الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 7322 ) مسألة : قال : ( فمن قتل منهم وأخذ المال ، قتل وإن عفا صاحب المال ، وصلب حتى يشتهر ، ودفع إلى أهله ، ومن قتل منهم ، ولم يأخذ المال ، قتل ، ولم يصلب ، وإن أخذ المال ولم يقتل ، قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى ، في مقام واحد ، ثم حسمتا وخلي ) روينا نحو هذا عن ابن عباس . وبه قال قتادة ، وأبو مجلز ، وحماد ، والليث ، والشافعي ، وإسحاق ، وعن أحمد ، أنه إذا قتل وأخذ المال ، قتل وقطع ; لأن كل واحدة من الجنايتين توجب حدا منفردا ، فإذا اجتمعا ، وجب حدهما معا ، كما لو زنى ، وسرق .

                                                                                                                                            وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخير فيهم بين القتل والصلب ، والقطع والنفي ; لأن " أو " تقتضي التخيير ، كقوله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } . وهذا قول سعيد بن المسيب ، وعطاء ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، والنخعي ، وأبي الزناد ، وأبي ثور ، وداود . وروي عن ابن عباس : ما كان في القرآن " أو " فصاحبه بالخيار .

                                                                                                                                            وقال أصحاب الرأي : إن قتل قتل ، وإن أخذ المال قطع ، وإن قتل وأخذ المال ، فالإمام مخير بين قتله وصلبه ، وبين قتله وقطعه ، وبين أن يجمع له ذلك كله ; لأنه قد وجد منه ما يوجب القتل والقطع ، فكان للإمام فعلهما ، كما لو قتل وقطع في غير قطع طريق . وقال مالك : إذا قطع الطريق ، فرآه الإمام جلدا ذا رأي ، قتله ، وإن كان جلدا لا رأي له ، قطعه ، ولم يعتبر فعله . ولنا على أنه لا يقتل إذا لم يقتل ، قول النبي صلى الله عليه وسلم { : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ; كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير حق . } فأما " أو " فقد قال ابن عباس مثل قولنا ، فإما أن يكون توقيفا ، أو لغة ، وأيهما كان ، فهو حجة ، يدل عليه أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ ، وعرف القرآن فيما أريد به التخيير البداية بالأخف ، ككفارة اليمين ، وما أريد به الترتيب بدئ فيه بالأغلظ فالأغلظ ، ككفارة الظهار والقتل ، ويدل عليه أيضا ، أن العقوبات تختلف باختلاف الأجرام ، ولذلك اختلف حكم الزاني والقاذف والسارق ، وقد سووا بينهم مع [ ص: 126 ] اختلاف جناياتهم ، وهذا يرد على مالك ، فإنه إنما اعتبر الجلد والرأي دون الجنايات ، وهو مخالف للأصول التي ذكرناها .

                                                                                                                                            وأما قول أبي حنيفة : فلا يصح ; لأن القتل لو وجب لحق الله تعالى ، لم يخير الإمام فيه ، كقطع السارق ، وكما لو انفرد بأخذ المال ; ولأن الحدود لله تعالى إذا كان فيها قتل ، سقط ما دونه ، كما لو سرق وزنى وهو محصن . وقد روي عن ابن عباس ، قال : { وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا برزة الأسلمي ، فجاء ناس يريدون الإسلام ، فقطع عليهم أصحابه ، فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم ، أن من قتل وأخذ المال قتل وصلب ، ومن قتل ولم يأخذ المال ، قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل ، قطعت يده ورجله من خلاف } . وقيل : إنه رواه أبو داود . وهذا كالمسند ، وهو نص . فإذا ثبت هذا ، فإن قاطع الطريق لا يخلو من أحوال خمس

                                                                                                                                            الأولى : إذا قتل وأخذ المال ، فإنه يقتل ويصلب ، في ظاهر المذهب ، وقتله متحتم لا يدخله عفو . أجمع على هذا كل أهل العلم . قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم . روي ذلك عن عمر . وبه قال سليمان بن موسى ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وأصحاب الرأي . ولأنه حد من حدود الله تعالى ، فلم يسقط بالعفو ، كسائر الحدود . وهل يعتبر التكافؤ بين القاتل والمقتول ؟ فيه روايتان ; إحداهما : لا يعتبر ، بل يؤخذ الحر بالعبد ، والمسلم بالذمي ، والأب بالابن ; لأن هذا القتل حد لله تعالى ، فلا تعتبر فيه المكافأة ، كالزنا والسرقة .

