الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل الانفصال

قال صاحب المنازل : ( باب الانفصال ) قال الله تعالى : ويحذركم الله نفسه ليس في المقامات شيء فيه من التفاوت ما في الانفصال .

وجه الإشارة بالآية : أنه سبحانه المقرب المبعد ، فليحذر القريب من الإبعاد والمتصل من الانفصال ، فإن الحق جل جلاله غيور لا يرضى ممن عرفه ووجد حلاوة معرفته ، واتصل قلبه بمحبته والأنس به ، وتعلقت روحه بإرادة وجهه الأعلى أن يكون له التفات إلى غيره ألبتة .

ومن غيرته سبحانه : حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والله سبحانه يغار أشد الغيرة على عبده : أن يلتفت إلى سواه ، فإذا أذاقه حلاوة محبته ، ولذة الشوق إليه ، وأنس معرفته ، ثم ساكن غيره باعده من قربه ، وقطعه من وصله ، وأوحش سره ، وشتت قلبه ، ونغص عيشه ، وألبسه رداء الذل والصغار والهوان ، فنادى عليه حاله ، إن لم يصرح به قاله : هذا جزاء من تعوض عن وليه وإلهه وفاطره ، ومن لا حياة له إلا به بغيره وآثر غيره عليه ، فاتخذ سواه له حبيبا ، ورضي بغيره أنيسا ، واتخذ سواه وليا ، قال الله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا .

[ ص: 308 ] فإذا ضرب هذا القلب بسوط البعد والحجاب ، وسلط عليه من يسومه سوء العذاب ، وملئ من الهموم والغموم والأحزان ، وصار محلا للجيف والأقذار والأنتان ، وبدل بالأنس وحشة ، وبالعز ذلا ، وبالقناعة حرصا ، وبالقرب بعدا وطردا ، وبالجمع شتاتا وتفرقة كان هذا بعض جزائه ، فحينئذ تطرقه الطوارق والمؤلمات ، وتعتريه وفود الأحزان والهموم بعد وفود المسرات .

قرأ قارئ بين يدي السري : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا فقال السري : تدرون ما هذا الحجاب ؟ هو حجاب الغيرة ، ولا أحد أغير من الله . فمن عرفه وذاق حلاوة قربه ومحبته ، ثم رجع عنه إلى مساكنة غيره : ثبط جوارحه عن طاعته ، وعقل قلبه عن إرادته ومحبته ، وأخره عن محل قربه ، وولاه ما اختاره لنفسه .

وقال بعضهم : احذره ، فإنه غيور ، لا يحب أن يرى في قلب عبده سواه .

ومن غيرته : أن صفيه آدم لما ساكن بقلبه الجنة ، وحرص على الخلود فيها أخرجه منها ، ومن غيرته سبحانه : أن إبراهيم خليله لما أخذ إسماعيل شعبة من قلبه أمره بذبحه ، حتى يخرج من قلبه ذلك المزاحم .

إنما كان الشرك عنده ذنبا لا يغفر لتعلق قلب المشرك به وبغيره ، فكيف بمن تعلق قلبه كله بغيره ، وأعرض عنه بكليته ؟

إذا أردت أن تعرف ما حل بك من بلاء الانفصال ، وذل الحجاب ، فانظر لمن استعبد قلبك ، واستخدم جوارحك ، وبمن شغل سرك ، وأين يبيت قلبك إذا أخذت مضجعك ؟ وإلى أين يطير إذا استيقظت من منامك ؟ فذلك هو معبودك وإلهك ، فإذا سمعت النداء يوم القيامة : لينطلق كل واحد مع من كان يعبده ، انطلقت معه كائنا من كان .

لا إله إلا الله ! ما أشد غبن من باع أطيب الحياة في هذه الدار المتصلة بالحياة الطيبة هناك ، والنعيم المقيم بالحياة المنغصة المنكدة المتصلة بالعذاب الأليم ، والمدة ساعة من نهار ، أو عشية أو ضحاها ، أو يوم أو بعض يوم ، فيه ربح الأبد أو خسارة الأبد .


فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويذهب هذا كله ويزول

التالي السابق


الخدمات العلمية