الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : ذكر الأخبار الواردة في العزلة .

وقد جاء في مدح العزلة عدة أخبار ، عن النبي المختار ، وجملة آثار ، عن السلف الأخيار ، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال { : قال رجل أي الناس أفضل يا رسول الله ؟ قال مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله . قال ثم من ؟ قال : رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه } - وفي رواية لهما { - يتقي الله ويدع الناس من شره } . ورواه الحاكم بإسناد على شرطهما بلفظ { أي المؤمنين أكمل إيمانا ؟ قال : مؤمن يجاهد بنفسه وماله ، ورجل يعبد ربه في شعب من الشعاب وقد كفى الناس شره } .

وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد قال { : كان سعد بن أبي وقاص في إبله ، فجاءه ابنه عمر فلما رآه سعد قال : أعوذ بالله من شر هذا الراكب ، فنزل فقال له : أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك ، فضربه سعد في صدره وقال : اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي } . قال الحافظ المنذري : أي الغني النفس القنوع .

وروى الإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان واللفظ له عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من جاهد في سبيل الله كان ضامنا على الله ، ومن عاد مريضا كان ضامنا على الله ، ومن دخل على إمام يعزره كان ضامنا على الله ، ومن جلس في بيته لم يغتب إنسانا كان ضامنا على الله } وعند الطبراني { أو قعد في بيته فسلم الناس منه وسلم هو من الناس } وهو عند أبي داود بنحوه . ورواه الطبراني أيضا في الأوسط من حديث عائشة رضي الله عنها ولفظه : قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { خصال ست ما من مسلم [ ص: 463 ] يموت في واحدة منهن إلا كان ضامنا على الله أن يدخله الجنة ، فذكر منها ورجل في بيته لا يغتاب المسلمين ولا يجر إليهم سخطا ولا نقمة } .

وروى أيضا في الأوسط والصغير وحسن إسناده عن ثوبان قال : رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { طوبى لمن ملك لسانه ، ووسعه بيته ، وبكى على خطيئته } . والترمذي وحسنه وابن أبي الدنيا والبيهقي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال { قلت يا رسول الله ما النجاة ؟ قال أمسك عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك } .

وروى الطبراني أيضا بإسناد مقارب عن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعا { من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنه ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها } . ورواه أبو الشيخ في الثواب وله شواهد .

وأما حديث { السلامة في العزلة } فهو وإن كان معناه صحيحا فليس بحديث . نعم قال السخاوي : أسند الديلمي معناه مسلسلا عن أبي موسى رفعه { سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته } ثم ساق قول أبي حيان رحمه الله تعالى :

أرحت نفسي من الإيناس بالناس لما غنيت عن الأكياس باليأس     وصرت في البيت وحدي لا أرى أحدا
بنات فكري وكتبي هن جلاسي

وقال سيدنا عمر رضي الله عنه : خذوا حظكم من العزلة .

قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : والله لوددت أن بيني وبين الناس بابا من حديد لا يكلمني أحد ولا أكلمه حتى ألحق بالله عز وجل . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لولا مخافة الوسواس لدخلت إلى بلاد لا أنيس بها ، وهل يفسد الناس إلا الناس .

وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين : العزلة عبادة وقال عمر بن عبد العزيز : إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت ويهرب من الناس فاقتربوا منه فإنه يلقي الحكمة .

وأوصى داود الطائي : فر من الناس كما تفر من الأسد [ ص: 464 ] وأوصى سفيان الثوري رحمه الله تعالى بعض أصحابه فقال : إن استطعت أن لا تخالط في زمانك هذا أحدا فافعل ، وليكن همك مرمة جهازك ، وكان يقول هذا زمان السكوت ولزوم البيت .

وقد كان سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه يحب الانفراد والعزلة من الناس ، وكذلك إبراهيم بن أدهم ، وسليمان الخواص ، ويوسف بن أسباط في خلق كثير من الخواص .

التالي السابق


الخدمات العلمية