الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب الثالث

القول في أحكام القراض

والأحكام منها ما هي أحكام القراض الصحيح ، ومنها ما هي أحكام القراض الفاسد . وأحكام القراض الصحيح ، منها ما هي من موجبات العقد ( أعني : أنها تابعة لموجب العقد ، ومختلف فيها هل هي تابعة أو غير تابعة ؟ ) ، ومنها أحكام طوارئ تطرأ على العقد مما لم يكن موجبه من نفس العقد ، مثل التعدي ، والاختلاف ، وغير ذلك . ونحن نذكر من هذه الأوصاف ما اشتهر عند فقهاء الأمصار . ونبدأ من ذلك بموجبات العقد فنقول :

إنه أجمع العلماء على أن اللزوم ليس من موجبات عقد القراض ، وأن لكل واحد منهما فسخه ما لم يشرع العامل في القراض . واختلفوا إذا شرع العامل : فقال مالك : هو لازم ، وهو عقد يورث ، فإن مات وكان للمقارض بنون أمناء كانوا في القراض مثل أبيهم ، وإن لم يكونوا أمناء كان لهم أن يأتوا بأمين . وقال الشافعي ، وأبو حنيفة : لكل واحد منهم الفسخ إذا شاء ، وليس هو عقد يورث .

فمالك ألزمه بعد الشروع في العمل لما فيه من ضرر ، ورآه من العقود الموروثة . والفرقة الثانية شبهت الشروع في العمل بما بعد الشروع في العمل .

ولا خلاف بينهم أن المقارض إنما يأخذ حظه من الربح بعد أن ينض جميع رأس المال ، وأنه إن خسر ، ثم اتجر ، ثم ربح جبر الخسران من الربح .

[ ص: 591 ] واختلفوا في الرجل يدفع إلى رجل مالا قراضا فيهلك بعضه قبل أن يعمل فيه ، ثم يعمل فيه فيربح ، فيريد المقارض أن يجعل رأس المال بقية المال بعد الذي هلك ، هل له ذلك أم لا ؟

فقال مالك ، وجمهور العلماء : إن صدقه رب المال ، أو دفع رجل مالا قراضا لرجل فهلك منه جزء قبل أن يعمل فأخبره بذلك فصدقه ، ثم قال له : يكون الباقي عندك قراضا على الشرط المتقدم لم يجز حتى يفاصله ، ويقبض منه رأس ماله وينقطع القراض الأول .

وقال ابن حبيب من أصحاب مالك : إنه يلزمه في ذلك القول ، ويكون الباقي قراضا ، وهذه المسألة هي من أحكام الطوارئ ، ولكن ذكرناها هنا لتعلقها بوقت وجوب القسمة ، وهي من أحكام العقد .

واختلفوا هل للعامل نفقته من المال المقارض عليه أم لا ؟ على ثلاثة أقوال : فقال الشافعي في أشهر أقواله : لا نفقة له أصلا إلا أن يأذن له رب المال .

وقال قوم : له نفقته ، وبه قال إبراهيم النخعي ، والحسن ، وهو أحد ما روي عن الشافعي .

وقال آخرون : له النفقة في السفر من طعامه وكسوته ، وليس له شيء في الحضر ، وبه قال مالك ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وجمهور العلماء ، إلا أن مالكا قال : إذا كان المال يحمل ذلك . وقال الثوري : ينفق ذاهبا ، ولا ينفق راجعا . وقال الليث : يتغدى في المصر ولا يتعشى . وروي عن الشافعي أن له نفقته في المرض ، والمشهور عنه مثل قول الجمهور : أن لا نفقة له في المرض .

وحجة من لم يجزه : أن ذلك زيادة منفعة في القراض فلم يجز . أصله المنافع .

وحجة من أجازه أن عليه العمل في الصدر الأول ، ومن أجازه في الحضر شبهه بالسفر .

