الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 585 ] ومن حصل شروط الاجتهاد في مسألة ، فهو مجتهد فيها وإن جهل حكم غيرها . ومنعه قوم لجواز تعلق بعض مداركها بما يجهله ، وأصله الخلاف في تجزؤ الاجتهاد .

                ولنا : قول كثير من السلف الصحابة وغيرهم : لا أدري ، حتى قاله مالك في ست وثلاثين مسألة من ثمان وأربعين .

                قالوا : لتعارض الأدلة .

                قلنا : ( لا أدري ) أعم من ذلك ، والأصل عدم العلم .

                ولا يشترط عدالته في اجتهاده بل في قبول فتياه وخبره .

                التالي السابق


                قوله : " ومن حصل شروط الاجتهاد في مسألة ، فهو مجتهد فيها وإن جهل حكم غيرها ، ومنعه قوم " ، إلى آخره .

                يعني : أن هذه الشروط المذكورة كلها إنما تشترط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع ، كالأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - ونحوهم . أما من أفتى في فن واحد ، أو في مسألة واحدة ، وجد فيه شروط الاجتهاد بالنسبة إلى ذلك الفن ، أو تلك المسألة ، فلا يشترط له ذلك ، وجاز له أن يجتهد فيما حصل شروط الاجتهاد فيه ، كمن عرف أصول الفرائض والحساب وهو فقيه النفس فيها عارفا بمعانيها جاز له أن يجتهد في مسألة المشركة ، ومسائل المناسخات والجد ، والمفقود ونحو ذلك ، وإن لم يكن له معرفة بمسائل البيع ، والنكاح ، والأخبار الواردة فيها ، ونحوها من مسائل الفروع .

                ومنع ذلك قوم من الأصوليين ، فقالوا : لا يجتهد في مسألة إلا من حصل [ ص: 586 ] شروط الاجتهاد المطلق " لجواز تعلق " مدارك تلك المسألة " بما يجهله " ، فإن العلوم والفنون والمسائل يمد بعضها بعضا ، ويبرهن في بعضها على بعض ، فمن جهل فنا ، نقص عليه مادة فن آخر . ولهذا تزيد مادة العلم في فن بتحصيله فنا آخر ، فإذا عرف الكلام والمنطق ونحو ذلك من المعقولات ، ظهر أثر ذلك في صحة تصوره للحقائق ، وتقريره للأدلة وتركيبه للأقيسة ، وإذا عرف الحساب والهندسة ، ظهر أثر ذلك في مهارته في الفرائض والوصايا ، واستخراج المجهولات ، وعلى هذا فقس . وإذا جاز تعلق بعض مدارك المسألة بما يجهله من المسألة لم يكن مجتهدا فيها مطلقا ، فلا يجوز له الاجتهاد .

                قوله : " وأصله الخلاف في تجزؤ الاجتهاد " . يعني أن أصل هذا النزاع هو الخلاف في أن منصب الاجتهاد هل يصح أن يتجزأ بمعنى : أن ينال العالم رتبة الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض ؟ وقد أجازه الغزالي وغيره ، وهو الحق ، ومسألة النزاع وأصلها هذا المذكور واحد عند التحقيق .

                قوله : " لنا " ، إلى آخره . هذا هو الدليل على تجزؤ الاجتهاد ، وتقريره : أن كثيرا من أئمة السلف الصحابة وغيرهم كانوا يسألون عن بعض مسائل الأحكام ، فيقولون : لا ندري ، " حتى قاله مالك - رضي الله عنه - " ، أي : قال : لا أدري " في ست وثلاثين مسألة من ثمان وأربعين " ، يعني أنه سئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فقال في ست وثلاثين منها : لا أدري ، وقد توقف الشافعي وأحمد - رضي الله عنهما - بل الصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - [ ص: 587 ] في الفتاوى كثيرا ، فلو كان الاجتهاد المطلق في جميع الأحكام ، شرطا في الاجتهاد في كل مسألة على حدتها ؛ لما كان هؤلاء الأئمة مجتهدين ، لكنه خلاف الإجماع ، فدل على أن ذلك لا يشترط .

                قوله : " قالوا : لتعارض الأدلة ، قلنا : ( لا أدري ) أعم من ذلك ، والأصل عدم العلم " هذا سؤال من المانعين لتجزؤ الاجتهاد .

                وتقريره : أنا لا نسلم أن قول مالك وغيره : لا أدري ، كان لعدم آلة الاجتهاد فيما سئلوا عنه ، وإنما كان ذلك لتعارض الأدلة عندهم ، وذلك لا يقدح في كونهم مجتهدين ، إذ شأن المجتهد الجواب تارة ، والتوقف أخرى ، بحسب ظهور الدليل وخفائه . وحينئذ ما اجتهد منهم في آحاد المسائل إلا مجتهد مطلق باجتهاد كلي لا جزئي . وحينئذ لا يصح دليلكم على تجزؤ الاجتهاد .

                وتقريره الجواب من وجهين :

                أحدهما : أن قول الواحد منهم : لا أدري ؛ أعم من أن يكون لتعارض الأدلة في تلك المسألة ، أو لعدم اجتهاده فيها ، فحمله على أحدهما لا دليل عليه ، إذ هو أمر خفي لا يعرف إلا من جهة ذلك الإمام المفتي ، ولم يوجد منه إخبار به .

                والوجه الثاني : أن الأصل عدم علم ذلك الإمام بحكم تلك المسألة ، فيستصحب فيه الحال ، ويحمل على أنه إنما وقف في الجواب لعدم علمه به ، فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل .

                [ ص: 588 ] قوله : " ولا يشترط عدالته في اجتهاده ، بل في قبول فتياه وخبره " .

                أي : لا يشترط عدالة المجتهد في كونه مجتهدا ، لأن تصور الأحكام ، واقتناصها بالأدلة يصح من العدل والفاسق ، بل والكافر . ولهذا اجتهد الكفار في مللهم ، وصنفوا فيها الدواوين ، وإنما تشترط عدالته لقبول فتياه ، وإخباره أن هذا حكم الله - عز وجل - وأن الدليل الشرعي دل عليه .

                وفائدة هذا التفصيل : أن الفاسق له أن يجتهد في الحكم ، ويأخذ به لنفسه ، أي : يعمل به ، ولا يلزم غيره العمل باجتهاده وقبول خبره فيها بدون العدالة ، فلو أدى الفاسق اجتهاده إلى أن ما دون القلتين لا ينجس إلا بالتغيير ، لزمه استعماله إذا كان لم يجد غيره للصلاة ، ولا يلزم ذلك غيره ممن لا اجتهاد له ، ويعدل إلى التيمم . وهذه تشبه ما سبق في اعتبار الفاسق في الإجماع ، وأن إجماعه معتبر في حق نفسه ، دون غيره .




                الخدمات العلمية