                                                                                                                                            والثانية : تعتبر المكافأة ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يقتل مسلم بكافر } . والحد فيه انحتامه ; بدليل أنه لو تاب قبل القدرة عليه ، سقط الانحتام ، ولم يسقط القصاص . فعلى هذه الرواية ، إذا قتل المسلم ذميا ، أو الحر عبدا ، أو أخذ ماله ، قطعت يده ورجله من خلاف ، لأخذه المال ، وغرم دية الذمي وقيمة العبد ، وإن قتله ولم يأخذ مالا غرم ديته ونفي . وذكر القاضي أنه إنما يتحتم قتله إذا قتله ليأخذ المال ، وإن قتله لغير ذلك ، مثل أن يقصد قتله لعداوة بينهما ، فالواجب قصاص غير متحتم ، وإذا قتل صلب ; لقول الله تعالى : { أو يصلبوا } . والكلام فيه في ثلاثة أمور ; أحدها : في وقته ، ووقته بعد القتل . وبهذا قال الشافعي . وقال الأوزاعي ، ومالك ، والليث ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف : يصلب حيا ، ثم يقتل مصلوبا ، يطعن بالحربة ; لأن الصلب عقوبة ، وإنما يعاقب الحي لا الميت ; ولأنه جزاء على المحاربة ، فيشرع في الحياة كسائر الأجزية ; ولأن الصلب بعد قتله يمنع تكفينه ودفنه ، فلا يجوز .

                                                                                                                                            ولنا أن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظا ، والترتيب بينهما ثابت بغير خلاف ، فيجب تقديم الأول في اللفظ كقوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ولأن القتل إذا أطلق في لسان الشرع ، كان قتلا بالسيف . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { : إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتل } . وأحسن القتل هو القتل [ ص: 127 ] بالسيف ، وفي صلبه حيا تعذيب له ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان . وقولهم : إنه جزاء على المحاربة . قلنا : لو شرع لردعه ، لسقط بقتله ، كما يسقط سائر الحدود مع القتل وإنما شرع الصلب ردعا لغيره ، ليشتهر أمره ، وهذا يحصل بصلبه بعد قتله . وقولهم : يمنع تكفينه ودفنه . قلنا : هذا لازم لهم ; لأنهم يتركونه بعد قتله مصلوبا . الثاني : في قدره ولا توقيت فيه ، إلا قدر ما يشتهر أمره .

                                                                                                                                            قال أبو بكر : لم يوقت أحمد في الصلب ، فأقول : يصلب قدر ما يقع عليه الاسم . والصحيح توقيته بما ذكر الخرقي من الشهرة ; لأن المقصود يحصل به . وقال الشافعي : يصلب ثلاثا . وهو مذهب أبي حنيفة . وهذا توقيت بغير توقيف ، فلا يجوز ، مع أنه في الظاهر يفضي إلى تغيره ، ونتنه ، وأذى المسلمين برائحته ونظره ، ويمنع تغسيله وتكفينه ودفنه ، فلا يجوز بغير دليل . الثالث : في وجوبه ، وهذا واجب حتم في حق من قتل وأخذ المال ، لا يسقط بعفو ولا غيره . وقال أصحاب الرأي : إن شاء الإمام صلب ، وإن شاء لم يصلب . ولنا حديث ابن عباس ، أن جبريل نزل بأن من قتل وأخذ المال صلب . ولأنه شرع حدا ، فلم يتخير بين فعله وتركه ، كالقتل وسائر الحدود . إذا ثبت هذا ، فإنه إذا اشتهر أنزل ، ودفع إلى أهله ، فيغسل ، ويكفن ، ويصلى عليه ، ويدفن .

                                                                                                                                            ( 7323 ) " فصل : وإن مات قبل قتله ، لم يصلب ; لأن الصلب من تمام الحد ، وقد فات الحد بموته ، فيسقط ما هو من تتمته .

                                                                                                                                            وإن قتل في المحاربة بمثقل قتل ، كما لو قتل بمحدد لأنهما سواء في وجوب القصاص بهما . وإن قتل بآلة لا يجب القصاص بالقتل بها ، كالسوط والعصا والحجر الصغير ، فظاهر كلام الخرقي ، أنهم يقتلون أيضا ; لأنهم دخلوا في العموم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية