الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مثل التالي ولا يعلم التفسير

مثل التالي كتاب الله تعالى ولا يعلم تفسيره كمثل ملك كتب إلى عامله كتابا فيه أمر ونهي ووعد ووعيد على تضييع أمره فاستظهره هذا العامل فقام ببعضه في الأمور التي أوعد عليها وضيع البعض التي وعد عليها فأخذ هذا العامل في كل يوم يقرأ هذا الكتاب وكلما أتى على وعيد وتهول على النفس طرب فيه ورفع صوته كأنه يتغنى بأغاني السرور وكلما أتى على طمع ونوال وبشرى وكرامة ذبل وتكاسل وربما يتثاءب في [ ص: 67 ] قراءته فقرأه على تلك الهيئة كالمصروع والمجنون فإنه في القرآن أمر ونهي ووعد ووعيد وذكر أنباء القرون للطمع والتخويف وضرب الأمثال وذكر الآلاء وذكر المنن واللطائف فإذا لم يعلم هذا كله ورضي من نفسه بالقراءة فقط فكأنه العامل يقرأ كل يوم كتاب الملك ويترك ما فيه من المعاني بمنزلة رجل يسلك طريقا قفرا يستقبله عقاب يحتاج إلى قطعها وهو أثقال الصدق في أمره ونهيه ومرة يستقبله مفاوز وهو وعيده ومرة يستقبله فلاة معطشة ومجاعة وهي منازل قوم وصفها في تنزيله ومدحهم بها ومرة يستقبله فضاء من الأرض فيها رياض من خضر وهي ذكر النعم ومرة يستقبله في تلك الأرض بساتين ذات ورد وبان وياسمين وهو ذكر المنن ومرة يهجم على أغراس في تلك البساتين وهي تلك الحظوظ التي هيأ له من آلائه وتلك اللطائف المذكورة ومرة تستقبله أرض شاكة مسبعة وهي ذكر النفوس ومكايد الشيطان

[ ص: 68 ] فهذا القرآن كائن فيه هذه الألوان فمن قرأ القرآن لظهره مرت عليه هذه الأشياء ومر بها وهو عنها سكران أو نائم فيطرب ويظهر السرور في وقت الأحزان والانكسار ويرفع صوته في وقت الخفض والخشوع وينشط في حال الانقباض ويتحازن في وقت السرور والبهجة مثل من يقرأ القرآن بألحان

فمثل ذلك مثل ملك أمر المنادي أن ينادي في الرعية بوعيد هائل يكاد أن تشيب منه الرءوس فنادى بنداء طرب فيه وتغنى وجاء .بألحان السرور أفليس يمقته الملك على ذلك ويغيظه

ولو أن رجلا تلا هذه الآية واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله أو تلا هذه الآية فوربك لنسألنهم أجمعين أو تلا إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ثم قال في آخر ذلك ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون فهو يرى نفسه في [ ص: 69 ] الفرح والمرح إلى قرنه وقدمه فرجع بقراءة هذه الآيات وطرب وجاء بألحان السرور

ثم قرأ وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم فأخذ يتحازن ويخفض في صوته وترجيعه ويئن فيها ويخرج صوته أصوات الثكالى وإذا قرأ قوله تعالى يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية يغني في صوته ولحنه وأرسل كل صوت كالمتنشط المسرور

وإذا قرأ صفة الجود هل جزاء الإحسان إلا الإحسان تمثل في تلاوته كهيئة أهل المصائب وذبل وانكسر

فلو أن عبدا من عبيد أهل الدنيا بشره مولاه بشيء أو أمله نوالا أو أطمعه في بشرى انقبض وعبس وجهه أو إذا أوعده أو وبخه في شيء انبسط وضحك في وجهه لمقته ولو أن [ ص: 70 ] رجلا قال في مولاه سوءا فلفظ به العبد على الجهر والتصريح لمقته فإذا تلا التالي تلك المقالات التي حكى الله تعالى عن أعدائه من الفراعنة جهر بها وطرب بها خيف عليه المقت

