فأخفاهم عن عيون العالم .

هذه الفرقة : هم مع الناس مخالطون ، والناس يرون ظواهرهم . وقد ستر الله حقائقهم وأحوالهم عن رؤية الخلق لها ، فحالهم ملتبس على الناس لا يعرفونه ، فإذا رأوا منهم ما يرون من أبناء الدنيا من الأكل والشرب واللباس ، والنكاح ، وطلاقة الوجه ، وحسن العشرة قالوا : هؤلاء من أبناء الدنيا ، وإذا رأوا ذلك الجد والهمم ، والصبر والصدق ، وحلاوة المعرفة والإيمان والذكر ، وشاهدوا منهم أمورا ليست من أمور أبناء الدنيا ، قالوا : هؤلاء من أبناء الآخرة ، فالتبس حالهم عليهم ، وهم مستورون عن الناس بأسبابهم وصنائعهم ولباسهم ، لم يجعلوا لطلبهم وإرادتهم إشارة تشير إليهم : اعرفوني ، فهؤلاء يكونون مع الناس ، والمحجوبون لا يعرفونهم ، ولا يعرفون بهم رءوسا ، وهم من سادات أولياء الله ، صانهم الله عن معرفة الناس كرامة لهم ، لئلا يفتتنوا بهم ، وإهانة للجهال بهم ، فلا ينتفعون بهم .

وهذه الفرقة بينها وبين الأولى من الفضل ما لا يعلمه إلا الله ، فهم بين الناس بأبدانهم ، وبين الرفيق الأعلى بقلوبهم ، فإذا فارقوا هذا العالم انتقلت أرواحهم إلى تلك الحضرة ، فإن روح كل عبد تنتقل بعد مفارقة البدن إلى حضرة من كان يألفهم ويحبهم ، فإن المرء مع من أحبه .

[ ص: 279 ] قوله : " وأسبل عليهم أكلة الرسوم " أي : أجرى عليهم أحكام الخلق يأكلون كما يأكلون ، ويشربون كما يشربون ، ويسكنون حيث يسكنون ، ويمشون معهم في الأسواق ، ويعانون معهم الأسباب ، وهم في واد والناس في واد ، فمشاركتهم إياهم في ذلك هي التي سترتهم عن معرفتهم ، وعن إدراك حقائقهم فهم تحت ستور المشاركة .


ووراء هاتيك الستور محجب     بالحسن كل العز تحت لوائه
لو أبصرت عيناك بعض جماله     لبذلت منك الروح في إرضائه
ما طابت الدنيا بغير حديثه     كلا ولا الأخرى بدون لقائه
يا خاسرا هانت عليه نفسه     إذ باعها بالغبن من أعدائه
لو كنت تعلم قدر ما قد بعته     لفسخت ذاك البيع قبل وفائه
أو كنت كفوا للرشاد وللهدى     أبصرت لكن لست من أكفائه

قوله : وفرقة قبضهم منهم إليه ، فصافاهم مصافاة سر ، فضن بهم عليهم . هذه الفرقة إنما كانت أعلى من الفرقتين المتقدمتين : لأن الحق سبحانه قد سترهم عن نفوسهم ، لكمال ما أطلعهم عليه ، وشغلهم به عنهم ، فهم في أعلى الأحوال والمقامات ، ولا التفات لهم إليها ، فهؤلاء قلوبهم معه سبحانه لا مع سواه ، فلم يكونوا مع السوى ولا السوى منهم ، بل هم مع السوى بالمجاورة والامتحان ، لا بالمساكنة والألفة ، قلوبهم عامرة بالأسرار ، وأرواحهم تحن إليه حنين الطيور إلى الأوكار ، قد سترهم وليهم وحبيبهم عنهم ، وأخذهم إليه منهم .

قوله : " فصافاهم مصافاة سر " أي : جعل مواجيدهم في أسرارهم وقلوبهم للطف إدراكهم ، فلم تظهر عليهم في ظواهرهم لقوة الاستعداد .

قوله : " فضن بهم عليهم " أي : أخذهم عن رسومهم ، فأفناهم عنهم . وأبقاهم به .

وقد علمت من هذا : أن " القبض " المشار إليه في هذا الباب : ليس هو القبض الذي يشير إليه القوم في البدايات والسلوك ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية