الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              المسألة العاشرة

              ما ذكر من أن المسببات مرتبة على فعل الأسباب شرعا ، وأن الشارع يعتبر المسببات في الخطاب بالأسباب ، يترتب عليه بالنسبة إلى المكلف إذا اعتبره أمور :

              - منها : أن المسبب إذا كان منسوبا إلى المتسبب شرعا ، [ أو ] اقتضى أن يكون المكلف في تعاطي السبب ملتفتا إلى جهة المسبب أن يقع منه ما ليس في حسابه ; فإنه كما يكون التسبب مأمورا به كذلك يكون منهيا عنه ، وكما يكون التسبب في الطاعة منتجا ما ليس في ظنه من الخير ; لقوله تعالى : [ ص: 360 ] ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا [ المائدة : 32 ] .

              وقوله عليه السلام : من سن سنة حسنة كان له أجرها ، وأجر من عمل بها ، وقوله : إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أنها تبلغ ما بلغت الحديث .

              كذلك يكون التسبب في المعصية منتجا ما لم يحتسب من الشر ; لقوله تعالى : فكأنما قتل الناس جميعا [ المائدة : 32 ] .

              وقوله عليه الصلاة والسلام : ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ، وقوله : ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ، وقوله : إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله الحديث . إلى أشباه ذلك .

              [ ص: 361 ] وقد قرر الغزالي من هذا المعنى في كتاب الإحياء ، وفي غيره ما فيه كفاية وقد قال في كتاب الكسب : " ترويج الدرهم الزائف من الدراهم في أثناء النقد ظلم ; إذ به يستضر المعامل إن لم يعرف ، وإن عرف فيروجه على غيره ، وكذلك الثاني والثالث ، ولا يزال يتردد في الأيدي ، ويعم الضرر ويتسع الفساد ، ويكون وزر الكل ووباله راجعا إليه ; فإنه الذي فتح ذلك الباب " ، ثم استدل بحديث : من سن سنة حسنة إلخ .

              ثم حكي عن بعضهم أن إنفاق درهم زائف أشد من سرقة مائة درهم قال : " لأن السرقة معصية واحدة ، وقد تمت وانقطعت ، وإظهار الزائف بدعة أظهرها في الدين وسن سنة سيئة يعمل عليها من بعده ، فيكون عليه وزرها بعد موته إلى مائة سنة ، ومائتي سنة إلى أن يفنى ذلك الدرهم ، ويكون عليه ما فسد ونقص من أموال الناس بسببه ، وطوبى لمن مات وماتت معه ذنوبه ، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه مائة سنة ، ومائتي سنة يعذب بها في قبره ، ويسأل عنها إلى انقراضها ، وقال تعالى : ونكتب ما قدموا وآثارهم [ يس : 12 ] أي : نكتب أيضا ما أخروه من آثار أعمالهم ، كما نكتب ما قدموه ، ومثله قوله تعالى : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ القيامة : 13 ] ، وإنما أخر أثر أعماله ، من سن سنة سيئة عمل بها غيره " .

              [ ص: 362 ] هذا ما قاله هناك ، وقاعدة إيقاع السبب أنه بمنزلة إيقاع المسبب قد بينت هذا .

              وله في كتاب الشكر ما هو أشد من هذا ، حيث قدر النعم أجناسا ، وأنواعا ، وفصل فيها تفاصيل جمة ، ثم قال : " بل أقول : من عصى الله ولو في نظرة واحدة ، بأن فتح بصره حيث يجب غض البصر ، فقد كفر نعمة الله في السماوات والأرضين وما بينهما ; فإن كل ما خلق الله حتى الملائكة والسماوات والحيوانات والنبات بجملته نعمة على كل واحد من العباد قد تم بها انتفاعه " .

              ثم قرر شيئا من النعم العائدة إلى البصر من الأجفان ، ثم قال : " قد كفر نعمة الله في الأجفان ، ولا تقوم الأجفان إلا بعين ، ولا العين إلا بالرأس ، ولا الرأس إلا بجميع البدن ، ولا البدن إلا بالغذاء ، ولا الغذاء إلا بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر ، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالسماوات ، ولا السماوات إلا بالملائكة ; فإن الكل كالشيء الواحد يرتبط البعض منه بالبعض ، ارتباط أعضاء البدن بعضها ببعض " .

              قال : " وكذلك ورد في الأخبار أن البقعة التي يجتمع فيها الناس ; إما أن تلعنهم إذا تفرقوا أو تستغفر لهم " .

              [ ص: 363 ] ولذلك ورد : إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر ، وذلك إشارة إلى أن العاصي بتطريفة واحدة ، جنى على جميع ما في الملك والملكوت ، وقد أهلك نفسه إلى أن يتبع السيئة بحسنة تمحوها ، فيتبدل اللعن بالاستغفار فعسى الله أن يتوب عليه ويتجاوز عنه ، ثم حكى غير ذلك ، ومضى في كلامه .

              فإذا نظر المتسبب إلى مآلات الأسباب ; فربما كان باعثا له على التحرز من أمثال هذه الأشياء ; إذ يبدو له يوم الدين من ذلك ما لم يكن يحتسب ، والعياذ بالله .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية