الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 411 ] فصل التوحيد

قال صاحب المنازل : ( باب التوحيد ) قال الله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم التوحيد : تنزيه الله عز وجل عن الحدث ، وإنما نطق العلماء بما نطقوا به ، وأشار المحققون بما أشاروا به في هذا الطريق : لقصد تصحيح التوحيد ، وما سواه من حال أو مقام ؛ فكله مصحوب بالعلل .

قلت : التوحيد أول دعوة الرسل ، وأول منازل الطريق ، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تعالى : قال تعالى : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال هود لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال صالح لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال شعيب لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت .

فالتوحيد : مفتاح دعوة الرسل ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرسوله معاذ بن جبل - رضي الله عنه - وقد بعثه إلى اليمن - إنك تأتي قوما أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه : عبادة الله وحده ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة وذكر الحديث وقال - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ولهذا [ ص: 412 ] كان الصحيح : أن أول واجب يجب على المكلف : شهادة أن لا إله إلا الله ، لا النظر ، ولا القصد إلى النظر ، ولا الشك - كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم .

فالتوحيد : أول ما يدخل به في الإسلام ، وآخر ما يخرج به من الدنيا ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من كان آخر كلامه : لا إله إلا الله ؛ دخل الجنة ، فهو أول واجب ، وآخر واجب ، فالتوحيد : أول الأمر وآخره .

قوله : " التوحيد : تنزيه الله عن الحدث " ، هذا الحد لا يدل على التوحيد الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه ، وينجو به العبد من النار ، ويدخل به الجنة ، ويخرج من الشرك ، فإنه مشترك بين جميع الفرق ، وكل من أقر بوجود الخالق سبحانه أقر به ، فعباد الأصنام ، والمجوس ، والنصارى ، واليهود ، والمشركون - على اختلاف نحلهم - كلهم ينزهون الله عن الحدث ، ويثبتون قدمه ، حتى أعظم الطوائف على الإطلاق شركا ، وكفرا وإلحادا ، وهم طائفة الاتحادية ، فإنهم يقولون : هو الوجود المطلق ، وهو قديم لم يزل ، وهو منزه عن الحدث ، ولم تزل المحدثات تكتسي وجوده ، تلبسه وتخلعه .

والفلاسفة - الذين هم أبعد الخلق عن الشرائع وما جاءت به الأنبياء - يثبتون واجب الوجود قديما منزها عن الحدث .

والمشركون - عباد الأصنام الذين يعبدون معه آلهة أخرى - يثبتون قديما منزها عن الحدث .

فالتنزيه عن الحدث حق ، ولكن لا يعطي إسلاما ولا إيمانا ، ولا يدخل في شرائع الأنبياء ، ولا يخرج من نحل أهل الكفر ومللهم البتة ، وهذا القدر لا يخفى على شيخ الإسلام ، ومحله من العلم والمعرفة محله .

ومع هذا فقد سئل سيد الطائفة الجنيد عن التوحيد ؟ فقال : هو إفراد القديم عن المحدث ، و الجنيد أشار إلى أنه لا تصح دعوى التوحيد ، ولا مقامه ولا حاله ، ولا [ ص: 413 ] يكون العبد موحدا إلا إذا أفرد القديم عن المحدث ، فإن كثيرا ممن ادعى التوحيد لم يفرده سبحانه من المحدثات ، فإن من نفى مباينته لخلقه فوق سماواته على عرشه ، وجعله في كل مكان بذاته ، لم يفرده عن المحدث ، بل جعله حالا في المحدثات مخالفا لها ، موجودا فيها بذاته ، وصوفية هؤلاء وعبادهم هم الحلولية ، الذين يقولون : إن الله - عز وجل - يحل بذاته في المخلوقات ، وهم طائفتان : طائفة تعمم الموجودات بحلوله فيها ، وطائفة تخص به بعضها دون بعض .

قال الأشعري في كتاب المقالات : هذه حكاية قول قوم من النساك ، وفي الأمة قوم ينتحلون النسك ، يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام ، وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا : لا ندري ! لعله ربنا .

قلت : وهذه الفرقة طائفتان ، إحداهما : تزعم أنه سبحانه يحل في الصورة الجميلة المستحسنة ، والثانية : تزعم أنه سبحانه يحل في الكمل من الناس ، وهم الذين تجردت نفوسهم عن الشهوات ، واتصفوا بالفضائل ، وتنزهوا عن الرذائل ، والنصارى تزعم أنه حل في بدن المسيح وتدرع به ، والاتحادية تزعم أنه وجود مطلق اكتسته الماهيات ، فهو عين وجودها .

فكل هؤلاء لم يفردوا القديم عن المحدث .

التالي السابق


الخدمات العلمية