قراءة السلف

وروي عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه كان إذا مر بقوله وقالوا اتخذ الله ولدا خفض صوته

وروي عن بعض التابعين أنه قرأ سورة الفرقان أربعين ليلة فكان كل ليلة إذا بلغ إلى قوله قالوا وما الرحمن سقط مغشيا عليه فتعاهدوا ذلك أربعين ليلة كلما بلغ هذه الآية سقط ولم يقدر أن يجاوزها

هكذا صفة المنتبه لما يتلو فمن اتبع لتلاوته وقراءته لبطنه فإذا أتى على مثل هذه الآية انقطع صوته وتراجع في حلقه وإذا أتى على العقاب أعيا وإذا قطع المفاوز عطش ونصب وإذا قطع البساتين والرياض طرب وإذا طعم الأغراس سكر لأن الأشربة الصافية الصرفة كائنة في الأغراس [ ص: 71 ] فذلك وقت الوله إلى الله تعالى ولهت قلوبهم عن كل شيء سواه وإذا أتى على أرض شاكة أن وضاق عليه الطريق وإذا أتى على أرض مسبعة أرعد خوفا وإذا أتى على بلاء العدو تحير واستغاث وصرخ إلى ربه فهذه أحوال كائنة في قلوب المنتبهين الذين قرءوا القرآن لباطنه فتحولت قلوبهم على تحول معاني ما يتلون وربما هالهم في تلك الفلاة لا يحطون في تلك المواضع أثقالهم فإذا نزلوا استراحوا وذلك لطف من الله تعالى يلطف به عبده لما يرى مما حل بقلبه من النصب والتعب في قطع هذا الطريق على ما وصفنا ففتح له في بعض تلك الآيات ويشرق على قلبه من نوره فيردد تلك الآيات فربما بقي في تلك الآيات ساعات لما يتراءى له فيها فذاك مستراح قلبه وفي ذلك الوقت يحط رحله ويحل بفنائه حتى يقوى في التوراة

وروي عن مالك بن دينار رحمه الله قال قرأت في التوراة لا تعجزن أن تقوم في صلاتك بين يدي باكيا فإني أنا الله الذي اقتربت لقلبك وبالغيب رأيت نوري فهذه خانات ومنازل [ ص: 72 ] أولئك القوم تهيأ لهم نزلا من النور حتى تتراءى لهم معاني تلك الآيات وبواطنها فيتلذذون بها ويستريحون من التعب الذي لحقهم فيما تلوا قبل ذلك وإنما مروا بتلك الآيات بعد ذلك مرة أخرى فلم يصبهم تعب ولا نصب كما كان قبل ذلك فطمعوا في حط الرحال لما كانوا وجدوه قبل ذلك فداروا عليها ورددوها يريدون حط الرحال من غير إعياء واستراحة من غير نصب يطمعون في إشراق ذلك النور تلذذا بفناء الملك الكريم فيجدون تلك الخانات لم تهيأ لهم نزلا إنما هي أواري خالية وبيوت صفر فيرتحلون ويمضون وإذا هيئ النزل فقد وجدوا ما طلبوا فإذا رددوها تراءى للقلب شعاع ذلك فالتهب النور وتصورت تلك المعاني المندرجة فيه على قلبه فصار طربا في سمعه فأعلمه .وأبكاه

فإذا لم يعلم هذا كله ورضي من نفسه بالقراءة فقط فكان كعامل يقرأ كل يوم كتاب الملك ويترك ما فيه من المعاني

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما أنزل الله [ ص: 73 ] تعالى كتابا إلا أحب أن يعلم تفسيره فمن قرأ القرآن ولم يعلم تفسيره فهو أمي

وقال سعيد بن جبير رحمه الله مثل من قرأ القرآن ولم يعلم تفسيره كمثل رجل جاءه كتاب من أعز الناس إليه يفرح به ويطلب من يقرؤه عليه فلم يجد وهو أمي ففرح بالكتاب ولا يدري ما فيه فهكذا مثل من يقرأ القرآن ولا يعلم تفسيره وما فيه

التالي السابق


الخدمات العلمية