وأجمع علماء الأمصار على أنه لا يجوز للعامل أن يأخذ نصيبه من الربح إلا بحضرة رب المال ، وأن حضور رب المال شرط في قسمة المال ، وأخذ العامل حصته ، وأنه ليس يكفي في ذلك أن يقسمه بحضور بينة ، ولا غيرها .

القول في أحكام الطوارئ

واختلفوا إذا أخذ المقارض حصته من غير حضور رب المال ، ثم ضاع المال ، أو بعضه; فقال مالك : إن أذن له رب المال في ذلك فالعامل مصدق فيما ادعاه من الضياع . وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري : ما أخذ العامل يرده ويجبر به رأس المال ، ثم يقتسمان فضلا إن كان هنالك .

واختلفوا إذا هلك مال القراض بعد أن اشترى العامل به سلعة ما وقبل أن ينقده البائع : فقال مالك : البيع لازم للعامل ، ورب المال مخير إن شاء دفع قيمة السلعة مرة ثانية ، ثم تكون بينهما على ما شرطا من المقارضة ، وإن شاء تبرأ عنها .

وقال أبو حنيفة : بل يلزم ذلك الشراء رب المال شبه بالوكيل ، إلا أنه قال : يكون رأس المال في ذلك القراض الثمنين ، ولا يقتسمان الربح إلا بعد حصوله عينا ( أعني : ثمن تلك السلعة التي تلفت أولا ، والثمن الثاني الذي لزمه بعد ذلك ) .

واختلفوا في بيع العامل من رب المال بعض سلع القراض : فكره ذلك مالك ، وأجازه أبو حنيفة على الإطلاق ، وأجازه الشافعي بشرط أن يكونا قد تبايعا بما لا يتغابن الناس بمثله . ووجهه ما كره من ذلك [ ص: 592 ] مالك أن يكون يرخص له في السلعة من أجل ما قارضه ، فكأن رب المال أخذ من العامل منفعة سوى الربح الذي اشترط عليه .

ولا أعرف خلافا بين فقهاء الأمصار أنه إن تكارى العامل على السلع إلى بلد فاستغرق الكراء قيم السلع وفضل عليه فضلة أنها على العامل لا على رب المال; لأن رب المال إنما دفع ماله إليه ليتجر به ، فما كان من خسران في المال فعليه ، وكذلك ما زاد على المال واستغرقه .

واختلفوا في العامل يستدين مالا فيتجر به مع مال القراض ، فقال مالك : ذلك لا يجوز . وقال الشافعي وأبو حنيفة : ذلك جائز ، ويكون الربح بينهما على شرطهما . وحجة مالك أنه كما لا يجوز أن يستدين على المقارضة ، كذلك لا يجوز أن يأخذ دينا فيها . واختلفوا هل للعامل أن يبيع بالدين إذا لم يأمره به رب المال ؟ فقال مالك : ليس له ذلك ، فإن فعل ضمن ، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : له ذلك . والجميع متفقون على أن العامل إنما يجب له أن يتصرف في عقد القراض ما يتصرف فيه الناس غالبا في أكثر الأحوال .

فمن رأى أن التصرف بالدين خارج عما يتصرف فيه الناس في الأغلب لم يجزه ، ومن رأى أنه مما يتصرف فيه الناس أجازه . واختلف مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، والليث في العامل يخلط ماله بمال القراض من غير إذن رب المال ، فقال : هؤلاء كلهم ما عدا مالكا : هو تعد ، ويضمن . وقال مالك : ليس بتعد .

ولم يختلف هؤلاء المشاهير من فقهاء الأمصار أنه إن دفع العامل رأس مال القراض إلى مقارض آخر أنه ضامن إن كان خسرانا ، وإن كان ربحا ، فذلك على شرطه ، ثم يكون للذي عمل شرطه على الذي دفع إليه ، فيوفيه حظه مما بقي من المال . وقال المزني عن الشافعي : ليس له إلا أجرة مثله; لأنه عمل على فساد .

التالي السابق


الخدمات العلمية